تقوم الولايات المتحدة بمراجعة ذاتيّة للحرب على أفغانستان. فالحرب كلّفتها ماليّاً ألفيْ مليار دولار (2 تريليون)، وكلّفتها بشريّاً 20.454 قتيلاً. كان سقوط أفغانستان بيد طالبان أسوأ سياسياً من سقوط سايغون بيد قوات الفيتكونغ. كان الجيش الفيتنامي جيشاً نظامياً مدرّباً ومسلّحاً. وكان عدد أفراده أكبر أربع مرّات من عدد قوات طالبان الضعيفة التدريب والبدائية التسلّح.
لم يكن عدد قوات طالبان يزيد على 60 ألف مقاتل. بالمقابل، يتألّف الجيش الأفغاني، الذي أعدّته الولايات المتحدة تدريباً وتسليحاً وتمويلاً، من 352 ألف رجل. إضافة الى ذلك، كانت إلى جانبه القوات الأميركية وقوات دول حلف شمال الأطلسي الداعمة له.
تُصنَّف أفغانستان على أنّها واحدة من أفقر دول العالم. وهي في حالة حرب ضد قوى خارجية منذ 20 عاماً، خسرت خلالها 117 ألف قتيل. أمّا الحرب ضدّ الاتحاد السوفياتي السابق فإنّ لها حسابات أخرى
عندما خرجت (أو أُخرِجت) القوات الأميركية من كابول، تسلّمت حركة طالبان السلطة في طول البلاد وعرضها من دون أن تطلق رصاصة واحدة. وتزيد مساحة أفغانستان أربع مرّات على مساحة فيتنام الجنوبية التي اُضطُرّت القوات الأميركية للانسحاب منها بالطريقة ذاتها في عام 1975. شكّل ذلك السقوط نقطة تحوّل أساسية في مقاربة الولايات المتحدة لقضايا الشرق الأقصى. فأيّ تحوّل سيطرأ على الاستراتيجية الأميركية في المنطقة الممتدّة من باكستان (شرق أفغانستان)، وشمالاً حتى دول آسيا الوسطى، وجنوباً حتى بحر العرب؟
ليست طالبان جديدة على ممارسة الحكم. سبق لها أن حكمت أفغانستان خلال الفترة من عام 1996 حتى عام 2001، عندما ارتكب تنظيم القاعدة جريمتيْ واشنطن ونيويورك في 11 أيلول، واتّهمت الولايات المتحدة حركة طالبان بإيواء التنظيم بزعامة ابن لادن. وهي تهمة قامت على أساس رفض طالبان اعتقال ابن لادن وتسليمه للقوات الأميركية.
فهمت واشنطن هذا الموقف خطأً، ونفّذت بناءً على ذلك الاجتياح. وتمثّل الخطأ في أنّ طالبان المتمسّكة بالتقاليد القبلية والعشائرية المتداخلة مع بعض المفاهيم الدينية المتوارثة والمتشدّدة، لم تسمح لنفسها اعتقال شخص لجأ إليها، ومنحته حقّ اللجوء والحماية الشرعيّة. وما لها أن تتنكّر لالتزامها الديني – الأخلاقي، وتسلّم ابن لادن إلى دولة غير إسلامية لمعاقبته بالقتل. فهي لو فعلت ذلك لفقدت صدقيّتها في مجتمع يؤمن بهذه المفاهيم القبلية المغلّفة بغطاء ديني.
وتجدّد هذا الخطأ الأميركي عندما امتنع الجيش الأفغاني، الذي أنفقت الدولة الأميركية المليارات من الدولارات على تكوينه وتدريبه وتسليحه، عن أن يُطلق رصاصة واحدة ضدّ قوات طالبان التي دخلت كابول كأنّها في نزهة استعراضية!!
السؤال الآخر هو: ماذا بعد؟
ستبقى علامة الاستفهام هذه في حالة تضخّم داخل أفغانستان. وكذلك داخل الولايات المتحدة وبقيّة دول حلف شمال الأطلسي. ذلك أنّ ما بعد استعادة طالبان لأفغانستان لن يكون كما قبلها.
عملت أفغانستان (طالبان) بمبدأ “صن تزو”. وهكذا وقف الجيش الأفغاني النظامي الذي كان يضمّ 352 ألف رجل، مكتوف الأيدي أمام 60 ألف مقاتل طالبانيّ، من دون إطلاق رصاصة واحدة
من مؤشّرات ذلك اهتزاز الثقة الأوروبية بالولايات المتحدة وعدم الاعتماد عليها. ولعلّ مشاعر العديد من الدول الأخرى في شرق آسيا تتجاوز اهتزاز الثقة إلى اهتزاز التحالف.
تُصنَّف أفغانستان على أنّها واحدة من أفقر دول العالم. وهي في حالة حرب ضد قوى خارجية منذ 20 عاماً، خسرت خلالها 117 ألف قتيل. أمّا الحرب ضدّ الاتحاد السوفياتي السابق فإنّ لها حسابات أخرى.
عملت أفغانستان (طالبان) بمبدأ “صن تزو”. وهكذا وقف الجيش الأفغاني النظامي الذي كان يضمّ 352 ألف رجل، مكتوف الأيدي أمام 60 ألف مقاتل طالبانيّ، من دون إطلاق رصاصة واحدة.
بدأت الولايات المتحدة اجتياح أفغانستان بقوّة مؤلّفة من مئة ألف رجل (عام 2001). ومع تشكيل الجيش الأفغاني تحت المظلّة الأميركية، خفّضت واشنطن قواتها تدريجياً حتى وصلت إلى عشرة آلاف رجل فقط، إضافة إلى عدد مماثل من قوات دول حلف الأطلسي. لم تتمكّن هذه القوات من التصدّي لطالبان لأنّ ذلك لم يكن في مخطّطها. كان المخطّط أن تقوم بالمهمّة القوات الأفغانية التي عملت على إعدادها. إلا أنّ هذه القوات أحجمت عن ذلك، خاصة بعدما غادر رئيس الدولة العاصمة سرّاً إلى إمارة دبي.
عندما اضطرّ الاتحاد السوفياتي (السابق) إلى الانسحاب من أفغانستان في عام 1989، ترك وراءه سلطة تابعة استمرّت مدة ثلاث سنوات من بعده. ولم تسقط تلك السلطة إلا مع سقوط الاتحاد السوفياتي نفسه. لكنّ ما حدث مع الانسحاب الأميركي يختلف تماماً. فالسلطة التي شكّلها الأميركيون لم تبقَ حتى تتمكّن القوات الأميركية (والأطلسية) من الانسحاب عبر مطار كابول. جرى الانسحاب في ظلّ سيطرة طالبان على العاصمة في 15 آب الماضي، على الرغم من المليارات من الدولارات التي أُنفِقت على تكوين وتدريب وتجهيز القوات الأفغانية.
والسؤال الآن هو: أفغانستان الدولة والمجتمع إلى أين؟
من المصادفات أنّ الرئيس الأفغاني السابق أشرف غني، الذي كان أوّل مسؤول يغادر العاصمة سرّاً بعدما أدرك حتميّة سقوط كابول بيد طالبان، هو مؤلّف كتاب في العلوم السياسية عنوانه: “إصلاح الدول الفاشلة Fixing Failed States”. ويبدو أنّ نظريّته في الإصلاح، التي اكتسبها من عمله السابق في البنك الدولي بواشنطن، لا تصلح في أفغانستان، أو لعلّه لم يتمكّن من تطبيقها في بلاده، حيث يقوم المجتمع على القبلية والعشائرية الموغلة في مفاهيم اجتماعية متنقّلة تستمدّ قوّتها من نسبها إلى الدين.
إقرأ أيضاً: أفغانستان: طالبان قوّة جاذبة لمسلمي الصين وروسيا..
يؤكّد تقرير للأمم المتحدة أنّ تنظيم القاعدة لا يزال يسيطر على 14 مقاطعة من أصل 34 مقاطعة تتألّف منها أفغانستان. ولأنّ طالبان ليست القاعدة، فإنّ احتمالات الصدام بين الحركتين تضع أفغانستان على شفا حرب أهليّة.
ولعلّ من مقتضيات لعبة الأمم الجديدة في المنطقة إشعال هذه الحرب لإشغال الطرفين، طالبان والقاعدة، ببعضهما، واستنزاف قواهما المحليّة، وصرفهما عن العمليّات الخارجيّة.
أمّا الشعب الأفغاني الذي يدفع الثمن فلا أحد يكترث لمصيره.