أحدثت عملية 11 أيلول الإرهابية هزّة عالمية كبيرة، وخاصة في العالمين العربي والإسلامي، إذ كان كلّ مرتكبي الجرم من العالم العربي، وقاموا به باسم الإسلام. وبذلك أصبح العالمان العربي والإسلامي محطّ اتّهام بالإرهاب والهمجية والدموية. وبدأ انشغال الباحثين والمستشرقين بتحليل ظاهرة العنف في التاريخ الإسلامي. وحُمِّل الدين الإسلامي ذاته هذه التهم.
وبدلاً من التدبّر في الأسباب الاقتصادية أو الاجتماعية لظاهرة الإرهاب في العالمين العربي والإسلامي، فإنّ الكثير ممّن هم على معرفة أو هواية بمتابعة أخبار العالم العربي، شرعوا في التنظير وردّ العنف إلى تأصيل ديني. هذا على الرغم من أنّ الإسلام متنوّع، وله أوجه مختلفة، ويقوم على معارف ومناهج تختلف باختلاف طوائفه ومذاهبه.
بسبب الضغوطات المتوالية على الدول العربية، والتهديدات، بالتلويح وبالتصريح، بدأت الدول العربية تتّخذ تدابير في مكافحة الإرهاب والعنف السياسي والأيديولوجيات المتطرّفة. وكانت لهذه الأحداث عدّة تداعيات في عالمنا العربي
صحيح أنّ أحداث أيلول الإرهابية كان لها تأثير بليغ على “الصورة النمطية” للعربي والمسلم في الغرب، إلا أنّ هذه الصورة لم تكن إيجابية أصلاً قبل الأحداث. فقد كُتِب الكثير عن هذه المسألة في إطار الخطاب الأكاديمي والثقافة الشعبية. ويكفي أن نشير إلى كتاب الراحل الكبير إدوارد سعيد، “الاستشراق”، الذي فصّل بشكل عميق النظرة الأوروبية والأميركية المتحيّزة ضد العرب والمسلمين، بل وضد الدين الإسلامي نفسه، لدواعٍ تاريخية وجيوستراتيجية.
وعلى المنوال نفسه، سلّط الراحل جاك شاهين الضوء على التحيّز العنصري ضد العرب في الثقافة الشعبية، وخاصة في أفلام هوليوود التي عزّزت من النظرة السلبية. وكان شاهين ينسب الصورة السيّئة للعرب في الثقافة الشعبية إلى الجهل والكسل العربيين، وإلى إسرائيل ودعايتها، باعتبارها عوامل لتشويه الصورة الذهنية الملتصقة بالعرب. وتجدر الإشارة إلى أنّ شاهين ذكر في عام 1995، أي قبل أحداث أيلول بستّ سنوات، أنّ الخطر الأخضر (الإسلامي) حلّ محلّ الخطر الأحمر (الشيوعي).
لكنّ أحداث أيلول حوّلت السمعة المشوّهة للعرب والمسلمين إلى سمعة أكثر سوءاً وتشويهاً، كمّاً وكيفاً. فقد انتشرت الإسلاموفوبيا كالنار في الهشيم. وتحوّلت النظرة من عنصرية هزلية تجاه العرب والمسلمين إلى نظرة يكتنفها كثير من الرهاب المرضيّ والاعتقاد بالمؤامرات الإسلامية الشريرة ضد الغرب، كما كانت عليه النظرة المعادية للسامية قبل الحرب العالمية الثانية.
العالم العربي وإشكاليّة الأمن
بسبب الضغوطات المتوالية على الدول العربية، والتهديدات، بالتلويح وبالتصريح، بدأت الدول العربية تتّخذ تدابير في مكافحة الإرهاب والعنف السياسي والأيديولوجيات المتطرّفة. وكانت لهذه الأحداث عدّة تداعيات في عالمنا العربي. ولعلّ أهمّ وأخطر هذه النتائج هي ظاهرة الأمننة “securitization”. وهي ظاهرة تحدّث عنها منظّرو العلاقات الدولية الذين يرون أنّ صنّاع القرار يدركون كل الظواهر على أنّها مشاكل أمنيّة.
لكنّ درجة الأمننة اختلفت من قطر عربي إلى آخر تبعاً لدرجة انخراطه في العولمة. فكلّما زاد انخراط الدولة في العولمة بالمعنى الشامل زادت درجة الأمننة. وراحت هذه الدول تخشى من ظاهرة الإرهاب بشكل أكبر بسبب انخراطها في العولمة، والتأثير السلبي لظاهرة العنف السياسي والإرهاب على مجمل نشاطاتها الدولية وعلاقاتها مع دول المركز (أوروبا، الولايات المتحدة، واليابان، وشرق آسيا).
وقد ضغطت هذه الدول المتقدّمة على أقطار العالمين العربي والإسلامي من أجل التشدّد في الإجراءات الأمنيّة، ومراقبة كلّ المعاملات المالية لوقف تمويل الإرهاب، وضبط مداخل الحدود البرية والبحرية والجوية. بل إنّ بعض الدول الأكثر انخراطاً في العولمة سمحت بوجود أميركي في مطاراتها وموانئها، وبأن يخضع كلّ مَن وما يدخل الولايات المتحدة لمراقبة وزارة الأمن الداخلي الأميركية، مقابل تسهيل دخول البضائع والأفراد للولايات المتحدة.
الأدهى والأمرّ أنّ واشنطن أعلنت لهذه الدول أنّ السيادة حقّ مكتسب لا طبيعي للدول. فإذا لم تستطع هذه الدول ذات السيادة ممارسة سيادتها وقطع دابر الإرهاب فإنّ الدول المتقدّمة ستقوم بهذا الدور نيابة عنها، وبذلك تفقد أهليّتها للتمتّع بالسيادة الوطنية.
وأصبحت الريبة بكل أشكال التنظيمات والتجمّعات، سواء كانت اجتماعية أو دينية، ظاهرة من ظواهر عصر ما بعد 11 أيلول. واستغلّت بعض الأنظمة هذه الأحوال، فاستخدمت ذريعة الإرهاب للقضاء على المعارضين والممتعضين من الوضع القائم.
انكشاف العالم العربيّ أمام الهجمة الأميركيّة
على الرغم من أنّ إدارة بوش الابن جاءت وعلى أجندتها النأي بالولايات المتحدة عن مشاكل العالم، وعدم الانخراط في بناء الأمم، كما يفعل الليبراليون، إلا أنّ أحداث 11 أيلول شفطت الولايات المتحدة إلى منطقة الشرق الأوسط. هذا هو المستوى السطحي للإشكالية. أمّا في المستوى الأعمق، فيتبيّن أنّ بنية الإدارة الجديدة تخلّلها تيّاران قويّان:
– الأوّل يتمثّل بالصقور مثل ديك تشيني ودونالد رامسفيلد.
– والثاني هو تيّار المحافظين الجدد مثل بول ولفوويتز ودق فايث ولويس سكوتر ليبي وريتشارد بيرل وآخرين.
وقد رأى التياران فرصة في أحداث 11 أيلول لتنفيذ أجندتيهما في منطقة الشرق الأوسط. فرأى التيّار الأول أهمية الشرق الأوسط من حيث الطاقة، والموقع الجغرافي لتوسّطه العالم القديم، وسهولة الاستحواذ بسبب عجز النظام الإقليمي عن الذود عن حِمَاه، ولأنّ السيطرة على هذه المنطقة تعزّز هيمنة الولايات المتحدة على المنظومة الدولية.
أمّا التيار الثاني، وهو تيّار المحافظين الجدد الذين تموقعوا في مفاصل الإدارة الجديدة، فرأى في أحداث أيلول فرصة سانحة لتغيير واقع الشرق الأوسط بما يحقّق أحلامه بتعزيز موقع إسرائيل في المنطقة، وتغيير الأنظمة المعادية للمصالح الأميركية، وتمييع القضية الفلسطينية، وإنهاء التزامات أوسلو.
وقد تقدّم هؤلاء في 1998 إلى الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون بعريضة للإطاحة بالنظام العراقي وخلق مشهد استراتيجي مؤاتٍ للمصالح الاستراتيجية الأميركية. وإذا ما نظرت إلى الأسماء في تلك العريضة فستجد أنّ الكثير منها هم أعضاء في إدارة الرئيس بوش الابن ولهم حضور وازن فيها.
أصبح الغزو أمراً محتوماً بالنسبة إلى الولايات المتحدة، فكان غزو العراق، الذي بدأ معه مسلسل تحطّم العالم العربي. وعلى الرغم من أنّ واشنطن توجّهت بقضّها وقضيضها إلى المنطقة لمحاربة الإرهاب، إلا أنّ الحركات المتطرّفة بدأ يستفحل أمرها وراحت تقوى في المنطقة.
كانت رؤية المحافظين الجدد تتمثّل في احتلال العراق وتحويله على شاكلة الولايات المتحدة، ثمّ إطلاق دمقرطة العالم العربي بإنشاء ديموقراطيات علمانية تتماهى مع الولايات المتحدة. بالنسبة إليهم كانت هذه التحوّلات هي العلاج الناجع لمشكلة التطرّف والإرهاب في المنطقة، وكان ذلك هو الهدف الأوّل من الغزو.
استبدال السعودية وإنهاء فلسطين
أمّا الهدف الثاني فيبدو أنّه كان خلق بديل للمملكة العربية السعودية التي اشترك 15 رجلاً من أبنائها في اعتداءات 11 أيلول. فالسعودية بالنسبة إلى تلك الإدارة كانت “مهد الفكر الوهّابي المتطرّف”، و”يجب أن لا تتحالف معها واشنطن”. و”العراق الذي يزخر بالنفط سيكون البديل عن المملكة في خلق توازن في سوق الطاقة، كما تفعل السعودية”. إضافةً إلى ذلك، يستطيع العراق، بعكس السعودية، الدفاع عن نفسه في مواجهة إيران، وأن يلعب الدور الموازن لإيران، وأن يكون رافعةً للأمن في منطقة الخليج، كما كان شاه إيران قبل الثورة. والعراق ليست لديه مشكلة في مشاركة المرأة في الحياة العامّة، كما لدى السعودية. فالمرأة في العراق حازت حقوقاً جمّة منذ العصر الملكي، ومروراً بالعصور الجمهورية المتعاقبة.
من نتائج أحداث أيلول والحروب التي تلتها، بما فيها الحرب ضدّ الإرهاب، تفتّت النظام العربي الإقليمي. إذ سعت كلّ دولة إلى أن تحمي نفسها ممّا هو آتٍ، بدلاً من مواجهة المشروع الأميركي في المنطقة بشكل جماعي
أخيراً، أراد المحافظون الجدد خلق مشهد استراتيجي جديد في منطقة الشرق الأوسط يغيّر في ميزان القوى لمصلحة إسرائيل. وقد كتب هؤلاء المحافظون الجدد دراسة قُدِّمت إلى حكومة بنيامين نتانياهو في إسرائيل عام 1996 بعنوان “القطيعة المطلقة: استراتيجيّة جديدة لتأمين الحِمى“. ودعت تلك الدراسة إلى ضرورة قلب نظام الحكم في العراق (وهو هدف إسرائيلي استراتيجي بحدّ ذاته، كما تقول الدراسة)، وتقويض سوريا، والتملّص من التزامات أوسلو تجاه الفلسطينيين، والسعي، كما قالت الدراسة، إلى إنجاز سلام مقابل السلام وليس مقابل الأرض، بحيث يكون هذا السلام بالقوّة وليس بالتراجع عن المكتسبات التي حقّقتها إسرائيل.
هذه هي البداية لخلق شرق أوسط مؤاتٍ للمصالح الاستراتيجية الأميركية وعضد للهيمنة الأميركية وقيمها الليبرالية في العالم. وقد وجدوا ضالّتهم في أحداث أيلول التي أعطت المبرّر للغزو. وقد حاول بعضهم إلصاق تهمة 11 أيلول بالعراق. وعندما فقدوا الأمل بإيجاد دليل يورّط العراق، بدأ الحديث عن “أسلحة دمار شامل” في بلاد ما بين النهرين. وعلى الرغم من تعاون العراق التامّ مع المفتّشين الدوليين، إلا أنّ واشنطن أبت إلا أن تغزو العراق من دون تفويض واضح من مجلس الأمن. إذ رفضت فرنسا والصين وروسيا دعم الولايات المتحدة في سعيها للحصول على تفويض من الأمم المتحدة.
والخلاصة أنّ العالم العربي منذ أحداث أيلول الإرهابية دخل في أتون صراعات وحروب لا نهاية لها، وعدم استقرار مستدام. وكان البعض من الصقور والمحافظين الجدد يسمّون هذه الأحداث بـ”الفوضى الخلّاقة” أو “آلام الطلْق لمولد شرق أوسط جديد”. وقال آخر، أكثر شاعريّةً، إنّ صنع العجّة يتطلّب كسر البيض. وتكسّر العالم العربي بسبب أفكار، والصحيح أوهام، قال عنها حينئذٍ الرئيس الحالي جو بايدن إنّها “سخيفة”.
إقرأ أيضاً: 11 أيلول 2001: إيران الرابح الأكبر
ومن نتائج أحداث أيلول والحروب التي تلتها، بما فيها الحرب ضدّ الإرهاب، تفتّت النظام العربي الإقليمي. إذ سعت كلّ دولة إلى أن تحمي نفسها ممّا هو آتٍ، بدلاً من مواجهة المشروع الأميركي في المنطقة بشكل جماعي. وأصبح النظام العربي من الهشاشة بحيث يسهل اختراقه، سداحاً مداحاً. ولا يزال مخترقاً من قبل النظام العالمي والقوى الإقليمية. فإيران تلعب دوراً قويّاً في المنظومة العربية من خلال وجود فعليّ في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وتأثير على كثير من المناطق. ولا يختلف الحال مع تركيا التي استطاعت النفاذ الفعلي إلى داخل المنظومة العربية.
ومنذ ذلك اليوم المشؤوم والعرب في حيص بيص!
* كاتب ومفكّر إماراتيّ.
*أستاذ ملحق على كلّيّة الدفاع الوطنيّ الإماراتيّة.
* مستشار سياسيّ سابق في القيادة العامّة للقوّات المسلّحة الإماراتيّة.
* مدرّس مساعد في جامعة ميتشيغان – أن آربر.