ثمّة قراءات متعجّلة في رصد الرابحين والخاسرين من تشكيلة الرئيس نجيب ميقاتي. فيُقال إنّ أكثر الرابحين هو الرئيس نجيب ميقاتي نفسه، الذي أثبت حتى الآن أنّه رجل المراحل الانتقالية والانقلابية أيضاً.
والرابح، ولو بدرجة أقلّ، المرشّح الرئاسي النائب جبران باسيل، الشريك المضارب في الحكومة الجديدة، والمتربّص للسلطة التنفيذية في كلّ القرارات، صغيرها وكبيرها.
أمّا أكبر الخاسرين، بحسب هذه القراءات، فهو الرئيس سعد الحريري، الذي فشل في مسعاه للعودة إلى السراي، بما يتناغم مع المبادرة الفرنسية، ومن دون التفاوض مع باسيل، فصار لزاماً عليه الجلوس على مقعد المعارضة، وأن يخوض الانتخابات النيابية من هذا الموقع، للمرّة الأولى في حياته السياسية.
الموقف السلبي من الرئيس فؤاد السنيورة اتجاه التشكيلة الحكومية يؤشّر إلى أنّ النادي لن يجتمع على رأي بعد الآن
الخاسر، بدرجة أقلّ، هو نادي رؤساء الحكومة السابقين. وبات يرى الآن أنّه لا يمسك خيوط اللعبة على الرغم من وصول أحد أعضائه إلى السراي. ويُضاف إلى اللائحة قائد القوات اللبنانية سمير جعجع، الذي راهن حتى اللحظة الأخيرة على إعادة تشكيل السلطة بانتخابات نيابية مبكّرة بدل تعزيز السلطة القائمة.
المغامرة الثالثة
يخوض الرئيس ميقاتي مغامرته الثالثة، وفي مرحلة مضطربة أيضاً. ففي عام 2005 تولّى رئاسة حكومة الانتخابات النيابية، لثلاثة أشهر فقط بين 19 نيسان و19 تموز من ذلك العام الحافل بالحراك السياسي، عقب اغتيال الرئيس رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان، وذلك بوصفه حيادياً بين معسكريْ 8 و14 آذار، وأنّه غير مرشّح لخوض الانتخابات.
في عام 2011، بعد إسقاط الحكومة الأولى للرئيس سعد الحريري، بسبب الخلاف بين مكوّناتها مع اقتراب صدور القرار الظنّي في قضيّة اغتيال رفيق الحريري عن المحكمة الدولية الخاصّة بلبنان، تولّى الرئيس ميقاتي تشكيل الحكومة بانقلاب، مكمّلاً النصف الثاني من ولاية الرئيس ميشال سليمان: حكومة عاملة حتى عام 2013، وحكومة تصريف أعمال إلى حين تمكّن الرئيس تمّام سلام من تشكيل حكومة في 15 شباط عام 2014، أي قبل ثلاثة أشهر من انتهاء ولاية الرئيس سليمان. فكانت حكومة ميقاتي الثانية معبراً للحريرية السياسية من السلطة بالأصالة إلى السلطة بالوكالة مجدّداً، ومن عهد سليمان إلى الفراغ الرئاسي بانتظار الاتفاق على انتخاب الرئيس ميشال عون، في ما سُمّي بالتسوية الرئاسية بين عون والحريري. بل كانت حكومته خطّاً فاصلاً بين مرحلتين من الشخصية السياسية للرئيس الحريري. ذلك أنّ سنوات الغربة خارج لبنان، ما بين 2011 و2016، أنتجت نسخة جديدة من سعد الحريري، هي أكثر مرونة وليونة بإزاء الوقائع الصلبة في المعادلة الوطنية.
أمّا الحكومة الحاليّة فهي تتمتّع بكلّ مواصفات المرحلة الانتقالية بوضوح، مع فوارق جوهرية عمّا سبق. فهذه حكومة انتخابات أيضاً كما كان الحال عام 2005، من دون أن يستنكف رئيسها عن الترشّح. وهو ليس وكيلاً عن طرفين متقابلين، بل بديل براغماتي من “بيّ السنّة” حاليّاً في السراي. وقد يكون، في لحظة متغيّرة ما، بديلاً منه في تسوية رئاسية جديدة، عندما يحين الوقت لانتخابات رئاسية حامية الوطيس بكلّ المقاييس والمستويات. وهكذا تقع الحكومة الثالثة في خطّ بياني متصاعد وثابت لمسيرته السياسية، مذ أصبح وزيراً للمرّة الأولى عام 1998 بتعيينه وزيراً للنقل والأشغال العامة في حكومة الرئيس سليم الحص.
جوهر المشكلة أنّ الرئيس الحريري لم يعتَد الجلوس في مقاعد المعارضة. فإمّا أن يكون في السراي أو قريباً منها، أو يكون خارج لبنان
انتصار باسيل
بالمقابل، أثبت النائب، والوزير السابق، جبران باسيل، أنّه لا يزال اللاعب الرئيسي في الساحة المسيحية، ليس فقط بوصفه صهر الرئيس المقرّب منه، والمستقوي بصلاحيّة رئيس الجمهورية في التوقيع على أيّ تشكيلة حكومية، كي يتفاوض، ويشترط، ويعطِّل، ويكسب، بل لأنّه يتحالف مع الحزب، صاحب اليد العليا في تصريف الشؤون اللبنانية، والقابض على مفاتيح التشكيل والتعطيل.
لكنّ المكسب التكتيكي في تشكيلة هذه الحكومة لجهة تضمّنها ثلثاً معطِّلاً غير مرئيّ يسمح بإدارة الفراغ الرئاسي عندما يحين وقته إلى أن تُبَتّ الترشيحات والترجيحات وتُعقَد التسويات، لا يعني إطلاقاً أنّ طموحاته الرئاسية قد شقّت طريقاً مستقيماً نحو بعبدا، فأمامه أشواق وأشواك، وجواذب وفواصل، وبيئة محلّيّة وخارجيّة لم تنضج فيها بعد موازنات الاستحقاق الانتخابي.
أما بالنسبة إلى معسكر الخاسرين، بحسب قراءة المشهد الحكومي، فقد ذهب بعض السياسيين والمحلّلين إلى حدّ “التبشير” بإغلاق بيت الوسط، وانفراط عقد نادي الرؤساء السابقين، ليس لأنّ ميقاتي نجح في ما فشل فيه الحريري، وإن كان أقدم على ما لم يُقدِم عليه الحريري، حين فتح قناةً خلفيّةً للحوار النشط مع اللاعب الرئيس في عهد هذا الرئيس، النائب جبران باسيل، بل لأنّ الحريري لا يطيق البقاء خارج السراي الحكومي، أو من دون أن يشغل هذا السراي مَنْ يمثّله شخصيّاً، أو في أقلّ تقدير مَنْ سمّاه هو، بمعنى أنّه ملتزم شروطه في التشكيل وفي الممارسة.
جوهر المشكلة أنّ الرئيس الحريري لم يعتَد الجلوس في مقاعد المعارضة. فإمّا أن يكون في السراي أو قريباً منها، أو يكون خارج لبنان. في حين أنّ الرئيس الشهيد رفيق الحريري برع في صفوف المعارضة بين عاميْ 1998 و2000، وأدار حملة انتخابية بزخم شعبي كبير، فأنجز انتصاراً ساحقاً في الانتخابات النيابية عام 2000، فارضاً حضوره الإلزامي في الحياة السياسية.
طبعاً، الظروف بين الأمس واليوم مختلفة جدّاً. وتتزاحم أعباء سعد الحريري بين أموره الخاصّة والشأن الوطنيّ. وقد حُمِّل وحده خلال 16 عاماً منذ يوم اغتيال والده، مهمّات ومسؤوليات ثقيلة، وواجه تحدّيات هائلة في أمنه وأمن رفاقه وأصدقائه من السياسيين والإعلاميين. ووجد نفسه أمام خيارات صعبة، بل شبه مستحيلة، فلم يُسعفه حليفٌ قفز من السفينة أو عاد إلى عرينه، ولا مستشارٌ ائتمنه على صناعة القرارات وحياكة الخيارات، فزاده رَهَقاً!
هل انتهى الحريري؟
هل يعني هذا كلّه أنّ سيرته الذاتية انتهت هنا؟
ثمّة مبالغة في توقّع النهايات السياسيّة. وما من شكّ أنّ نجاح ميقاتي في دخول السراي دونه، يرتّب عليه مراجعة نمط العمل السابق، ولائحة حلفائه المفترضين، وحجم التوقّعات من الأصدقاء الأقربين. وهذا ما ينعكس أيضاً على نادي رؤساء الحكومة السابقين، إلى هذه الدرجة أو تلك، فهل انتهى دوره بوصول ميقاتي إلى الهدف؟
ينبغي أوّلاً تحديد طبيعة النادي: هل هو هيئة استشاريّة أم مرجعيّة سياسية؟ أم شيء مختلط بين الاثنتين؟
الموقف السلبي من الرئيس فؤاد السنيورة اتجاه التشكيلة الحكومية يؤشّر إلى أنّ النادي لن يجتمع على رأي بعد الآن. والاجتماعات لن تكون متواصلة كما في مهلة ما قبل تشكيل الحكومة.
إقرأ أيضاً: الحكومة: تكريس تحالف الاحتلال الإيراني مع فرنسا؟
لم يعُد أمام سمير جعجع “الحكيم” إلا التعايش مع هذا العهد حتى نهايته المحتومة، والانشغال بالاستعداد لمعركة انتخابية نيابية حاسمة الربيع المقبل إن كانت في موعدها. فموازين القوى في البرلمان تشي بمعالم المرحلة المقبلة، وللوصول إلى قصر بعبدا عُدّة شغل مختلفة، كما هو حال الانتخابات الرئاسية منذ تأسيس لبنان.
ويكفي الرئيس ميقاتي أن يُدخِل البلاد في غرفة الإنعاش الاقتصادي والاجتماعي، وأن يتمكّن من إدارة انتخابات نيابية ذات صدقيّة في الداخل قبل الخارج، كي يعتبر نفسه رابحاً. فيما على منافسيه العمل دون هوادة للحفاظ على المكتسبات، أو ما أمكن منها. هو قطع نصف الطريق أو أكثر، وهم لا يزالون في بداياتها.
*الصورة نقلاً عن كاريكاتور صحيفة الجمهورية.