إذا كان معروفاً سبب طلب الرئيس سعد الحريري من مناصريه إلغاء التجمّع الذي كان مقرّراً أمام بيت الوسط يوم الأحد دعماً له، فإنّ ما ليس مفهوماً سبب الدعوة إلى هذا التجمّع أصلاً.
طلب رئيس الحكومة السابق من مناصريه “الالتزام بما تقتضيه المرحلة وظروفها الصعبة من ابتعاد عن أيّ تجمّعات في الشارع”. هذه كانت الحجّة، لكنّ واقع الأمر أنّ رئيس تيار المستقبل يصفّي مشاكله العالقة، وهو حالياً خارج لبنان، ولا يرى فائدة من تثبيت تهمة “الانفصام” عليه بين دعمه للحكومة واستقبال الرافضين لخيار نجيب ميقاتي في دارته.
وقد طلبَ أخيراً من نوّاب التيار وقياداته التحدّث بإيجابية عن مسار الحكومة، ودَعم “زميله” السابق في نادي رؤساء الحكومات، لكنّ القاعدة ممتعضة ومتوجّسة من المرحلة المقبلة، وخائفة على “مستقبل سعد” نفسه، بعد خوفها بالدرجة الأولى من رفع الدعم والانفجار الاجتماعي وذهاب الأمور نحو الأسوأ.
ليس في الطائفة السنّيّة مَن يتمنّى أن يكون مكان سعد الحريري. أداء تخلّلته تنازلات قاسية منذ انطلاقة العهد، قاد إلى سقوط التسوية الرئاسية بعدما أخذ العهد “حاجته” منها
لم يكن سهلاً على الحريري توفير الغطاء السياسي والحزبي والطائفي لتكليف غريمه على الساحة السنّيّة، فيما يستعدّ تكتّله لمنح الثقة للحكومة المركّبة من 24 وزيراً، بينهم وزيران “خاص ناص” للحريري وثلاثة وزراء سنّة متوافق عليهم مع ميقاتي.
بين تقديم استقالة حكومته في 19 تشرين الأول 2009، ثمّ إعادة تكليفه “على ظهر” تكليف مصطفى أديب، فانسحابه من الملعب الحكومي مجدّداً، راكَمَ رئيس تيار المستقبل خسارات هائلة تخطّت بأبعادها تأثير تخلّي المملكة العربية السعودية عنه لتُرسَم علامات استفهام جدّيّة عن مصير زعامة “الشيخ سعد”.
عمليّاً، ليس في الطائفة السنّيّة مَن يتمنّى أن يكون مكان سعد الحريري. أداء تخلّلته تنازلات قاسية منذ انطلاقة العهد، قاد إلى سقوط التسوية الرئاسية بعدما أخذ العهد “حاجته” منها، ثمّ تكليف لتسعة أشهر كرّس عجز الحريري عن الجلوس إلى طاولة القرار. والأفظع انضمامه، بعد الاعتذار عن التكليف، إلى “ائتلاف” حكوميّ داعم لميقاتي مؤلّف من أمل وحزب الله وتيار المستقبل والعونيين، ويُفترض أن يوفّر الغطاء السياسي لِما تبقّى من ولاية العهد.
وهنا يُطرح السؤال: هل يستمرّ الحريري في منح الغطاء السياسي والسنّيّ لحكومة ميقاتي؟ وما الأفضل له شعبيّاً على أبواب الانتخابات النيابية: مؤازرة شريكه في “النادي” بعدما قدّم علناً “كلّ الدعم لحكومة ميقاتي في المهمّة الحيويّة لوقف الانهيار وإطلاق الإصلاحات”? أم “الانقلاب” على ميقاتي بحجّة عدم قدرته على توفير الدعم للعهد من خلال دعمه للحكومة؟
90 ثقة؟
يُتوقَّع أن تنال حكومة ميقاتي ثقة مَن سمّاه من الكتل والنواب، أي حركة أمل، وحزب الله، وتيار المستقبل، والتكتّل الوطني، والحزب التقدّمي الاشتراكي، والوسط المستقلّ، والحزب القومي، واللقاء التشاوري، وأربعة نواب مستقلّين، أي ما مجموعه 72 صوتاً.
أمّا التيار الوطني الحرّ فثقته معلّقة. وهو يلعب لعبة “التشويق” حتّى اللحظة الأخيرة في محاولة لتثبيت واقع “الشراكة” مع نجيب ميقاتي في تحديد عناوين برنامج حكومته… وإلا فلا ثقة.
بتأكيد كثيرين، فإنّ انفجار الحكومة من الداخل، كأحد السيناريوهات المحتملة، لن يكون بفعل الثلث المعطِّل، بل عبر احتمال فقدان ميقاتي الغطاء السنّيّ لحكومته بعد أشهر قليلة من ولادتها
وتصويت الممانعين لتسمية ميقاتي على الثقة للحكومة، أي تكتّل لبنان القوي (17 نائباً)، والطاشناق (3 نواب)، ضمانة الجبل (طلال إرسلان، 4 نواب)، و3 نواب مستقلّين، إضافة إلى النائبين الآخرين في اللقاء التشاوري، سيرفع عدّاد الأصوات من 72 نائباً (تسمية ميقاتي) إلى 101 (ثقة للحكومة).
لكنّ الأمر مستبعدٌ، إذ إنّ “تغيير البوصلة” في دعم حكومة ميقاتي قد ينحصر بالملعب العوني، بحيث يُقدِم باسيل فقط على منح الحكومة الثقة ليلامس عدّاد الأصوات الرقم 90.
وهي ثقة، إن حصلت، ستكون منفصلة عن “معارضة” باسيل الحكومة من الداخل والخارج. فها هو أوّل “دخوله” مناكفات وسجالات حول صيغة البيان الوزاري بين العونيين ووزير حركة أمل.
لكنّ الثقة المضمونة، بغضّ النظر عن “الرقم” وعمّن سيعدّل رأيه، موافقةً أو رفضاً، ستُدخِل سعد الحريري في مرحلة “تصحّر” سياسي قد تكون الأقسى عليه منذ بدء مسيرته السياسية، خصوصاً أن لا بقعة ضوء على المدى القريب، في ظلّ التغييرات الهائلة في المنطقة والداخل اللبناني، تشي بأنّ رئيس تيار المستقبل سيستعيد دور “القيادة” على الساحتين الحكوميّة والسنّيّة.
ومغادرة الحريري لبنان قبل تشكيل الحكومة، ومتابعته عن بعد لمشهد دخول ميقاتي السراي الحكومي للمرّة الثالثة وسط بيانات الترحيب من عواصم القرار، تصبّان في خانة “الانعزالية الحريرية” التي تنتظر فتح صناديق الاقتراع، إن حصلت الانتخابات النيابية في موعدها، لتكسر الطوق الذي زنّر الحريري نفسه به. لكن بين معارضة العهد ودعم ميقاتي تبدو المُهمّة صعبة جداً.
إنّه مأزق حقيقي يجعل من الحريري بدعمه لحكومة تُرضي عون وحزب الله وإيران كمَنْ يُصفّق لأخصامه، والأدقّ لـ”جلّاديه” بعدما قادته استراتيجيّات بيت الوسط في “عِلم” الزعامة السياسية إلى أن يُصبح داعماً للعهد العوني “غَصباً عنه”.
فهل يقوده هذا الواقع إلى قلب الطاولة؟
بتأكيد كثيرين، فإنّ انفجار الحكومة من الداخل، كأحد السيناريوهات المحتملة، لن يكون بفعل الثلث المعطِّل غير الثابت بالعين المجرّدة، بل عبر احتمال فقدان ميقاتي الغطاء السنّيّ لحكومته بعد أشهر قليلة من ولادتها.
إقرأ أيضاً: نجيب ميقاتي ضاحكاً على الجميع
ويضيف هؤلاء: “هنا سيكون ميقاتي أمام خيارين: الاستمرار بقيادة الحكومة من دون غطاء الحريري، الأمر الذي سيؤدّي إلى صدام داخل الطائفة، أو الاصطفاف إلى جانب الحريري فتعود المبادرة إلى يد الأخير الذي يقف حالياً في المنطقة الرمادية حيث لا لون ولا رائحة للزعامة”.