يبدو أنّ ملفّ خطّ “الغاز العربي” عبر سوريا إلى لبنان سيكون سبباً من أسباب “الاسترخاء” السياسي في المنطقة، ونتيجة لقرارات كبيرة، إقليمياً ودولياً، ستعجّل من إنهاء الكثير من رواسب السنوات العشر الأخيرة، بما فيها من حروب ودماء وتقطيع أوصال سياسية واقتصادية.
فقد كسر خطّ “الغاز العربي” قطيعة رسمية بين دمشق والدول الفاعلة في هذا المشروع. إذ شهدت العاصمة الأردنية عمّان اجتماعاً لوزراء الطاقة من الأردن، مصر، سوريا، ولبنان، للبحث التقني في آليّة إيصال الغاز المصري والكهرباء الأردنية إلى لبنان عبر الأراضي السورية.
ومن المفترض أن يُنقَل الغاز عبر ما يُعرَف بـ”الخط العربي”، من الحدود الأردنية جنوباً إلى وسط سورية، ومنها إلى محطة لقياس الكميّة قرب الحدود اللبنانية السورية، ثمّ إلى لبنان.
يؤكّد وزير الاقتصاد في الحكومة السورية الدكتور عبد الحكيم المصري لـ”أساس”، أنّ النظام السوري سوف يستفيد من تحسين البنى التحتية وأنابيب الغاز، إذ سيعلن لاحقاً عدم قدرته على إصلاح خط الغاز بذريعة عدم وجود الأموال
والاجتماع هو الأوّل من نوعه بعدما رحّب النظام السوري، السبت الماضي، بـ”طلب” لبنان السماح بمرور الغاز والطاقة الكهربائية من مصر والأردن عبر أراضيه، بعد أوّل زيارة لوفد وزاري لبناني رفيع المستوى إلى سورية منذ اندلاع الثورة قبل عشر سنوات.
وتبقى عملية إمداد بيروت بالغاز المصري عبر دمشق وعمّان من الناحية العملية، في حال اعتماد سوريا بلد عبور، أمام عدّة احتمالات تتأثّر جميعها بالأوضاع السياسية، خاصّة مع فرض عقوبات أميركية على النظام السوري، وفقاً لقانون قيصر، دخلت حيّز التنفيذ في سوريا منذ أكثر من عام.
بعد الاجتماع الوزاري، أكّدت وزيرة الطاقة الأردنية أنّ كل دولة ستتحمّل أيّ كلفة في أراضيها لإصلاح أيّ عطل، سواء في خط الغاز أو في إمدادات الكهرباء.
الخبير في شؤون النفط والغاز الدكتور شربل سكاف يشير لـ”أساس” إلى أنّ “كلّ ما يحصل، من زيارة الوفد الوزاري اللبناني إلى اجتماع عمّان التقني، هو إعادة إحياء لاتفاق استجرار الغاز من مصر الموقّع عام 2009، والذي زوّد محطة دير عمار في شمال لبنان بكميّات أدّت إلى تشغيله لمدّة نحو تسعة أشهر فقط، ثمّ توقّف ضخّ الغاز من مصر لاحقاً بسبب الأزمة في مصر والحرب السورية”.
ويوضح أنّ “إعادة العمل بخط الغاز عبر الخط العربي له بعدٌ سياسيّ يطغى على البعد التقنيّ، ومتى صدر القرار بإزالة كلّ العوائق يمكن للغاز المصري أن يتدفّق نحو لبنان عبر الأردن وسوريا خلال أشهر قليلة تسبقها أسابيع من إعداد الخطة النهائية وإجراء التجارب على “الوصلة” من مصر إلى لبنان عبر الأردن ثمّ سوريا”.
بدوره، قال وزير الطاقة اللبناني السابق ريمون غجر، في ?مؤتمر صحافي? بعد الاجتماع الرباعي في ?عمّان?، قبل تشكيل الحكومة الجديدة، إنّ لبنان يعمل مع البنك الدولي لضمان دفع تكلفة إمدادات الغاز. وأشار إلى أهميّة الحصول على ما يكفي من الغاز المصري لتوليد الكهرباء.
لا تستبعد أوساط سياسية لبنانية متابعة احتمال توجّه مزيد من الوفود اللبنانية الرسمية إلى سوريا بعد تدشين الوفد الوزاري اللبناني مرحلة كسر القطيعة الرسمية مع دمشق والتأسيس لحلّ مستدام على صعيد الغاز والكهرباء. من دون أن يعني ذلك قراراً لبنانياً بتعويم النظام في سوريا بقدر ما يعكس “إنعاشاً” لمصلحة البلدين في ظلّ غطاءٍ دولي إقليمي لهذا المسار، وصمتٍ “مفهومٍ” من عتاة معارضي النظام السوري في لبنان.
ويكشف لـ”أساس” أحد الأعضاء الذين حضروا اجتماعات عمّان، وطلب عدم ذكر اسمه، أنّ الولايات المتحدة الأميركية ترى أنّ أطرافاً في لبنان تريد استثناءات في قانون قيصر، ليس من أجل الغاز، ولكن لأهداف أخرى من بينها إعادة تعويم النظام السوري، وأنّ واشنطن لا ترغب بتواصل مباشر بين دمشق وبيروت.
لكن هل يمكن تنفيذ المشروع؟
مع أنّ السفيرة الأميركية في بيروت، دوروثي شيا، أبلغت الرئيس اللبناني منذ ثلاثة أسابيع عن مساعدة أميركية للبنان، من أجل استجرار الغاز المصري عبر سوريا، إلا أنّ هذا الاستثناء لم يُقَرّ بعد، خاصة أنّ العقوبات الأميركية على دمشق ممثّلة بقانون قيصر تشكّل العامل الأهمّ في أيّ جهد لنقل الغاز والكهرباء إلى لبنان عبر سوريا.
وعن احتمالية سماح واشنطن بوصول الكهرباء الأردنية المنتَجة من الغاز المصري إلى لبنان عن طريق سوريا، والفائدة التي سوف تجنيها هذه الدول من اكتمال هذا المشروع، يُلفت أستاذ في كلية الحقوق بجامعة دمشق خلال حديث مع “أساس” (تحفّظ على ذكر اسمه)، إلى أنّ بنود قانون قيصر تشير بشكل واضح إلى فرض عقوبات على كلّ مَن يتعامل مع النظام السوري، سواء كانوا شخصيّات أو كيانات أو حتى دولاً.
ويبيّن أنّ هذه النشاطات غير مستثناة من قانون قيصر بالقول: “لا يوجد أيّ استثناءات متعلّقة بمشاريع مثل استجرار الطاقة أو الغاز أو أيّ مشاريع لها صلة بإعادة الإعمار. وقانون قيصر سوف يمنع أيّ إعادة ترميم لنظام الأسد في دمشق عبر بيروت أو عمّان”.
لا تستبعد أوساط سياسية لبنانية متابعة احتمال توجّه مزيد من الوفود اللبنانية الرسمية إلى سوريا بعد تدشين الوفد الوزاري اللبناني مرحلة كسر القطيعة الرسمية مع دمشق
ويدعو إلى الانتباه لأبعاد المشروع على المستوى السياسي والاقتصادي، إذ يُعتبَر نقل الكهرباء والغاز عبر دمشق بوّابة اقتصادية تُسهم في إنعاش الحكومات المتهالكة في دمشق وبيروت، وإعادة تعويم النظام السوري على المستوى الإقليمي من البوّابة الاقتصادية، ويستبعد إكمال المشروع.
فقانون قيصر ينصّ على تجميد مساعدات إعادة الإعمار، وفرض عقوبات على النظام السوري والشركات المتعاونة معه ما لم يُحاكَم مرتكبو الانتهاكات، ويستهدف أيضاً كيانات روسية وإيرانية تدعم أو تتعاون مع النظام السوري.
فهل تكتفي واشنطن بكلام إيجابي من السفيرة الأميركية في بيروت، لم تعلنه بل نقله عنها رئيس الجمهورية اللبنانية؟
النظام السوريّ أكثر المستفيدين
يرى خبراء أنّ موافقة النظام السوري موجودة مسبقاً، لكنّها مرتبطة بالمساومة على حصّته، وكيفيّة تجاوز العقوبات، وهو ما يتطابق مع ما يكشفه وزير النفط والثروة المعدنية في النظام السوري بسام طعمة، بعد الاجتماع الوزاري، عن أنّه سيُتابَع تنفيذ البرنامج الفنّي والزمني للمشروع الذي توصّلت إليه الأطراف المعنيّة من خلال الاجتماعات ضمن أراضي الجمهورية العربية السورية، بحيث تكون البنى التحتية جاهزة تماماً لاستقبال الغاز المصري وتسليمه إلى لبنان.
ويضيف طعمة: “سنبذل كلّ جهد ممكن من أجل إنجاح نقل الغاز المصري أو الكهرباء الأردنية إلى لبنان لِما فيه خير ومصلحة بلداننا العربية. وقد أبلغنا الجانب اللبناني موافقتنا على نقل الغاز المصري والكهرباء الأردنية عبر سورية خلال زيارة الوفد اللبناني إلى دمشق يوم السبت الماضي”.
ويقول الباحث الاقتصادي في مركز جسور للدراسات وائل علوان إنّ الخط غير جاهز لإتمام عمليّات الإمداد في الوقت الراهن، فهو يحتاج إلى مزيد من الصيانة في حال الرغبة في نقل الغاز أبعد من الأراضي السورية.
لا ننسى أنّ لبنان يعاني من انقطاع شبه تامّ للتيار الكهربائي، ومن أزمة كهرباء تفاقمت بعد إغلاق المحطتين الرئيسيّتين لتوليد الطاقة في البلاد في 10 تموز الماضي، بسبب نفاد الوقود.
يؤكّد وزير الاقتصاد في الحكومة السورية المؤقّتة المعارضة، الدكتور عبد الحكيم المصري، في حديث لـ”أساس”، أنّ النظام السوري سوف يستفيد من تحسين البنى التحتية وأنابيب الغاز، إذ سيعلن لاحقاً عدم قدرته على إصلاح خط الغاز بذريعة عدم وجود الأموال، وهو ما سيدفع الدول الداعمة للمشروع إلى إصلاحها، فيحصل النظام السوري في النهاية على حاجته من الغاز، ويستفيد اقتصادياً وسياسياً.
ويرى مختصّون ومهتمّون بالمشروع أنّه لا يوجد حتى الآن استثناء أميركي لتنفيذ المشروع، ولكن توجد مساعٍ من قبل الأردن للحصول على موافقة أميركية لاستثناء الغاز المصري من قانون “قيصر”، بما يسمح عملياً بمروره عبر الأردن وسوريا إلى لبنان من دون التعرّض للعقوبات.
خطّ الغاز العربيّ
ختاماً، للتذكير، فقد أُنشئ خطّ “الغاز العربي” عام 2000، وكان الهدف منه تصدير الغاز المصري إلى دول المشرق العربي، ومنها إلى أوروبا. وبدأ تنفيذ المشروع في 2003، ووصل طوله عند إتمامه إلى 1200 كيلومتر، بتكلفة قدرها مليار و200 مليون دولار، لنقل أكثر من عشرة مليارات متر مكعب من الغاز سنويّاً.
إقرأ أيضاً: لبنان بين الغاز العربيّ والنفط الإيرانيّ.. حقائق وأسئلة
وكان من المقرّر تنفيذ المشروع على أربع مراحل، تبدأ في مصر وتمرّ بالأردن وصولاً إلى سوريا، لنقل الغاز إلى تركيا ثمّ إلى القارة الأوروبية. إلا أنّ القسم بين سوريا وتركيا لم يكتمل نتيجة اندلاع الثورة السورية عام 2011.
اليوم يعود المشروع إلى الواجهة، بعد التغييرات في الإدارة الأميركية ورحيل الرئيس دونالد ترامب، ومجيء إدارة ديمقراطية يرأسها جو بايدن، الذي هادن إيران وانسخب من أفغانستان ويسعى إلى تفاهمات في المنطقة بدل الحروب والنزاعات. ويبدو أنّ الخطّ الذي انقطع قبل 10 سنوات، سيكون أحد الخطوط التي سترفع من حظوظ التفاهمات، والوصل بين الدول، في لحظة التغييرات الكبيرة في الشرق الأوسط. وسيكون للبنان النصيب التقني الأبرز، ولنظام بشار نصيب الأسد من السياسة.
* صحافي سوري استقصائي حاصل على ثلاث جوائز من BBC و”مؤسسة سمير قصير” و”الشبكة العالمية للصحافة الاستقصائية-GIJN“.