توازي أهميّة أحداث 11 أيلول 2001 من حيث نتائجها الجيوسياسية والمفهومية الكبرى أهميّة الحربين العالميّتين الأولى والثانية. فإذا كانت هاتان الحربان قد شكّلتا منقلباً جيوسياسياً في مطلع القرن العشرين ومنتصفه، فإنّ هجمات 11 أيلول 2001 شكّلت ولا تزال منقلباً جيوسياسياً في مطلع القرن الواحد والعشرين. وإذا كانت الحرب العالمية الأولى قد أطلقت نمطاً جديداً من الاستعمار، وأطلقت الحرب العالمية الثانية استقطاباً دولياً جديداً بين قطبيْ الحرب الباردة، فإنّ أحداث أيلول 2001 كرّست نمطاً جديداً من التدخّل العسكري الدولي، وكانت تبعاتها ولمّا تزل الامتحان الأصعب للأحاديّة الأميركية منذ سقوط جدار برلين.
من أهمّ الارتدادات المباشرة لإدارة واشنطن ظهرها لأفغانستان أنّ أيّ مطالبة من قبلها لاحترام القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان في أيّ بلد من العالم ستكون موضع انتقاد وتشكُّك
ولعلّ الانسحاب الأميركي من أفغانستان بعد عشرين سنة من الحرب الأميركية على الإرهاب التي أطلقها الرئيس جورج دبليو بوش في أعقاب هجمات 11 أيلول، يحمل في طيّاته كلّ نتائج وخلاصات هذه الحرب التي قلبت الأوضاع في المنطقة رأساً على عقب، وبلغت ارتداداتها أوروبا والعالم بأسره بالنظر إلى توسّع الخطر الإرهابي وامتداده، ولا سيّما مع صعود “داعش”. هذا فضلاً عن التبعات السياسيّة والاجتماعية والاقتصادية للهجرات الكثيفة من دول المنطقة بدءاً من العراق الذي كان الهدف الأميركي الثاني بعد أفغانستان في ظلّ الحرب الأميركية على الإرهاب.
بطبيعة الحال، لم تكن الحرب الأميركية على الإرهاب بلا غطاء أو سياق أيديولوجي، وقد ارتكزت أيديولوجيّتها أساساً على نظرية صراع الحضارات لصامويل هانتنغتون التي كانت مؤشّراً مبكراً إلى صعود سياسات الهويّة حول العالم. ولكن على المستوى السياسي الأميركي أيضاً فإنّ “المحافظين الجدد” لم يربطوا حربهم على الإرهاب بمحاربة التنظيمات الإرهابية، وخصوصاً “القاعدة”، وحسب، بل قالوا إنّ مهمّتهم هي أيضاً نشر المُثُل الديموقراطية وبناء “الدولة – الأمّة” في البلدان التي يحلّ العسكر الأميركي فيها.
وللمفارقة فإنّ الرئيس الديموقراطي جو بايدن، الذي نفّذ قرار سلفه الجمهوري دونالد ترامب بالانسحاب من أفغانستان، كان أيضاً قد قال فور انتخابه، وعشيّة الجولة الخارجية الأولى له التي قصد فيها أوروبا، إنّ هدفه ترسيخ القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان حول العالم، لكن في الواقع فإنّ انسحابه من أفغانستان بكلّ سياقاته الميدانية والسردية طرح أسئلة كبرى حول وعده هذا، لا بل أسقطه.
صحيح أنّ بايدن لا يتحمّل، بطبيعة الحال، المسؤولية عن السرعة القياسيّة لانهيار الجيش الأفغاني الذي يَبلغ عديده نحو 300 ألف جندي، وأنفقت واشنطن عشرات مليارات الدولارات لتدريبه وتسليحه على مدى عشرين عاماً. لكنّ الصحيح أيضاً أنّ ثمّة مخارج جاهزة دائماً للسياسات الدولية تخفّف من خلالها وطأة إخفاقاتها. وفي الحالة الأفغانية سرعان ما أُحيلت التهمة الرئيسة عمّا حصل إلى الجيش الأفغاني بسبب الفساد المستشري داخله وغياب الدافع القتالي للجنود الأفغان الذين كانوا يتساءلون عن المغزى من قتال “إخوانهم”.
وحتّى لو كان كلّ ذلك صحيحاً فإنّه يُستخدَم لحرف الأنظار عن الأسئلة الكبرى التي يطرحها الانسحاب الأميركي من أفغانستان حول مستقبل هذا البلد، ومستقبل المنطقة كلّها، ومستقبل التدخّل الأميركي فيها.
في السياق عينه، تمّ التركيز على الخطأ الاستخباري الأميركي في تقدير مدّة صمود الجيش الأفغاني أمام زحف “طالبان” نحو كابل، إذ قدّرت الاستخبارات الأميركية أن يصمد هذا الجيش بضعة أشهر، فإذا به ينهار خلال بضعة أسابيع. ومرّة جديدة يتمّ التركيز على جوانب هامشية في المشهد الأفغاني المأساوي. وكأنّ الغاية الأساسية من وراء ذلك “طيّ الصفحة” وإنكار المسؤوليات الأميركية في أفغانستان. خصوصاً أنّ في صفوف الحزبين الديموقراطي والجمهوري شبه إجماع على حتميّة الانسحاب من هذا البلد.
لم تكن الحرب الأميركية على الإرهاب بلا غطاء أو سياق أيديولوجي، وقد ارتكزت أيديولوجيّتها أساساً على نظرية صراع الحضارات لصامويل هانتنغتون التي كانت مؤشّراً مبكراً إلى صعود سياسات الهويّة حول العالم
تغيير استراتيجية أميركا
لكن ماذا يعني طيّ صفحة التدخّل الأميركي في أفغانستان، وبالتالي طيّ صفحة الحرب الأميركية على الإرهاب بنسختها الكبرى أو تبديل استراتيجيّاتها؟
لقد أعلن الرئيس بايدن في 17 آب “أنّ مهمّتنا في أفغانستان يجب أن تنحصر في مكافحة الإرهاب لا مكافحة التمرّد أو بناء الأوطان”. وهو ما يعكس تحوّلاً استراتيجياً في الخطاب السياسي الأميركي خلال العشرين سنة الماضية، وتحديداً منذ إطلاق بوش الحرب على الإرهاب بالتوازي مع نشر الديموقراطية وبناء الدولة في البلدان التي تتدخّل فيها الولايات المتحدة عسكرياً. ولعلّ هذا الوعد الأميركي بنشر الديموقراطية يرتكز أساساً على نظرية فرنسيس فوكوياما التي أطلقها في أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، أي نظرية “نهاية التاريخ” التي تقول إنّ الأنظمة الشمولية لا بدّ ستسقط حول العالم، وأنّ المستقبل للنموذج الديموقراطي الغربي.
صحيح أنّ فوكوياما نفسه تخلّى عن نظريته تلك لاحقاً، لكنّ استراتيجية الانسحاب الأميركي من أفغانستان أظهرت أنّ السياسات الأميركية الجديدة تخطّت هذا النقاش ولم تعُد تطمح إلى لعب دور قيادي حول العالم وفق الأنماط السائدة منذ الحرب العالمية الثانية، وبالأخصّ منذ سقوط الاتحاد السوفياتي. وهذا تطوّر استراتيجي كبير في السياسة الأميركية خلق ولا يزال يخلق اختلالاً في النظام الدولي.
ومن أهمّ الارتدادات المباشرة لإدارة واشنطن ظهرها لأفغانستان أنّ أيّ مطالبة من قبلها لاحترام القيم الديموقراطية وحقوق الإنسان في أيّ بلد من العالم ستكون موضع انتقاد وتشكُّك. فمثلاً صدرت أصوات دولية تسأل أخيراً كيف يمكن لواشنطن أن تترك أفغانستان بأيدي حركة طالبان التي لا تعترف بالديموقراطية، ثمّ تطالب الرئيس التونسي قيس سعيّد باحترام العملية الديموقراطية في بلاده؟
لكن فوق التفاصيل السياسية المباشرة فإنّ تخلّي واشنطن عن الدولة الأفغانية لا تنحصر مفاعيله ضمن النطاق الأفغاني، إذ يعيد التشكيك في التجربة التاريخية لبناء الدولة – الأمّة وفق النمط الغربي في المنطقة. حيث مجدّداً تتقدّم البنى القبلية والإثنية والطائفية و”الثورية” على الدولة: طالبان في أفغانستان، الحوثيون في اليمن، حزب الله وحتّى العونيون في لبنان، من دون إغفال تضخّم الحرس الثوري في التركيبة السياسية للدولة الإيرانية، والحشد الشعبي في العراق.
إقرأ أيضاً: 11 أيلول… أو الحرب الصليبية على الإسلام
لذلك يمثّل الانسحاب الأميركي من أفغانستان قفزاً استراتيجيّاً فوق نظرية صراع الحضارات. فالمستقبل بالنسبة إلى الأميركيين لن يكون صراعاً بين الحضارات بل فصلاً بينها: لنا حضارتنا ونموذجنا للحكم، ولكم حضارتكم ونموذجكم للحكم، لكن لا تضرّوا بمصالحنا… اليوم أفغانستان وغداً إيران!