يمكن القول إنّ الرسالة، التي وجّهها الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي في ما يتعلّق بالتطوّرات الأفغانية وعودة الرؤية أو القراءة الطالبانية واستيلائها على السلطة في هذا البلد بعد انسحاب أميركي دراماتيكي واحتلال استمرّ عشرين سنة، هي رسالة تؤصِّل الاختلاف في الموقف السياسي داخل المجتمع الإيراني، وتكشف عن وجود قراءتين إيرانيّتين للحدث الأفغاني وأسلوب التعامل مع حركة طالبان.
قد يكون موقف المرشد قد شكّل إطاراً ناظماً للعلاقة بين النظام الإيراني والمستجدّ الأفغاني وعودة طالبان إلى السلطة، لكنّه لم يُنهِ الانقسام بين المعسكرين الإصلاحي والمحافظ في الموقف من أفغانستان
كان خاتمي واضحاً في انتقاد التعاطي الرسمي مع الحدث الأفغاني وسيطرة طالبان على السلطة، واعتبر أنّه “بعيداً عن كل الملاحظات، وحتّى التعهّدات السياسية والأمنيّة التي يلجأ إليها السياسيون بناء على الحقائق والمصالح، ويتّخذون مواقفهم ويطبّقونها، فإنّنا إذا نظرنا إلى الأمور من الناحية الثقافية والأخلاقية والقلق على الهويّة الإنسانية ومصير الإنسان وحقوقه في مجتمع متحضّر، يعترينا قلق كبير”.
أهميّة هذه المخاوف التي تظهر في موقف خاتمي متأتّية من الاختبار الحقيقي والدقيق الذي عايشه عام 1998 مع بداية رئاسته للجمهورية عندما واجه تحدّي التعامل مع الجريمة التي ارتكبتها طالبان ضد الدبلوماسيين الإيرانيين في مدينة مزار شريف عند استيلائها على أفغانستان في المرّة الأولى، وكيف خاض معركة كبح جماح المؤسسة العسكرية التي كانت تدفع باتجاه التدخّل العسكري انتقاماً لهذه الجريمة.
الموقف الذي أعلنه المرشد الأعلى الأسبوع الماضي من التطوّرات الأفغانية، وتأكيده أنّ استراتيجية إيران في التعامل مع التغييرات الحاصلة في هذا البلد، تقوم على مبدأ دعم إرادة الشعب الأفغاني وما يريده ويقبل به. إلا أنّ هذا الموقف قد لا ينسجم مع ظاهر السياسة التي لجأت إليها إيران بعد انهيار الدولة الأفغانية السريع أمام حركة طالبان. وهو ما دفع خاتمي إلى التصويب المباشر على هذه النقطة، عندما قال في رسالته: “إذا كان الساسة لا يفكّرون في الإنسان، بل في الأشياء التي توفّر لهم منافعهم، فلا أمل. ولكن هل يمكن أن نعقد الأمل على كلّ مَن يحبّ الإنسان، خصوصاً أولئك الذين يعتقدون بالحقيقة الإلهية والرحمانية والإنسانية للإسلام في ما يتعلّق بالإنسان الأفغاني لتخليصه من هذا الألم والجور الكبير”.
الدخول في مواجهة مع طالبان في هذه المرحلة سيعقّد المشهد، ويفتح جبهات جديدة أمام النظام الذي هو بغنى عنها أو يحاول إبعادها قدر المستطاع وتأجيلها
انقسام إيراني حول طالبان؟
قد يكون موقف المرشد قد شكّل إطاراً ناظماً للعلاقة بين النظام الإيراني والمستجدّ الأفغاني وعودة طالبان إلى السلطة، لكنّه لم يُنهِ الانقسام بين المعسكرين الإصلاحي والمحافظ في الموقف من أفغانستان. خصوصاً الموقف ممّا يجري في آخر المعاقل في وادي بنجشير الذي يرفض سلطة طالبان، ويقوده أحمد مسعود نجل القيادي الطاجيكي التاريخي أحمد شاه مسعود. الأمر الذي يكشف حجم الانقسام العمودي في المواقف من هذه التطوّرات، والأبعاد التي يجب أن تحكم هذه المواقف.
وفيما لجأت القوى الإصلاحية والمعتدلة وغير الموالية إلى اتّهام النظام بأنّه تبنّى سياسة “تطهير” حركة طالبان، ويرغب في بناء علاقة مع السلطة الجديدة في أفغانستان بقيادة هذه الجماعة والحكومة التي ستشكّلها، ذهبت هذه القوى إلى موقف معارض بوضوح ومضادّ لموقف قوى النظام، وهي لا تتردّد في إعلان تأييدها للحركة التي يقودها أحمد مسعود، معتبرةً أنّها مقاومة لسلطة طالبان ولإقامة الإمارة الإسلامية في هذا البلد.
يأتي حجم التحدّي، الذي تمارسه القوى الإصلاحية، من خلفيّة الانتقاد الشديد لتجربة الإسلام السياسي التي عايشتها وتعايشها في المجتمع الإيراني، وإن كان مستوى التحدّيات التي خاضتها هذه القوى الإيرانية يختلف عن التجارب أو ظواهر هذا الإسلام السياسي في دول المنطقة. إلا أنّ المنطلقات التي تحكم هذا الموقف في هذه اللحظة التاريخية لا تنحصر فقط في الخوف أو القلق من سياسة النظام تجاه حركة طالبان. مع إدراك الخلفيّات التي تحكمها وما فيها من مراعاة للمصالح الاستراتيجية والاقتصادية والجوار الأمني والجغرافي مع أفغانستان، وضرورة التعامل مع الفراغ الحاصل نتيجة الانسحاب الأميركي، وما يُخفيه الاتفاق بين طالبان وواشنطن من بنود سريّة. بل تتعدّاهما إلى الخوف والقلق من الآثار المستقبلية لهذا النوع من السلطات، وهذا النوع من الفكر أو التفسير للإسلام السياسي والسلطة الدينية، وما يحمله من مخاطر قد تهدّد الاستقرار الداخلي الأفغاني. مع إمكان الدخول في حرب أهلية قد تطيح بوحدة الدولة وتضع أفغانستان أمام خطر التقسيم.
مقاومة أحمد مسعود
من هذه الخلفيّات، يأتي إعلان هذه القوى الإصلاحية دعمها لِما تسمّيه “مقاومة” أحمد مسعود في وادي بنجشير، واحتفاءها بالمعارك التي دارت بين جماعته وقوات حركة طالبان التي حاولت الاستيلاء على هذا الوادي واستكمال سيطرتها على كامل الأقاليم والولايات الأفغانية. في المقابل، لجأ النظام والقوى الموالية له والمؤسسة العسكرية إلى التزام الصمت من مقاومة مسعود، والدعوة إلى ضرورة الحوار بين الأطراف، وتشكيل حكومة جامعة تتمثّل فيها جميع القوى، ومن بينها جماعة مسعود، إلى جانب حركة طالبان. وذلك بناء على رؤية النظام والقوى التابعة له أنّ المرحلة المقبلة تفرض عليهم التعامل بهدوء وحذر مع المستجدّ الأفغاني، في ظلّ الغموض الذي يلفّ مرحلة ما بعد الانسحاب وإدارة البلاد والدور المطلوب من هذه الحركة، وعدم اتّضاح التوازنات والتحالفات الإقليمية في منطقة آسيا الوسطى، وما ستكون عليه المعادلات السياسية فيها، وما تفرضه الواقعية السياسية والحقائق الاستراتيجية على النظام من خطط لاستيعاب طموحات جماعة طالبان بهدف إبعاد الخطر عن إيران، وما يمكن أن تتركه من آثار سلبية على أجواء المفاوضات النووية مع الولايات المتحدة الأميركية، والضغوط التي تتعرّض لها طهران في منطقة الشرق الأوسط.
الدخول في مواجهة مع طالبان في هذه المرحلة سيعقّد المشهد، ويفتح جبهات جديدة أمام النظام الذي هو بغنى عنها أو يحاول إبعادها قدر المستطاع وتأجيلها.
إقرأ أيضاً: انتصار على أنقاض لبنان للمشروع الإيرانيّ!
وإذا ما كانت القوى الإصلاحية في معارضتها لسيطرة حركة طالبان تتخوّف من عودة القوى والتيارات المتشدّدة للحكم في الخاصرة الشرقية لإيران، فإنّها أيضاً تتخوّف من أن تجد القوى المتشدّدة داخل إيران الفرصة سانحةً أمامها لتعزيز سيطرتها على مفاصل النظام والسلطة، ولاستبعاد القوى الأخرى الوطنية عن الشراكة في إدارة البلاد، وتكريس هذا النهج مستقبلاً بالاعتماد على ما حقّقته في الانتخابات البرلمانية والرئاسية والبلدية الأخيرة التي انتهت إلى إخراج كلّ القوى الإصلاحية والمعتدلة من كلّ مفاصل الدولة والقرار التنفيذي والتشريعي والمدني حالياً وفي المستقبل.