الظواهري لابن لادن: طالبان مستعدّة لصفقة مع واشنطن

مدة القراءة 7 د

كانت هجمات نيويورك وواشنطن في 11 أيلول 2001، مفصلاً تاريخياً ليس فقط للحركات الإسلامية التي تسعى إلى استعادة الخلافة بعد إلغائها في إسطنبول عام 1924 بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، على يد مصطفى كمال أتاتورك، بل كانت كذلك للولايات المتحدة نفسها وموقعها في العالم، وللقوى العظمى والمتوسطة الطامحة إلى وراثة شيء من النفوذ الآفل، بحكم استنزاف القوة الأولى في العالم، اقتصادياً ومعنوياً، وإنهاكها في صراعات لا تنتهي في بقاع بعيدة.

وبعد تحقّق أمنية تلك الحركات، وعلى رأسها تنظيم القاعدة أو ما تبقّى منه، بانسحاب الجيش الأميركي من أفغانستان، هل يمكن القول إنّ استراتيجية ابن لادن قد نجحت أخيراً؟

دراسة الوثائق والمراسلات بين ابن لادن وقياديّي القاعدة ما بين 2000 و2011، التي استولت عليها الوحدة الخاصة البحرية الأميركية SEAL من مجمّع أبوت أباد بباكستان في 2 أيار من عام 2011، بعد قتل ابن لادن، سمحت للباحثين في مركز مكافحة الإرهاب CTC في أكاديمية وست بوينت العسكرية الأميركية، ولا سيّما منهم الباحثة اللبنانية نيللي لحود، وهي المتخصّصة في الفكر السياسي الإسلامي، وفي الحركات الإسلامية، الاطّلاع على دواخل تفكير أسامة بن لادن ورفاقه، بأثر رجعي، بمعنى كيفية رؤية التنظيم لهجمات 11 أيلول، وماذا كان يرجو منها، أو يتوقّع، ورؤيته للآثار التي نجمت عنها، وهل كان ينتظر فعلاً أن تجتاح الولايات المتحدة أفغانستان، وتُسقط حكم طالبان، وأن يتعرّض التنظيم نفسه للتشتيت والتشريد والتدمير، وملاحقة أفراده واغتيال أبرز قياداته تباعاً؟ أم كان على عكس ذلك، يترصّد انهيار الولايات المتحدة من الداخل، مستخفّاً بقدرة المارد الأميركي على القيام مجدّداً، والانتقام من التنظيم شرّ انتقام؟

ابن لادن لم يتوقّع أبداً أن تردّ واشنطن على تلك الهجمات بشنّ الحرب. بل توقّع أن يخرج الأميركيون في تظاهرات غاضبة كما حدث إبّان الحرب في فيتنام، مطالبين بالانسحاب الأميركي من البلدان الإسلامية

بصيغة أخرى: هل كان ابن لادن يريد استنزاف الولايات المتحدة في أفغانستان، فتسقط من المعادلة الدولية، كما اُستُنزف الاتحاد السوفياتي بين عاميْ 1979 و1989 عسكريّاً واقتصاديّاً، فانهارت الدولة فيه؟ وسبيله إلى ذلك استفزاز أميركا في عقر دارها بضرب برجيْ مركز التجارة العالمي بنيويورك، إضافة إلى مقرّ وزارة الدفاع في البنتاغون، ومبنى الكابيتول حيث مقرّ مجلسيْ النواب والشيوخ في واشنطن (سقطت الطائرة الرابعة من دون تحقيق هدفها المحدّد)؟ أم كان يعتبرها ضربة ماحقة لا تقوم منها أميركا أبداً، فلا تردّ على الضربة بضربات متلاحقة على مدى عقدين؟

هذه نقطة أساسية، راجت حولها تكهّنات كثيرة خلال عشرين عاماً منذ تلك الأحداث المهولة التي روّعت العالم. فأنصار التنظيم خاصةً، والتيّار السلفي الجهادي عامةً، تبنّوا مدّة طويلة الفكرة الثانية، وهي أنّ ابن لادن استدرج أميركا إلى المستنقع الأفغاني عمداً، لاستنزافها وإلحاق الهزيمة بها. مع أنّ هذا يخالف أبسط قواعد التفكير الإسلامي التقليدي، من قبيل “لا ضرر ولا ضِرار” و”الضرر لا يُزال بالضرر”. في حين كانت حركة طالبان في 9 أيلول، أي قبل يومين من الهجمات، قد تخلّصت من آخر عدو لها، وهو أحمد شاه مسعود، باغتياله. فلا تضرّ مَن لا يضرّك، ولا تردّ على الضرر الواقع بك، بما يجلب لك ضرراً مماثلاً أو أكبر منه. فما جرى في الولايات المتحدة، من هذا المنظور، يُدين التنظيم من وجهة نظر إسلامية، مهما قلّبت النظرات أو التبريرات.

 

سوء تقدير ابن لادن

لكنّ الحقيقة في مكان آخر. فابن لادن لم يستدرج أميركا، وهو أخطأ التقدير، فوقعت الكارثة آنذاك بحركة طالبان وتنظيم القاعدة، وهو ما يظهر في مراجعات ابن لادن للحادثة في مراسلاته الجارية إلى حين قتله، كما تقول الباحثة نيللي لحود في دراسة مكثّفة نشرتها مجلّة “فورين أفيرز” (Foreign affairs)، وهي التي اطّلعت على نحو 96 ألف وثيقة، من أصل 470 ألف وثيقة مكتوبة ومرئية ومسموعة مصادَرة من منزل ابن لادن، رُفِعت عنها السرّية عام 2017.

من بين الوثائق التي حلّلتها لحود على مدى السنوات الثلاث الأخيرة، 6 آلاف صفحة باللغة العربية هي عبارة عن مراسلات داخل التنظيم وبين أسامة وأسرته. وبحسب هذه المراسلات، فإنّ المرّة الأولى التي خطر فيها لابن لادن ضرب الولايات المتحدة كانت عام 1986، بسبب دعمها لإسرائيل. وبعد أسابيع من استهداف المدمّرة الأميركية “كول” في ميناء عدن، أي في تشرين الأول من عام 2000، عقد ابن لادن العزم على استهداف البرّ الأميركي. وكانت الغاية تحطيم القوة التي لا تُقهر، وإجبارها على الانسحاب من البلدان الإسلامية كي يتسنّى للجهاديين إسقاط الأنظمة.

تميّز الزرقاوي بهجماته العشوائية ضدّ شيعة العراق، التي استدعت اعتراضاً من ابن لادن، وسطّر الظواهري ذلك في رسالة مشهورة

لكنّ ابن لادن، بحسب هذه المراسلات، لم يتوقّع أبداً أن تردّ واشنطن على تلك الهجمات بشنّ الحرب. بل توقّع أن يخرج الأميركيون في تظاهرات غاضبة كما حدث إبّان الحرب في فيتنام، مطالبين بالانسحاب الأميركي من البلدان الإسلامية. وما حدث هو العكس تماماً. فاجتاحت أميركا أفغانستان في تشرين الأول من 2001، وسقط حكم طالبان، ولم يكن تنظيم القاعدة مستعدّاً لهذا السيناريو. فدبّت الفوضى في أركانه، ولجأ الأفراد مع أُسرهم إلى باكستان في منطقة القبائل الباكستانية وإلى إيران. وتعرّضوا لملاحقات شديدة، بالتعاون مع الأجهزة الاستخبارية في العالم. بل تكشف هذه الوثائق أنّ تنظيم القاعدة فَقَد القدرة على شنّ أيّ هجوم آخر.

أمّا العملية اللاحقة، التي وقعت في تشرين الثاني من عام 2002 في كينيا، فقد أمكن تنفيذها لأنّ أفراد المجموعة المنفّذة كانت خرجت من أفغانستان قبل الاجتياح الأميركي.

وبقي ابن لادن هارباً ثلاث سنوات من دون أيّ اتصال بقيادة الصف الثاني للتنظيم، أي حتّى عام 2004. وعندما استعاد الاتصال برفاقه، طلب تجهيز ضربات أخرى في الولايات المتحدة. إلا أنّ الظروف الميدانية كانت تغيّرت كثيراً في غيابه. وظهر في العراق أبو مصعب الزرقاوي منافساً قوياً للقاعدة وجاذباً للجهاديين في العالم. وقد فاجأهم بطلبه مبايعة ابن لادن.

انضمّ الزرقاوي إلى القاعدة من دون أن يتبنّى استراتيجيّتها القائلة بضرب العدو البعيد كأولويّة، وعدم التورّط في قتال العدو القريب، أي الأنظمة السياسية المحليّة. وقد تميّز الزرقاوي بهجماته العشوائية ضدّ شيعة العراق، التي استدعت اعتراضاً من ابن لادن، وسطّر الظواهري ذلك في رسالة مشهورة. لكنّ شيئاً لم يتغيّر، بل كان فرع القاعدة في العراق نواة داعش الذي قَلَب استراتيجية التنظيم الأمّ رأساً على عقب. فهو سعى إلى إقامة دولة، فيما يدعو ابن لادن إلى انتظار سقوط واشنطن أوّلاً، فضلاً عن التوسّع في سفك دماء الأبرياء على نحوٍ غير مسبوق. أمّا خليفة ابن لادن، أيمن الظواهري، فقد انشغل، منذ عام 2014، بمكافحة النفوذ الصاعد لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، الذي تمكّن في مدّة وجيزة من تهميش نفوذ القاعدة.

لحود، التي سيُنشر كتابها “أوراق ابن لادن: كيف كشفت غارة أبوت أباد الحقائق عن تنظيم القاعدة، وعن قائده، وأسرته The Bin Laden Papers: How the Abbottabad Raid revealed the Truth about Al Qaeda, its Leader and his Family” في 12 نيسان عام 2022، تكشف عبر مراسلات تنظيم القاعدة، أنّ التنظيم لم يكن ينظر إلى حركة طالبان ككتلة واحدة. بل كانت ثمّة شكوك في أنّ بعض فصائل الحركة تسعى إلى التقرّب من الولايات المتحدة، وعقد الاتفاق معها، سعياً منها إلى نزع صفة الإرهاب عنها، وهو ما جاء في رسالة القيادي الليبي عطية الله إلى ابن لادن عام 2007. أمّا الظواهري فحذّر ابن لادن، في رسالة إليه عام 2010، من أنّ حركة طالبان “باتت مستعدّة نفسياً كما يبدو” لعقد صفقة مع الولايات المتحدة، وهذا سيترك تنظيم القاعدة في حالة عجز.

مواضيع ذات صلة

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…