في يوم جمعة منتصف ثمانينيّات القرن الماضي، كنتُ في إحدى القرى الجبليّة المطلّة على بيروت، برفقة بعض الأصحاب لقضاء بعض الحوائج. دهمنا وقت الظهر، فراح السائق يغذّ السير بحثاً عن أقرب مسجد ما زالت صلاة الجمعة قائمة فيه، في محاولة لإدراكها. كان راديو السيّارة يبثّ الصلاة مباشرة من أحد مساجد بيروت. وكان الأمل يحدونا بأن ندرك الصلاة في مسجد ما. وصلنا إلى مسجد الأوزاعيّ، فخاب أملنا، ونحن نشاهد المصلّين يخرجون تباعاً. ومن مسجد إلى آخر، كان المشهد يتكرّر أمامنا إلى أن أدركنا مسجد المصيطبة. كان القاضي محمد كنعان، رحمه الله، هو الخطيب الدائم. وكان معلوماً عنه إطالة الخطبة، وإصراره على تناول الشؤون السياسيّة في كلّ جمعة. وكان هو أملَنا الوحيد في ذلك اليوم، ولم يخيّب ظنّنا. كان لا يزال يخطب في المصلّين بعد مرور ثلاثة أرباع الساعة من أذان الظهر. دخلتُ المسجد متوقّعاً انتهاء الخطبة في أيّ لحظة، لكنّها استمرّت ربع ساعةٍ إضافيّاً. أمّا موضوع الخطبة، وهو الشاهد هنا، فهو الردّ على خطبة سابقة للمفتي الجعفري الممتاز آنذاك الشيخ عبد الأمير قبلان، رحمه الله، قال فيها في عزّ سطوة الميليشيات على بيروت، إثر انتفاضة 6 شباط عام 1984، التي قامت بها حركة أمل وبقية الأحزاب والقوى في بيروت الغربية، ولا سيّما حركة المرابطون: “لقد خرجنا من القمقم ولن نعود إليه”.
التجربة العراقية الغنيّة طبعت حيوات مراجع الشيعة في لبنان، وأكسبتهم خبرات واسعة في التعامل مع مكوّنات شعب متعدّد المذاهب والطوائف
المغزى كان واضحاً، وهو أنّ الشيعة انطلقوا من حالة انكفاء قسريّ أو اختياريّ إلى الانتشار والتوسّع، ومن الركون في هوامش الحركات اليساريّة والقوميّة إلى رحاب حركة أمل، الرافعة للصوت الشيعيّ سياسيّاً، والجامعة لأكثريّة الطائفة تحت عباءة قائد واحد. لكنّ توقيت الكلام كان مثيراً للجدل في الأوساط البيروتيّة التي عانت من تجاوزات تلك المرحلة. كان الشيخ قبلان معروفاً جيّداً بعفويّته وارتجاليّته حين يكون خطيباً. وكانت مواقفه الصادرة عنه كلّ أسبوع، وفي كلّ مناسبة، حديث الشارع البيروتي في تلك المرحلة العصيبة، مع انحسار الدولة، ودخول الحرب الأهليّة انعطافات غير مسبوقة، من الصراع اليساري اليميني في السبعينيّات، إلى الاحتراب الطائفي المسيحيّ الإسلاميّ لاحقاً، ثمّ التشقّقات المذهبيّة السنّيّة الشيعية، بعد انتفاضة 6 شباط، بالتوازي مع صراعات متعاقبة على السلطة داخل المناطق المسيحيّة.
بعد سنوات قليلة، وتحديداً عام 1990، التقيتُ الشيخ قبلان في دار الإفتاء في بئر حسن من أجل الشكوى لديه. كانت حرب الإلغاء في أوجها بين الجيش بقيادة العماد ميشال عون وقائد القوات اللبنانية سمير جعجع. وكانت المناوشات العسكريّة بين حزب الله وحركة أمل قد انحسرت نسبيّاً مع انقسام الضاحية بين الحزب ومعقله حارة حريك وبئر العبد وحواليهما، والحركة في الشيّاح. كنتُ في الحارة أبتاع كتباً من دار نشر فيها، والمنطقة مزدحمة بدور النشر والمطابع. خرجتُ في سيارة أجرة، فإذا بالسائق يسلّمني إلى حاجز للحركة في حي المصبغة مشتبهاً في أنّه حصل على غنيمة، بوصفي عنصراً من الحزب، لأنّي أحمل كتباً دينية، وغفل عن أنّها لعلماء سُنّة من القرون الفائتة. بعد ساعتين من التعنيف والتهديد، خاب ظنّ الخاطفين الذين كانوا يتهامسون فيما بينهم أنّهم سيبادلون بي عناصر مُعتَقَلة من الحركة لدى الحزب. لم يعتذروا طبعاً عمّا فعلوه، بل قيل لي إنّي أستحقّ. عدتُ إلى بيروت، وأخبرتُ بما حدث معي، شيخاً سنّيّاً أعرفه منذ سنوات، وله علاقات واسعة بالوسط الشيعي، فأصرّ على اصطحابي مع رفاق لي إلى الشيخ قبلان للشكوى. ذهبتُ معهم، فكان اللقاء الأول والأخير، مع المفتي الجعفري الممتاز الذي كنتُ أسمع خطبه دائماً، ونتداول كلماته بين الرفاق. استمع إلى تفاصيل الحادثة بكلّ اهتمام. فكان تعليقه مفاجئاً بعض الشيء. قال لنا: “تأتي إلينا شكاوى كثيرة عنهم. وأنا أفكّر جدّيّاً في ترك حركة أمل بسببهم!”. كان ردّه على الشكوى ممزوجاً بشيء من الدهاء والحنكة. فهو وإن كان رئيس الهيئة الشرعية في الحركة آنذاك، إلا أنّه لا يستطيع ضبط تصرّفات مسلّحي الشوارع والزواريب، بل لم يكن قادتهم العسكريون أو السياسيون بقادرين على ضبطهم. ففي حروب الميليشيات غالباً ما يؤثّر زعيم شارع أو قرية في قرارات قيادية، من دون توافر قدرة أو رغبة بالصدام معه.
كان الشيخ قبلان معروفاً جيّداً بعفويّته وارتجاليّته حين يكون خطيباً. وكانت مواقفه الصادرة عنه كلّ أسبوع، وفي كلّ مناسبة، حديث الشارع البيروتي في تلك المرحلة العصيبة
وممّا يدلّ على حسن التصرّف، تمكّنه من أمرين متوازيين. الأوّل متابعة ما بدأه الإمام موسى الصدر صاحب النهضة الشيعيّة الحديثة، ونائبه الإمام محمد مهدي شمس الدين رحمه الله، على صعيد تنمية المؤسسات والأوقاف، واهتمامه بالشؤون الاجتماعيّة على تنوّعها وضخامة أعبائها. والثاني الوقوف بثبات بين قامات دينية وسياسية رفيعة ذات قدر ونفوذ في البيئة الشيعيّة، تتجاوز بشعبيّتها الواسعة ما كان يحظى به مقام الإفتاء الجعفري أو رئاسة المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى ابتداء من الثمانينيّات. فلم يعهد الشيعة طوال تاريخهم مرجعيات دينية رسمية، بل كان الجمهور المؤمن هو مَن يصعّد مرجعيّات ويصدّرها من خلال تقليدها واتّباع فتاويها. وفي لبنان، امتزجت الزعامة الدينية والسياسية أحياناً في شخص رجل الدين، فيما كان الشيخ قبلان من أسرة علمائية تقليدية، ودرس في النجف مدّة طويلة، وخالط الحياة العراقية بكلّ تقلّباتها السياسية حتى عام 1963 حين عاد إلى لبنان. وما من شكّ أنّ التجربة العراقية الغنيّة طبعت حيوات مراجع الشيعة في لبنان، وأكسبتهم خبرات واسعة في التعامل مع مكوّنات شعب متعدّد المذاهب والطوائف.
إقرأ أيضاً: بأمان الله “مولانا”… يا ظلّ الصدر
وفي الخلاصة، لم يكن عالماً تقليدياً منعزلاً عن هموم المجتمع، ولم يغلب عليه الخطاب السياسي فيُحسب على رجالات الشأن العام. كانت فيه تركيبة مميّزة فيها من كلّ أوجه الحياة.