قبل ستّة أعوام.. أَفْتى قادةٌ في تنظيم داعش بكُفر حركة طالبان، وأفتوا بكُفر تنظيم القاعدة، لأنَّه لم يقُم بتكفير حركة طالبان!
في ذلك الربيع من عام 2015، بثّ تنظيم القاعدة تسجيلاً صوتياً لثلاثة من المسؤولين في تنظيم داعش، يُفتون فيه بردّة “الملاّ عمر” و”أسامة بن لادن”. يتضمّن التسجيل نقاشاً “شرعيّاً” بين “أبو أسامة العراقي” الذي كان يشغل منصب ما يُسمّى بـ”والي” داعش على الحسكة، و”أبو محمد التونسي” المسؤول الشرعي في تنظيم داعش بالحسكة، و”أبو مصعب التونسي” المسؤول الشرعي بالتنظيم في دير الزور.
تضمّن النقاش اتّهام داعش لطالبان بالكُفر لأنّها فتحت سفارات لدى “النظم الكافرة”، وتعاملت مع “النظام الدولي الكافر”. وجرى اتّهام “أسامة بن لادن” بـ”الإرجاء” و”الردّة” لأنَّهُ لم يكفِّر طالبان. و”المرجئة” هي فرقة إسلامية خالفتْ “أهل السُّنّة” في قضايا عديدة.
بالتوازي مع ذلك، راحتْ مجلّة “دابق” الناطقة باسم تنظيم “داعش” تُشكِّك في عقيدة طالبان والقاعدة، فواصلتْ اتّهام بن لادن بأنَّهُ “مرجئ”، وقالت: “إنّ أسامة بن لادن كان رأساً في الإرجاء، ومخالفاً لعقيدة أهل السنّة والجماعة. وإنَّ الملا عمر كان رأساً من رؤوس الضلال، وأمّا أيمن الظواهري فهو منحرفٌ وضالّ”.
على الجانب الآخر، قام تنظيم القاعدة بتكفير داعش، وشنّ تيار السلفيّة الجهاديّة المؤيّد للقاعدة هجوماً واسعاً على داعش، وكان من بين نصوص الحملة: “إنّهم أعلنوا خلافتهم الوهميّة، ليستقطبوا غُلاة العرب والعجم، وليتبعهم مَن لا علم له ولا فقه”.. “إنّ داعش يسرحون ويمرحون في دماء المسلمين، وإنّ خلافتهم المزعومة لم تأتِ على الأمّة إلاّ بالشّرّ بعد أن شاهدنا ما حلَّ بعد إعلان دولتهم من قتلٍ لأهل الشام والعراق”.
اتّهم تنظيم القاعدة تنظيم داعش بالكُفر، ورأت القاعدة أنّ الجهاد ضدّهم باعتبارهم كُفّاراً هو أمرٌ واجب: “إنَّ جهاد الكُفّار لا يحتاج إلى موافقة من هيئة الأمم. جهاد الخوارج لا يحتاج إلى فتوى من هيئة شرعية، أو موافقة من أحد”.. “والله.. لو كان الخلاف بين التنظيميْن من أجل دنيا ما قاتلناهم. ولكنّ الخلاف بيننا وبينهم هو خلاف بين منهجين، لأنّهم خوارج”.
تسابقَ شيوخ السلفيّة الجهادية إلى “تكفير” أو “تفسيق” أو “تسفيه” البغدادي ومَن معه. ونشرت المواقع الجهادية بياناً بعنوان “عشرة علماء ضدَّ الخلافة”. وفي البيان كفَّر أبو بصير الطرطوسي وطارق عبد الحليم وهاني السباعي تنظيم داعش، واعتبروه ضمن “طائفة الخوارج”.
إبّان الحرب القاعدية – الداعشية نجحَ تنظيم داعش في اختراق حركة طالبان، وإحداث انشقاق لعددٍ من قياداتها الذين أعلنوا تنظيم داعش في أفغانستان وباكستان، وما حولهما
ثمّة حرب أخرى إلى جوار “حرب التكفير”. إنّها “حرب البيعة”، ذلك أنّ القاعدة وداعش يتبادلان الاتّهام بشأن مَن خانَ العهد ونكثَ بالبيعة. ترى القاعدة أنّ “أبو بكر البغدادي” كان عضواً فيها، وأنّه انشقّ عن القاعدة بسبب الحقد والكيْد وطمع السلطة.
في بدايات الصراع أعلن الظواهري “حلّ تنظيم داعش”، وقال إنّ “جبهة النصرة” هى وحدها صاحبة الولاية في سوريا، وأنّ عناصر داعش المنشقّين يجب أن يعودوا كما كانوا إلى صفوف القاعدة.
أعلن تنظيم داعش أنّه ليس جزءاً من القاعدة، وأنّ هناك إمارتيْن إسلاميّتيْن فقط: في أفغانستان والعراق. وأنّ الإمارة الإسلامية في أفغانستان قد تحوّلت من “إمارة مُمَكّنة” إلى “إمارة حرب” بعد الغزو الأميركي لأفغانستان، وأنّ الإمارة في العراق قد تحوّلت من “إمارة حرب” إلى “إمارة مُمَكّنة”. وعلى ذلك، فالسلطة الشرعية هي للمسلمين في العراق، وليست في أفغانستان. ولا يتبع العراق أفغانستان، وإنّما تتبع أفغانستان العراق.
جاء ردّ القاعدة بأنّ العكس هو الصحيح، ذلك أنّ العراق هو إمارة حرب، وأنَّ إمارة أفغانستان هي “إمارة مُمَكّنة” قبل وبعد الغزو، وهي تمتدُّ من أفغانستان إلى باكستان، حيث يدين كلّ أعضاء طالبان في البلدين لأمير المؤمنين الملاّ عمر محمد، وتدين القاعدة بالسمع والطاعة لطالبان، وكان الشيخ أسامة بن لادن جندياً من جنود أمير المؤمنين الملاّ عمر.
دعتْ القاعدة داعش إلى مبايعة طالبان، ودعا تنظيم داعش “أمير” القاعدة أيمن الظواهري إلى مبايعة “الخليفة” أبو بكر البغدادي، وبين الدعوتيْن راحتْ وسائل الإعلام الجهادية تضرب ذات اليمين وذات الشمال.
مضتْ الحرب بين داعش والقاعدة، وبين داعش وطالبان.. ساخنة وباردة، تارةً بالسلاح والدماء، وأخرى بالفقه والشرع. كانت “الخطبة” تلو “الخطبة”، وكانت “الرصاصة” تلي “الرصاصة”، وكلّ جماعةٍ تلعنُ أختها!
يا لحركة التاريخ الدائرية. ها نحن نشهد “عودة التاريخ” من جديد. ما كان بين طالبان والقاعدة من جهة، وداعش من جهة أخرى، عاد بين طالبان وخراسان من جديد. الاتّهامات نفسها، والأقوال ذاتها، والفتاوى عينها. حتى بدتْ السنوات الست الفائتة وكأنّها دقائق ستّ، أو دون ذلك!
إبّان الحرب القاعدية – الداعشية نجحَ تنظيم داعش في اختراق حركة طالبان، وإحداث انشقاق لعددٍ من قياداتها الذين أعلنوا تنظيم داعش في أفغانستان وباكستان، وما حولهما.
أصبح اسم الانشقاق الطالباني الذي بايع داعش “ولاية خراسان”.. والذي سرعان ما قام بعمليّات ضدَّ حركة طالبان. يُشبه تنظيم القاعدة تنظيم داعش في كوْنه تنظيماً عولميّاً عابراً للحدود. وتختلف طالبان عنهما في أنّها تعلن رغبتها في إنشاء “إمارة” لا “خلافة”، وأنّها تريد بسطَ سلطتها على أفغانستان لا خارجها.
إذاً تنظيم القاعدة، الذي يبايع طالبان ويتّفق معها فكرياً وعقائدياً، يختلف عنها في رؤيته العولميّة. ولكنّ ذلك ليس الاختلاف الوحيد، فلقد أصبحت القاعدة عبئاً على طالبان، وداخل طالبان مَن يرفض هجمات 11 أيلول الإرهابية، ويرى ضرورة قطع العلاقة مع القاعدة. ويعمل هؤلاء على توسيع المسافة بين القاعدة وطالبان مع عودة السلطة إلى كابول في هذا العام 2021.
إنّ الملاحظة الأكثر أهميّة في هذا السياق هو الجدل بشأن “الإمارة المُمَكّنة”، ذلك أنّ هزيمة داعش في العراق وسوريا لم تجعل لخلافة البغدادي وجوداً. فهو لم يهبط من مستوى الخلافة إلى مستوى الإمارة فحسب، بل خرج من جغرافيا المكان. وبالمقابل أصبحت “طالبان 2021” إمارة مُمَكّنة.
يقول قادة طالبان إنّهم سيكونون أكثر انفتاحاً، وإنّهم لن يدعموا تنظيم القاعدة، ولن يهاجموا دولاً أخرى، وسيلتزمون بحدود بلادهم. لكنّ مَن يضمن ذلك الخطاب السياسي باعتباره استراتيجياً لا مرحليّاً؟
ما الذي يمنع “الإمارة المُمكّنة” في أفغانستان، حين يزداد تمكينها، من السعي إلى الترقّي من “الإمارة” إلى “الخلافة”؟ وما الذي يمنع القاعدة من الكمون المؤقّت، لتفادي الضغوط الدولية، وتفادي بعض مكوّنات طالبان المعارضة، إلى حين الوصول إلى مرحلة التمكين، ثمّ المشاركة في المشروع الطالباني العالمي لتجاوز الحدود إلى ما وراءها، ومناهضة “النظام الدولي الكافر”؟
إقرأ أيضاً: الإعلامي المصري أحمد مسلماني: طالبان لن تستمرّ
إنّ أفغانستان أمام احتماليْن كبيريْن: أنْ تفشل طالبان بعد حين وتنهار السلطة المركزية في البلاد، أو أنْ تنجح طالبان وتهدأ القاعدة، ثمّ يتمّ الانتقال من “جهاد الدولة” إلى “الجهاد الدولي”. بعبارة أخرى: إمّا الحرب الأهليّة واللادولة، أو الانتقال من “الإمارة” إلى “الخلافة”، وفي كلٍّ منهما شرّ.
*كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً لرئيس الجمهورية المصرية السابق عدلي منصور..
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
عضو مجلس جامعتيْ طنطا ومطروح، وعضو مجلس كليّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.