النفط العراقي: هكذا سقطت محاولات السمسرة

مدة القراءة 6 د

خلال أقلّ من أسبوعين، من المفترض أن يكون لبنان على موعد مع تسلّم 30 ألف طنّ من الفيول الثقيل، و33 ألف طنّ من الغاز أويل، من شركة “إينوك” الإماراتيّة، في مقابل تسلّم الشركة 84 ألف طنّ من النفط الأسود الذي سيقدّمه العراق للبنان. وبذلك يكون مسار “النفط العراقي” قد دخل حيّز التنفيذ أخيراً بعد أشهر من المراوحة الغامضة، التي فاحت منها رائحة محاولات السمسرة اللبنانيّة، والتي أثارت امتعاض الجانب العراقي بوضوح.

وإذا كانت تفاصيل التذاكي اللبناني في هذا الملف ظلّت موضوع تكهّن المتابعين طوال الفترة الماضية، من دون أن تتسرّب تفاصيل محاولات السمسرة بدقّة، فالأيام الماضية بدأت تكشف شيئاً فشيئاً خبايا ما جرى، وهي معطيات ننقلها عن مصادر تابعت مجريات التفاوض على مدى الأشهر الماضية.

وافق الطرف العراقي على إجراء العمليّة وفقاً للصيغة التي طرحها لبنان، أي عبر استبدال شحنات النفط العراقي بآليّة “السبوت كارغو”، لكنّه اشترط إجراء مناقصة دوليّة شفّافة لاختيار الشركات التي ستقوم بهذا الاستبدال

كما كان معروفاً منذ البداية، لم يكن بإمكان لبنان الاستفادة من النفط العراقي بشكل مباشر في معامل الكهرباء الموجودة لديه، بسبب ارتفاع معدّلات الكبريت مقارنة بالمعدّلات القابلة للاستخدام في المعامل اللبنانيّة. الخيار الأقلّ كلفة بالنسبة إلى الدولة اللبنانيّة، كان الاعتماد على مصافٍ نفطيّة قريبة، وذات قدرة إنتاجيّة مرتفعة لتكرير النفط بالسرعة القصوى، مع إمكان سداد كلفة التكرير بتقديم نسبة من المحروقات المكرّرة.

لهذا السبب بالتحديد، دفع الجانب العراقي أوّلاً باتّجاه الاعتماد على المصافي المصريّة لهذه الغاية، المعروفة بتقنيّاتها العالية، وقدرتها الإنتاجيّة المرتفعة والسريعة. مع الإشارة إلى أنّ العراق بدأ منذ فترة التأسيس لأطر تعاون وتبادل تجاري في قطاع الطاقة مع مصر والأردن، سيسمح للبنان بالاستفادة من خدمات تكرير المحروقات العراقيّة في المصافي المصريّة بشروط تفضيليّة. ومن ناحية مصر، كان ثمّة استعداد لتقديم عرض مغرٍ من ناحية كلفة العمليّة، خصوصاً أنّ القدرة الاستيعابيّة لمصافيها الموجودة تفوق تلك المستخدمة حالياً.

في كلّ الحالات، ولأسباب ستنكشف لاحقاً، قرّر الجانب اللبناني إهمال هذا الخيار، في مقابل طرح تسلّم النفط العراقي والاحتفاظ بحريّة مبادلته بالمحروقات القابلة للاستخدام في معامل الكهرباء مع شركات أخرى يختارها لبنان. وهذه الخطوة بالتحديد أثارت ريبة الجانب العراقي عند طرحها، لكونها ستعني تكبيد لبنان كلفة مضاعفة، سيتم سدادها عبر تقديم قيمة إضافيّة من المحروقات المكرّرة للشركات التي ستقوم بهذه المبادلة. المثير للدهشة أنّ خيار الالتزام مع طرف محدّد مثل مصر على امتداد العقد، لتكرير النفط العراقي، كان بإمكانه أن يضمن استقرار تزويد مؤسسة كهرباء لبنان بالمحروقات القابلة للاستخدام، وبكلفة واضحة وثابتة. أمّا خيار الـ”سبوت كارغو”، أي الاستبدال المباشر لكلّ شحنة على حدة، الذي قرّر لبنان اللجوء إليه، فلا يضمن أيّاً من ذلك.

عند هذا الحدّ، بدأ الجانب العراقي تلمّس وجود قطبة مخفيّة في العمليّة، وتحديداً بعدما تنبّه إلى أنّ وزارة الطاقة والمياه اللبنانيّة لا تحتاج إلى القيام بمناقصات عامّة واستدراج عروض لإجراء عمليات “السبوت كارغو”. ولهذا السبب، بدأ الجانب العراقي يتشدّد في شروط العقد، خصوصاً أنّ العراقيين قدّموا الكثير من التسهيلات في طريقة الدفع، إلى الحد الذي جعل الفيول أشبه بمساعدات لن يتمّ سداد قيمتها إلا بعد سنة من إرسالها، ومقابل سيولة في مصرف لبنان لا يمكن استخدامها إلا للحصول على “استشارات طبّيّة” يصعب ضمان تقديمها منذ اليوم. وفي الوقت نفسه، لم يرغب العراقيون بالتورّط في عمليّة يمكن أن تنتج عنها فضائح فساد في المستقبل ستضع الحكومة العراقيّة أمام شارعها في صورة الطرف الذي يفرِّط بثروته النفطيّة من أجل صفقات تتربّح منها أطراف لبنانيّة.

بدأ الجانب العراقي تلمّس وجود قطبة مخفيّة في العمليّة، وتحديداً بعدما تنبّه إلى أنّ وزارة الطاقة والمياه اللبنانيّة لا تحتاج إلى القيام بمناقصات عامّة واستدراج عروض لإجراء عمليات “السبوت كارغو”

لذا بدأ الجانب اللبناني بالمماطلة والتسويف لتفادي توقيع العقد بالشروط العراقيّة، من خلال التغاضي عن إرسال المختصّين التقنيّين في وزارة الطاقة إلى العراق للتباحث في نوعيّة الفيول الذي تحتاج إليه المنشآت اللبنانيّة، ثمّ تأجيل تقديم الملاحظات على العقد المقترح من العراق.

في النهاية، وافق الطرف العراقي على إجراء العمليّة وفقاً للصيغة التي طرحها لبنان، أي عبر استبدال شحنات النفط العراقي بآليّة “السبوت كارغو”، لكنّه اشترط إجراء مناقصة دوليّة شفّافة لاختيار الشركات التي ستقوم بهذا الاستبدال. واشترط أيضاً المشاركة في اختيار الشركات التي ستتأهّل للمشاركة في هذه المناقصة.

وبعد توقيع العقد والوصول إلى مرحلة اختيار الشركات المتأهّلة للمشاركة في المناقصة، ظهرت “القطبة المخفيّة” التي أخفاها الجانب اللبناني منذ البداية، والتي تمثّلت في شركات مستحدَثة حاول اللبنانيون إقحامها في المناقصة، ومنها شركات غير معروفة أبداً في هذا المجال. وتبيّن أنّ إهمال عرض تكرير النفط في المصافي المصريّة، والإصرار على خيار “السبوت كارغو”، كان يُخفي رغبة بتوجيه الصفقة في اتّجاه تنفيع أطراف ثالثة من خلال عمليّة استبدال النفط العراقي بالمحروقات القابلة للاستخدام في شركة الكهرباء.

لكن في المحصّلة، وبفعل الإصرار العراقي، اقتصرت الشركات، التي شاركت في المناقصة في النهاية، على ثلاثٍ عالميّة معروفة، وجميعها من الشركات التي تعمل في الخليج العربي، وتتّصل عمليّاتها النفطيّة بعمليات تصدير وتسويق المحروقات العراقيّة. أمّا نتيجة المناقصة فكانت فوز شركة “إينوك” الإماراتيّة بعقد استبدال الفيول العراقي بمحروقات قابلة للاستخدام في لبنان.

إقرأ أيضاً: عقد الفيول: بلد مأزوم يلعب بـ”النفط الأسود”

هكذا سقطت محاولات السمسرة على هامش المساعدات التي يقدّمها العراقيون إلى لبنان. لكنّ هذه المحاولات كشفت في النهاية أنّ ثمّة مَن يصرّ على الذهاب حتّى النهاية في نسج الصفقات المشبوهة على حساب اللبنانيين، ولو كان ذلك على حساب بعض المساعدات التي يُفترض أن تحدّ من وطأة الانهيار.

مواضيع ذات صلة

بين لاريجاني وليزا: الحرب مكَمْلة!

دخلت المرحلة الثانية من التوغّل البرّي جنوباً، التي أعلنها الجيش الإسرائيلي، شريكة أساسية في حياكة معالم تسوية وقف إطلاق النار التي لم تنضج بعد. “تكثيفٌ”…

هل تملأ مصر فراغ التّسليم والتّسلّم؟

يترنّح المسار التفاوضي الذي تقوده الولايات المتحدة الأميركية تحت وطأة الضغوط العسكرية التي تمارسها الحكومة الإسرائيلية في عدوانها الوحشي بحقّ لبنان. في الأثناء، يواظب الموفد…

برّي ينتظر جواب هوكستين خلال 48 ساعة

تحت وقع النيران المشتعلة أعرب الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترامب عن موافقته على أن يستكمل الرئيس جو بايدن مسعاه للوصول إلى اتّفاق لوقف إطلاق النار…

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…