بين الأربعاء في العشرين من أيلول 2000 وبين الأربعاء في الأوّل من أيلول 2021 مرّت 21 عاماً على لبنان كأنّها قرنٌ كاملٌ وأكثر. في التاريخ الأوّل صدر نداء المطارنة الموارنة الذي طالب بإعادة انتشار الجيش السوري تمهيداً لانسحابه. وأمّا في الثاني فصدر بيان المطارنة الموارنة الذي اتّهم قوى إقليميّة ومحليّة تابعة لها بالدفع نحو زوال لبنان الحرّية والسيادة والاستقلال وسلامة الأراضي. وعلى كثرة تغيّر الأحوال في لبنان وسوريا والمنطقة بين هذين التاريخيْن يكاد المرء يقول إنّه لا ظروف مشتركة بين النداءين إلّا اليوم الذي صدرا فيه وهو يوم أربعاء وشهر أيلول.
مع ذلك تدفع مقارنة أوّليّة بين النداءين إلى استنتاج أمرين رئيسيّين:
1- الأوّل أنّ البطريرك الراحل نصرالله صفير تطرّق في النداء الذي كتبه بيده إلى “الوضع الاقتصادي المزري الذي يعرفه لبنان اليوم، وقد دلّت إحصاءات جدّيّة على أنّ نصف الشعب اللبناني أصبح يعيش تحت عتبة الفقر”، متحدّثاً عن مصانع تقفل ومدارس خاصة يتناقص عدد طلّابها، وخرّيجي جامعات يلجأون إلى الخارج… إلخ. وهو ما يشير إلى أنّ ملامح الأزمة الاقتصادية كانت قد بدأت بالظهور منذ عشرين سنة، وعلى الرغم من ذلك لم يحصل إجماع سياسي داخلي على تدارك تفاقمها. وهذا فشل فادح لكلّ الطبقة السياسية منذ ذلك الحين.
إذا كان النداءان متشابهين لهذه الناحية الاقتصادية، فإنّ هناك فارقاً جوهرياً بينهما يتّصل بوضعيّة حزب الله في لبنان بين عام 2000 وعام 2021
2- والمؤشّر الثاني والأهمّ أنّ سوء الأوضاع الاقتصادية شكّل دفعاً قوياً لنداء المطارنة وقتذاك، وقد ذكّر النداء بأنّه “ما من اقتصاد سليم من دون سياسة سليمة”، وتحدّث عن “سياسة غير سليمة مفروضة على لبنان”.
وكما نداء أيلول 2000، كان نداء أيلول 2021 مدفوعاً أيضاً بالتداعيات الكارثية للأزمة الاقتصادية التي دفعت نحو 75 في المئة من الشعب اللبناني إلى ما تحت خط الفقر وفق آخر الإحصاءات، وهو رقم مخيف وينذر بانهيار المجتمع لا الدولة وحسب.
أين يختلف النداءان؟
إذا كان النداءان متشابهين لهذه الناحية الاقتصادية، فإنّ هناك فارقاً جوهرياً بينهما يتّصل بوضعيّة حزب الله في لبنان بين عام 2000 وعام 2021.
في نداء عام 2000، تحدّث المطارنة عن “حكمة من حرّروا الجنوب بما بذلوه من دماء زكيّة في سبيل التحرير، بدافع من حميّة وطنيّة صحيحة، وقد مهّدوا السبيل للدولة لتبسط سلطتها على جميع أراضيها (…)”.
أمّا في نداء 2021 فها هم يتّهمون الحزب، من دون أن يسمّوه، بالتبعية لقوى إقليمية يدفع وإيّاها لبنان صوب الزوال.
ولعلّ هذا الفارق الأساسي بين النداءين، المتعلّق بحزب الله، يدفع إلى مراجعة السنوات العشرين الماضية برمّتها. وهي عشرون سنة من الأزمات السياسية والأمنيّة والاقتصادية المتتالية وصولاً إلى الانهيار الكبير.
الخلاصة الأولى أنّ الحزب طوال تلك السنوات كان يقارب الواقع اللبناني بذهنيّة المنتصر الذي يعجز عن تثمير انتصاره في القبض على مقاليد الحكم والسيطرة على المجتمع، فكان طوال الوقت في موقع هجومي حتّى عندما يعلن أنّه في موقع دفاعي أو أنّه يتعرّض للحصار.
سوء الأوضاع الاقتصادية شكّل دفعاً قوياً لنداء المطارنة وقتذاك، وقد ذكّر النداء بأنّه “ما من اقتصاد سليم من دون سياسة سليمة”، وتحدّث عن “سياسة غير سليمة مفروضة على لبنان”
وعلى هذا المنوال، انتقل الحزب من الصراع مع إسرائيل إلى الصراع مع الأفرقاء اللبنانيين الذين يرفضون هيمنته على الواقع اللبناني، وخصوصاً بعد خروج الجيش السوري من لبنان في أعقاب اغتيال رفيق الحريري.
نعم، لقد أضاع الحزب فرصة كبيرة في تثمير التحرير في السياق الوطني، إذ اختار أنّ يعطي للتحرير منحىً إقليمياً. وإذا كان هذا المغزى قد بقي خافتاً بعد السنوات الأولى للتحرير، فإنّه ظهر بقوّة بعد حرب عام 2006 التي أهدى السيّد حسن نصرالله “الانتصار الإلهي” فيها إلى النظام السوري تعويضاً على انسحابه من لبنان.
ولا ريب أنّ أحد الأسباب الرئيسة للأزمة السياسية الوطنية أنّ حزب الله يرفض أن يسائل سياساته، وأن يعترف باختلاف نظرة أكثرية اللبنانيين إليه ما بين عام 2000 وعام 2021. وهو ما تعبِّر عنه بقوّة المقارنة بين نداءيْ المطارنة الموارنة في هذين العامين.
يحصل ذلك في وقت يلمس حزب الله المعارضة، لا السياسية وحسب، بل أيضاً الشعبية المتنامية ضدّه، وقد عبّرت عنها أحداث سياسية وأمنيّة مختلفة في الأشهر القليلة الماضية، ولعلّ أهمّها اعتراض شبّان من بلدة شويّا لراجمة صواريخ تابعة للحزب وأحداث خلدة مع العرب السنّة وخلافات شيعية – شيعية أبرزها في صور بين مناصريه وبين مناصري حركة أمل.
أيّاً يكن من أمر، فإنّ الموضوع يبقى سياسياً أوّلاً، أي أنّ جوهر الصراع هو جوهر سياسي متّصل برفض شرائح واسعة من اللبنانيين ومن بيئات سياسية وطائفية مختلفة لهيمنة الحزب السياسية والأمنيّة على البلد، وخصوصاً أنّ هذه الشرائح باتت تربط علناً بين الأزمات المعيشية التي تواجهها بوتيرة متصاعدة وبين وضع الحزب لبنان على فالق الصراع الإقليمي والدولي. ولذلك يحاول الحزب نفي هذه التهمة عنه من خلال استقدام محروقات من إيران أقرّ بنفسه أنّها لن تعالج المشكلة… فالأزمة باقية على حالها ما دامت “السياسة غير سليمة”، بحسب توصيف نداء أيلول 2000.
والفارق الآخر بين النداءين أنّ الأوّل كان موجّهاً ضدّ جهة خارجية حصراً، وهي الجيش والاستخبارات السورية في لبنان، بينما الثاني وُجِّه ضدّ جهة إقليمية وفريق محلي تابع لها ولو لم يسمِّهما، لكن من المعلوم أنّ المقصود هو إيران والحزب.
وهذا الفارق يعقِّد الأزمة لا العكس لأنّه يؤكّد أنّ الأزمة داخلية ولو بخلفيّات إقليمية. فالصراع داخلي بين اللبنانيين أنفسهم هذه المرّة، فيما كان في عام 2000 بين الغالبية اللبنانية وبين الوصاية السورية على لبنان. ولعلّ أهميّة تظاهرة 14 آذار 2005 أنّها أكّدت وقوف الغالبية اللبنانية ضدّ هذه الوصاية، وهو ما جعل الحزب يرجع خطوات إلى الوراء بدءاً بقبوله إجراء انتخابات عام 2005، وبلوائح مشتركة مع الأحزاب الرئيسة في “14 آذار”. ولكنّه ما لبث أن عاد إلى الهجوم الذي توَّجه في 7 أيّار 2008، ثمّ من خلال دعمه تعطيل انتخابات رئاسة الجمهورية حتّى انتخاب حليفه ميشال عون.
كانت مطالبة الراعي بالدعوة إلى استقالة عون، على أحقيّتها السياسيّة والوطنية، تستبطن مناورةً من قبل القوى السياسية التي تخاصم العهد وتداري الحزب
لذلك كان أَسْر الانتخابات الرئاسية وقتذاك حائلاً دون إبرام تسوية سياسية فعليّة بين القوى المتخاصمة منذ عام 2005، بل إنّ الهدف من قبل الحزب كان تسوية بشروط استسلامية لقوى “14 آذار”. وهي تسوية سرعان ما فشلت فشلاً ذريعاً، فانتقل الحزب من دعم التسوية بين الرئيسين ميشال عون وسعد الحريري إلى دعم رئاسة ميشال عون. وهنا بيت القصيد.
الراعي لا يدعم عون
فالقول إنّ البطريرك بشارة الراعي هو الداعم الرئيس لعون هو قول يفتقر إلى الحدّ الأدنى من الذكاء السياسي، أو هو قول يمثّل انتهازية سياسيّة صافية. إذ إنّ الداعم الأساسي لرئاسة ميشال عون كان ولا يزال حزب الله. وما لبثت القوات اللبنانية أن شعرت بالخيانة من شريكها في “تفاهم معراب”، لأنّها اكتشفت أن لا شريك لعون إلّا الحزب، والعكس صحيح.
لذا كانت مطالبة الراعي بالدعوة إلى استقالة عون، على أحقيّتها السياسيّة والوطنية، تستبطن مناورةً من قبل القوى السياسية التي تخاصم العهد وتداري الحزب. فهي لا تذهب إلى المطالبة بقوّة باستقالة العهد مداراةً للحزب المتمسّك به ولو تفكّكت الدولة وزال لبنان. وهل الحزب والعهد ممتعضان ممّا يحصل في لبنان ما دام الانهيار يمكّنهما من السيطرة أكثر على الدولة والمجتمع؟ أولم تبيّن مسيرة الحزب طوال العشرين سنة الماضية أن لا أولوية تعلو عنده فوق الأولوية الإقليمية المتمثّلة بانتصار المشروع التوسّعي الإيراني، ولو على حساب دول واقتصادات ومجتمعات البلدان التي تمتلك فيها طهران نفوذاً قويّاً إلى حدّ اعترافها بالسيطرة على أربع عواصم عربية.
لذلك حتّى لو لم يكسر الراعي القاعدة البطريركية التاريخية بعدم المطالبة باستقالة الرئيس، فإنّه في الوقت عينه قد يحذو حذو البطريرك أنطوان عريضة في عدم معاندة المطالبة الوطنية باستقالة الرئيس. والعريضة هو البطريرك الذي يقف حائلاً أمام المطالبة بإقالة الرئيس بشارة الخوري، الذي استقال في نهاية الأمر.
وإذا قال البطريرك باستقالة الرئيس، فهل تحذو القوى السياسية الكبرى حذوه ولو ضدّ حزب الله المتمسّك حتّى النهاية بالرئيس؟
انطلاقاً ممّا سبق، يقع موضوع استقالة الرئيس في مكان آخر.
فلبنان يعيش منذ أكثر من سنة بلا حكومة لأنّ الرئيس عون لا يوقّع على تشكيلة حكومية ليس له فيها “الثلث المعطِّل” (وإذا كان الرئيس يصفه بالثلث الضامن فلماذا يصرّح هو ومصادره أنّه لا يريده؟!).
هذا الواقع غير المسبوق في تاريخ لبنان، وفي ظّل الأزمة الاقتصادية التي تعدّ ثالث أسوأ أزمة في العالم منذ منتصف القرن التاسع عشر، قد يعرِّض لبنان لحرب أهلية جديدة، خصوصاً إذا استمرّ الرئيس على تعنّته بحجّة تحصيل “حقوق المسيحيين”. وهو تعنّت بات من الواضح أنّه يثير امتعاضات طائفية قويّة.
إقرأ أيضاً: البطريرك قائداً مسيرة الاستقلال الثالث
لذلك فإنّ المُطالَب بعقْد تسوية حقيقية هو حزب الله. وهي تسوية عنوانها الأساسي استقالة الرئيس عون ضمن ترتيب سياسي انتقالي يمنع الفراغ في السلطة في المرحلة المقبلة. فأيّ محاولة من قبل الحزب لإبقاء عون في القصر بعد انتهاء ولايته، وإلى حين إيجاد بديلٍ موالٍ له وللحزب، هي تمديدٌ للأزمة ودفعٌ بها إلى مطارح خطيرة. وإذا كان المناخ الدولي مؤاتياً للحزب، أو هكذا يخيّل له، فإنّ الأمر نفسه حصل للوصاية السورية أكثر من عقد من الزمن، وفي النهاية انتهت.
والخلاصة أن ليس البطريرك الراعي مَن يغطّي الرئيس، وإنّما حزب الله.