أدخلت الأزمة الحكومية البلاد في نقاش حول عمل المؤسسات الدستورية، ولا سيّما في عهد حكومة تصريف أعمال واستحقاقات مقبلة قد لا تتحقّق.
بدأ الجدل في إمكان بقاء رئيس الجمهورية ميشال عون في قصر بعبدا تحت عنوان ضرورة تسيير أعمال الدولة وعدم إفراغ الموقع الأول في الجمهورية اللبنانية، في ظلّ عدم القدرة على تشكيل حكومة تتولّى المهامّ المنوطة بها دستورياً.
ينفي القصر الجمهوري أيّ كلام عن عمل المستشارين القانونيين في القصر على صياغة المخرج القانوني لبقاء عون في بعبدا بعد انتهاء ولايته.
الدستور حدّد بوضوح مواعيد انتخاب رؤساء الجمهورية وكيفيّة انتقال السلطة. أمّا حكومات تصريف الأعمال فهي استثناء وليست قاعدة، ولو لم يتمّ تحديد مهل للتشكيل
غير أنّ هذا النفي لم يُقنِع خصوم عون الذين يستندون في اتّهامهم فريق رئيس الجمهورية بالعمل على بقاء عون في بعبدا إلى أنّ القصر سيُعيد طرح دراسة قانونية كان قد شارك في إعدادها القاضي بيتر جرمانوس عام 2013، في عهد الرئيس السابق ميشال سليمان، خلصت إلى ضرورة بقاء رئيس الجمهورية في موقعه في ظلّ حكومة تصريف أعمال.
وهنا نصّ الدراسة:
“تقرير مرفوع من القاضي الدكتور بيتر جرمانوس إلى جانب الرابطة المارونية المحترمة في الفراغ بسدّة رئاسة الجمهورية:
نصّت المادة 49 من الدستور على أنّه يُنتخب رئيس الجمهورية بالاقتراع السرّي بغالبيّة الثلثين من مجلس النواب في الدورة الأولى، ويُكتفى بالغالبية المطلقة في دورات الاقتراع التي تلي. وتدوم رئاسته ست سنوات، ولا تجوز إعادة انتخابه إلا بعد ست سنوات لانتهاء ولايته.
ونصّت المادة 62 من الدستور على أنّه في حال خلوّ سدّة الرئاسة لأيّة علّة كانت تناط صلاحيّات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء.
في حين نصّت المادة 69 من الدستور على أنّه تُعتبر الحكومة مستقيلة في الحالات الآتية:
أ- إذا استقال رئيسها.
ب- إذا فقدت أكثر من ثلث عدد أعضائها المحدّد في مرسوم تشكيلها.
كما أنّ الدستور أتى على ذكر رئيس الجمهورية في الفصل الرابع المخصّص للسلطة الإجرائية، فيكون الأخير جزءاً لا يتجزّأ منها.
وبما أنّ كافّة الفقهاء قد أجمعوا على عدم جواز تفريغ السلطة الإجرائية، واعتمدوا نظرية ضرورة استمرارية المرفق العام عملاً بمبدأ الأعمال اليومية. يُراجَع:
Les affaires courantes désignent les décisions quotidiennes du gouvernement qui sont nécessaires au fonctionnement ininterrompu du service public. Il s’agit, en attendant la fin des négociations pour la formation d’une nouvelle équipe gouvernementale, d’éviter une vacance totale du pouvoir exécutif.
Le contenu exact de ces affaires courantes n’a fait l’objet d’aucun texte de droit. L’action du gouvernement d’affaires courantes est donc, de fait, surtout délimitée par l’expérience politique traditionnelle de ce genre d’exercice et par le droit coutumier.
Pour le professeur de droit Francis Delpérée, les affaires courantes sont de trois types: les affaires banales, usuelles, permettant à l’État de fonctionner; les affaires en cours, déjà bien entamées lorsque le gouvernement était de plein exercice et qui doivent être finalisées; les affaires urgentes, qui doivent impérativement être traitées pour éviter de faire courir «à l’État et aux citoyens, à la vie économique et sociale du pays de très graves dangers».
(الترجمة الحرفيّة للنص: إن الأعمال الاعتيادية تحدّد القرارات الحكومية اليومية التي هي ضرورية لتشغيل المرفق العام دون انقطاع. وبانتظار انتهاء المفاوضات من أجل تشكيل فريق حكومي جديد، ينبغي تجنّب الفراغ الكامل للسلطة التنفيذية.
إنّ المحتوى الدقيق للأعمال الروتينية لم يتناوله أيّ نص قانوني. وإنّ العمل الحكومي في هذا المجال هو محدّد واقعاً بالخبرة السياسية التقليدية بهذا النوع من الممارسة وبالعرف القانوني.
وبحسب بروفسور القانون الفرنسي ديلبيريه، فإنّ الأعمال الاعتيادية هي على ثلاثة أنواع: الأعمال العادية التي تسمح بتشغيل الدولة، والأعمال التي بدأتها الحكومة عندما كانت تتمتّع بكامل صلاحيّاتها ويجب إتمامها، والأعمال الطارئة التي يجب التعامل معها وجوباً حتى لا تتعرّض “الدولة والمواطنون، والحياة الاقتصادية والاجتماعية لأخطار جسيمة جدّاً”).
ينفي القصر الجمهوري أيّ كلام عن عمل المستشارين القانونيين في القصر على صياغة المخرج القانوني لبقاء عون في بعبدا بعد انتهاء ولايته
وبما أنّ المسألة الدستورية المطروحة حاليّاً هي التالية: هل يجوز لفخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان عند انتهاء ولايته، وفي حال عدم القدرة على انتخاب رئيس بديل له، أن يسمح بتفريغ سدّة الرئاسة وبإناطة سلطتها بحكومة مستقيلة؟
الجواب على هذا السؤال هو بالنفي. للأسباب التالية:
أ- إنّ حكومة مستقيلة هي غير ذي صفة كي تُناط بها صلاحيّات رئيس جمهورية لكون صلاحيّاتها الأساسية تُعتبر منقوصة ومحدودة بحكم القانون.
ب- إنّ تفريغ سدّة الرئاسة يتعارض مع مبدأ تسيير المرفق العام، وهو سيؤدّي إلى تفريغ السلطة الإجرائية برمّتها.
ت- إنّ مبدأ استمرارية الحكم يوجب على فخامة الرئيس ويملي عليه عدم مغادرة قصر بعبدا وتسيير الأعمال اليومية إلى حين تسليم الأمانة لرئيس جديد منتخب، أو بحالة التجديد لولايته، وعندها يبقى في قصر بعبدا، أو في حالة تشكيل حكومة جديدة بعد نيلها ثقة مجلس النواب.
خلاصة:
إنّ مغادرة الرئيس سليمان لقصر بعبدا وتسليمه للفراغ أمر ينطوي على مخاطر جمّة للوطن، كما على المسيحيين عموماً، والموارنة تحديداً. وإنّ تجربتنا السابقة في هذا المجال تجعلنا نجزم بوجوب بقائه في بعبدا لتسيير الأعمال اليومية حتى انتخاب رئيس جديد أو التجديد لولايته أو تشكيل حكومة تأخذ الثقة في البرلمان. من المستحسن أن يقوم غبطة البطريرك أبينا بشارة الراعي بإبلاغ فخامته بعدم قبول الطائفة المارونية بإفراغ سدّة الرئاسة من شاغلها للأسباب المبيّنة أعلاه على أن تقوم الرابطة المارونية بالإعلان عن هذا القرار.
مع جزيل الاحترام
بيروت في 12/9/2013
القاضي بيتر سمير جرمانوس”.
فتح هذا الكلام الباب واسعاً أمام جدل قانوني حاد. إذ اعتبر قانونيّون أنّ هذه الخلاصة في حال اعتمادها تفتح باباً خطيراً يمكن لرئيس الجمهورية في أيّ عهد أن يلجأ إليه في حال أراد البقاء في موقعه، وذلك عبر عرقلة تشكيل حكومة وإبقاء البلاد في ظلّ حكومات مستقيلة. غير أنّ الدستور حدّد بوضوح مواعيد انتخاب رؤساء الجمهورية وكيفيّة انتقال السلطة. أمّا حكومات تصريف الأعمال فهي استثناء وليست قاعدة، ولو لم يتمّ تحديد مهل للتشكيل إلا أنّ الدستور يفترض تداول السلطة عبر تنفيذ أحكامه وعدم ترك الاستثناء يحكم البلاد.
منذ أيّام جرى نقاش على موقع تويتر حول هذه المسألة تدخّل فيه الرئيس ميشال سليمان قائلاً: “عام 2013 جاء مَن ينصحني بتعقيد عملية تشكيل الحكومة كي أستمرّ في الرئاسة في ظلّ وجود حكومة مستقيلة. فشكرتهم على لفت نظري وأبلغتهم بأنّني لا أرغب بالبقاء، فعملت على تسهيل التشكيل. وفي كل الأحوال هذه الفتوى لم أقتنع بها”.
يربط المراقبون اليوم عمق الأزمة الحكومية بهذا الكلام. ماذا سيفعل الرئيس ميشال عون في حال استمرّ عهده في ظلّ حكومة تصريف أعمال؟ هل يبقى في القصر؟ الجواب رهن تشرين المقبل من العام المقبل.