بين تأكيد وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو أنّ أنقرة تتواصل مع دمشق حول القضايا الأمنيّة ومحاربة الإرهاب، وأنّ “المفاوضات اللازمة جارية على مستوى الخدمات الخاصّة الاستخبارية”، وبين نفي وزارة خارجية النظام السوري في دمشق “بشكل قاطع وجود أيّ نوع من التواصل والمفاوضات” الأمنيّة أو الاستخبارية، تستقرّ الكرة في ملعب بغداد التي يُقال إنّها توسّطت بين الطرفين من أجل أن تستضيف لقاءً أمنيّاً يجمع رئيس جهاز الاستخبارات التركية الوطنية هاكان فيدان ورئيس جهاز الأمن السوري علي مملوك.
تردّد أنقرة باستمرار أنّها تعقد لقاءات “فنّيّة” على مستوى أجهزة الاستخبارات مع الجميع عند الضرورة، وهي فعلت ذلك أكثر من مرّة مع العراق ومصر والإمارات وإسرائيل وغيرها
لكنّ أمرين كانا لافتين:
– أوّلاً: تبنّي وسائل إعلام تركيّة مقرّبة من الحكم والمعارضة على السواء للخبر، والتأكيد عبر “مصادر”، ورسم سيناريوهات متعدّدة حول مكان اللقاء والدور العراقي فيه وجدول الأعمال المحتمل.
– ثانياً: بينما كانت وسائل إعلام عربية تنسب إلى مصدر في وزارة خارجية النظام نفيه مثل هذه الأنباء “بشكل قاطع”، كان وزير الخارجية التركي مولود شاووش أوغلو يترك الباب مشرعاً أمام مثل هذه الأنباء: “حوار سياسي مع دمشق غير ممكن. المجتمع الدولي لا يعترف بالنظام. على المستوى الدبلوماسي هناك حوار.. المفاوضات اللازمة جارية على مستوى الخدمات الخاصّة والاستخبارات فقط.. وهذا أمر طبيعي”.
في أعقاب اللقاء الأوّل الذي عُقِد برعاية روسية في موسكو بين فيدان ومملوك في 13 كانون الأول من عام 2020، لم تنفِ دمشق اللقاء، ولم تتحدّث خارجيّتها بهذا الأسلوب. ما الذي أزعجها هذه المرّة؟ الكشف المبكر عن الخطّة؟ أم إحراجها أمام حلفائها الروس والإيرانيين؟ أم الدور العراقي الذي ربّما يكون قد حظي بدعم وتفويض عربيّين وإقليميّين للقيام بمبادرة من هذا النوع؟
يؤكّد شاووش أوغلو المعلومة عندما يبيّن سببها وهدفها الرئيسي، حسب تركيا، بقوله: “أميركا أشعلت الفوضى بعد انسحابها من العراق. أشعلت الفوضى بعد انسحابها من أفغانستان. انسحابها من سوريا مسألة تعنيها. لكنّ أميركا من خلال دعم مجموعات انفصالية في سوريا تفعل ما يعاكس حماية وحدة سوريا وأمن حدودها”.
قلق الانسحاب الأميركي
إذاً من الواضح أنّه إلى جانب حالة القلق التي تسود المنطقة بسبب تطوّرات المشهد الأفغاني، هناك حالة من القلق مرتبطة بسيناريو الانسحاب الأميركي من سوريا وما قد يحمله من تطوّرات عسكرية ميدانية تقلب الطاولة رأساً على عقب. وإذا ما عُقِد اللقاء التركي السوري الاستخباري فسيكون مرتبطاً بخطط الانسحابات الأميركية من المنطقة، واحتمال المغادرة المفاجئة للأراضي السورية، تماماً كما فعلت واشنطن في أفغانستان.
عند انطلاق الثورة السورية، ثمّ تطوّرها إلى مواجهات مسلّحة ضد نظام بشار الأسد، كان العداء بين دمشق وأنقرة في أوجه، بحكم دعم تركيا لفصائل المعارضة. تدخّلت روسيا وإيران لمصلحة النظام في دمشق. وتدخّلت أميركا لمصلحة الأكراد في شرق سوريا. ووجدت أنقرة نفسها وحيدة بعد تدهور علاقاتها مع العديد من العواصم العربية والغربية التي كانت تنسّق معها في سوريا. فهل يتغيّر المشهد القائم بعد الآن؟ هل تتقاطع اليوم مصالح وأولويّات أنقرة ودمشق في سوريا والمنطقة؟ هل تذهب حكومة العدالة والتنمية إلى تغيير جذريّ في سياستها السورية، وتتراجع عن المطالبة بإسقاط الأسد ليصبح ذلك شيئاً من الماضي، وهي التي بدأت تراجع طريقة تعاملها مع العديد من القضايا الإقليمية؟
هل من المحتمل أن نرى النظام وأنقرة في صفّ واحد بمثل هذه السهولة؟ أين التنسيق الاستراتيجي بين تركيا وقوى المعارضة السورية المقرّبة منها والمحسوبة عليها؟ ألن يهدّد ذلك علاقات أنقرة بخصوم الأسد من لاعبين عرب وغربيّين؟ ثمّ هناك مسألة: هل تسمح موسكو وطهران للنظام بقبول وساطة عراقية من دون معرفة كلّ تفاصيلها ومسارها والهدف منها؟
لا جديد بعد حول موعد اللقاء أو جدول أعماله، لكنّ من التسرّع المبالغة في التفاؤل وتوقّع تسجيل اختراق أو بناء جسر تواصل سياسي منقطع بين أنقرة ودمشق منذ عام 2012 بعد اندلاع الثورة السورية. أمّا المؤكّد فهو ارتباط اللقاء المحتمل بالتطوّرات الإقليمية الإيجابية في نطاق الحوار التركي مع مصر والعراق والسعودية والإمارات، والقمم الثلاثية المصرية الأردنية العراقية في الآونة الأخيرة. فما هي فرص رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي الذي يعرف فيدان ومملوك جيّداً بحكم وظيفته الأمنيّة السابقة وعلاقاته الشخصية بالرجلين؟
تقول أنقرة إنّها نجحت في تدمير مخطّط بناء ممرّ إرهابي على حدودها الجنوبية، لكنّ المؤكّد أنّ مادة النقاش الأولى في اللقاء ستتناول سيناريو ما بعد انسحاب أميركي من شرق الفرات، وطريقة التعامل مع “قسد”، ومصير الإدارة الذاتية المعلنة هناك، إلى جانب تطوّرات المشهد في منطقة خفض التصعيد شمال غرب سوريا.
إلى جانب حالة القلق التي تسود المنطقة بسبب تطوّرات المشهد الأفغاني، هناك حالة من القلق مرتبطة بسيناريو الانسحاب الأميركي من سوريا وما قد يحمله من تطوّرات عسكرية ميدانية تقلب الطاولة رأساً على عقب
لا مبالغة في التفاؤل
المؤكّد أيضاً أنّه حتى لو تمّ اللقاء بين فيدان ومملوك، فلا توجد دلالات على احتمال عودة العلاقات بين أنقرة والنظام في دمشق إلى ما كانت عليه قبل عقد لأنّ المواقف التركية الرسمية كلّها لا تزال تصعِّد ضدّ الأسد، وتحمِّله مسؤولية إيصال الأمور إلى ما هي عليه في سوريا، وتطالب برحيله لتسهيل المرحلة الانتقالية هناك.
من دون إعداد جيّد للملفّات سيكون من الصعب تحقيق أيّ إنجاز، ولن يكون لمثل هذا اللقاء أيّ قيمة. فهل جهّزت بغداد مفاجآت بهذا الاتجاه أيضاً؟ هل يمكن التعويل على انسحاب أميركي قريب من سوريا يكون سبباً كافياً لعقد مثل هذا الاجتماع بوساطة عراقية وليس روسية أو إيرانية؟ هل لفرنسا حصّة في الاقتراح في ضوء التقارب الواسع بين بغداد وباريس؟ وهل يعطي ذلك فرصة أقوى للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون لتسجيل اختراق إقليمي آخر بعد جلوسه أمام طاولة قمّة الحوار والشراكة العراقية؟ وهل شعر ماكرون أنّ الانسحاب الأميركي من سوريا سيكون على حساب فرنسا أيضاً، حليف أكراد سوريا الذين قد يُتركون لوحدهم، كما حدث في المشهد الأفغاني مع حلفاء واشنطن المحليّين هناك؟
تردّد أنقرة باستمرار أنّها تعقد لقاءات “فنّيّة” على مستوى أجهزة الاستخبارات مع الجميع عند الضرورة، وهي فعلت ذلك أكثر من مرّة مع العراق ومصر والإمارات وإسرائيل وغيرها. هل تسريب الخبر هو من أجل إنجاح اللقاء أم لقطع الطريق عليه باكراً؟
لا حاجة إلى القول إنّ لقاءً يُعقد بين طرفين متخاصمين منذ سنوات طويلة على مستوى الأجهزة الأمنيّة سيكون كافياً لتبديد الخلافات، والتفاهم حول خارطة طريق جديدة ثنائية وإقليمية. لكنّ هدف إضعاف نفوذ “قسد” ودورها وداعميها الأميركيين في سوريا قد يكون حافزاً للتقريب بين أنقرة ودمشق، خصوصاً إذا ما صحّت الأنباء عن استعدادات أميركية للانسحاب من سوريا.
ردّدت تركيا أكثر من مرّة أنّها لن تعارض تقدّم قوات النظام لملء الفراغ الذي ستتركه القوات الأميركية في شرق الفرات لأنّ “الأرض أرضهم”، كما قيل. لكنّ حقيقة أخرى تقول إنّ أنقرة لا تزال متمسّكة برحيل النظام في دمشق، وهي معضلة أخرى في الحوار. فمَن سيُقنع الآخر، ولِمَن ستكون الغلبة؟
اعتبر وزير الدفاع التركي خلوصي أكار أنّ اجتماع رئيس الاستخبارات التركي بنظيره السوري، في موسكو قبل عام ونصف، بحضور روسي: “هدفه الحفاظ على المصالح التركية، وإحلال الاستقرار في المنطقة”.
إقرأ أيضاً: العراق يتمرّد: ثلاث لاءات عربية
يقول المشهد الميداني في شمال غرب سوريا، حسب موسكو وطهران، إنّ النظام في دمشق أخذ الكثير ممّا أراده في إدلب، وهو لا يزال يحاول تضييق الخناق على تركيا وحلفائها السوريين غير عابىء بأيّ كارثة إنسانية قد يتسبّب بها. وسيُشعل حتماً انسحابٌ أميركيٌّ مفاجىء الجبهاتِ بكاملها في سوريا. ووساطة عراقية بهذا الاتجاه ستكون متعدّدة الأهداف والجوانب، ومدعومة إقليمياً ودولياً، وأكثر من أن تكون “استكشافية” بعد الكشف عن جهود ووساطات عراقية مشابهة على أكثر من مستوى، وبين أكثر من طرف في الآونة الأخيرة.