شفافيّة الرئيس على متن ناقلة النفط الإيرانيّة

مدة القراءة 7 د

طالب رئيس الجمهورية ميشال عون الأجهزة العسكرية والأمنيّة والقضائية بالتعاطي بشفافيّة مع المواطنين في ما خصّ نتائج الدهم الذي تقوم به لمستودعات الأدوية والموادّ الغذائية ومحطات الوقود.

حقّاً إنّ الشفافيّة مطلوبة بقوّة في ظلّ وضع كهذا، وإن كان السؤال عن أسباب عدم تعاطي الأجهزة الأمنيّة والقضائية بشفافيّة مع المواطنين، كما يوحي كلام الرئيس عون، سؤالاً مشروعاً جدّاً ويحتاج إلى جواب من الرئيس قبل سواه.

لكنّ هذا ليس كلّ الموضوع. فالرئيس الذي أكّد أنّه “لن يتردّد في وضع كلّ الحقائق أمام الرأي العام”، أغفل عن حقيقة رئيسية، وهي أنّ لبنان من دون حكومة منذ أكثر من عام. وذلك في وقت يواصل الانهيار المالي والاقتصادي تسجيل الأرقام القياسية، وآخرها في نسب اللبنانيين الذين هاجروا أو الذين يرغبون في الهجرة. وقد نُقِل عن أحد مراكز استطلاعات الرأي أنّ 77 في المئة من الشباب اللبنانيين يطمحون إلى الهجرة.

ما عادت المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية مسألة سياسية بين الرئيس وخصومه، وإنّما قضية وطنية متّصلة ببقاء الدولة والدستور أو سقوطهما

وعلى الرغم من ذلك كلّه فإنّ الرئيس يريد أن يحصر الأزمة في “الممارسات اللاأخلاقية واللاإنسانية للمحتكرين”، الذين يجب أن يُحاسَبوا فعلاً، لكن لا يجب أن تتاح الفرصة للسلطة لتحويلهم إلى سبب الأزمة لكي تتيح لنفسها التخفّف من مسؤوليّتها عنها، وتحديداً مسؤولية الإخفاق في إيجاد حلول تدريجية للأزمة، أو أقلّه الحدّ من تفاقمها. فمسؤولية أيّ سلطة في العالم هي أن تجنِّب بلادها الأزمات حتّى لو كانت جذور تلك الأزمات قديمة.

أمّا الرئيس وفريقه الذين يتّهمون سياسات الحكم خلال السنوات الثلاثين الماضية بالتسبّب بالأزمات، وهم شاركوا في الحكم منذ 15 سنة، يتناسون أنّهم فشلوا في معالجة الأزمة منذ نحو سنتين، لا بل كانوا سبباً رئيساً في تفاقم الأزمة لأنّهم مسؤولون عن قرارات السلطة التنفيذية خلال هذه الفترة، وكان أخطرها وأكثرها ضرراً، بحسب العارفين، وقف دفع سندات اليوروبوندز. ثمّ إنّ عدم اتفاق الرئيس عون مع رئيسين مكلّفين زهاء عام كامل، وقد مرّ على تكليف الثالث أكثر من شهر، يحمّل العهد المسؤولية الأولى عن إبقاء لبنان بلا حكومة في وقت هو في أمسّ الحاجة إليها.

وإذا كان العهد يريد أن يحمّل المسؤولية عن وقوع الأزمة لـ”الحكومات المتعاقبة”، فهو يتحمّل المسؤولية عن إنكار حجم الأزمة، والتصرّف كما لو أنّها محصورة التداعيات، ويمكنه مواصلة معاركه السياسيّة، وربط تأليف الحكومة بحيازته “الثلث المعطِّل”. ثمّ يتحدّث العهد عن الشفافيّة ومكافحة الفساد في بلد منهار على جميع المستويات، ولمَ الاستغراب؟ ألا يتحدّث بشّار الأسد عن الديموقراطية في سوريا بعد مقتل 500 ألف سوري وتهجير الملايين وتدمير المدن والقرى.

وإذا كانت دعوة الرئيس لأجهزة الدولة إلى توقيف المحتكرين ومحاكمتهم دعوةً مطلوبةً أصلاً، فإنّها، ويا للمفارقة، تحصل في وقت يترقّب “لبنان – حزب الله” (على ما أشارت مصادر الحزب) تدفّق حمولة ناقلة النفط الإيرانية إلى الأراضي اللبنانية. لكنّ العهد لم يعلّق على الموضوع، وطلب من وزيره ريمون غجر أن يقول إنّ وزارة الطاقة لا علم لها بهذه الباخرة. هل هذا النوع من الشفافيّة هو الذي يطالب به العهد الأجهزة القضائية والأمنيّة؟!

أيّاً يكن من أمر فإنّ كميّة من المحروقات ستدخل لبنان برّاً من سوريا على الأرجح لعدم إحراج الرئيس المكلّف والعهد، كما قيل، لكن ماذا عن “إحراج” وزارة الخزانة الأميركية، إذ صرّح السيناتور الأميركي كريس ميرفي من بيروت أنّ أيّ وقود يُنقَل عبر سوريا خاضع للعقوبات. فحتّى لو “تغاضت” واشنطن عن إدخال المازوت الإيراني إلى لبنان هذه المرّة، فمَن يضمن عدم إخضاع لبنان للعقوبات في المرّات التالية بحسب تبدّل المواقف الإقليمية والدولية؟

من جهتها، لا تمانع البؤر السياسية والإعلامية الحليفة للعهد في سرّها استقدام البواخر الإيرانية الذي يعبِّر عن عمق الأزمة لا عن إمكانات حلّها. وبذلك يسدل العهد الذي يطالب سيّده بكشف الحقائق ستاراً جديداً على حقيقة الأزمة المتمثّلة بعجز مصرف لبنان عن الاستمرار في توفير العملة الصعبة للتجار وفق سعر صرف لا يؤدّي إلى ارتفاع جنوني في أسعار السلع، وهو ما يهدّد بفوضى أمنيّة واجتماعية بدأنا نشاهد نُذُرها الخطيرة من عكّار إلى الجنوب.

تقع المسؤولية السياسية عن الوضع الراهن وعن تطوّراته السلبية على الرئيس عون، وتقع أيضاً على القوى السياسيّة التي تعارض سياسات العهد، ولكنّها تمتنع عن المطالبة باستقالة الرئيس تحت ذرائع طائفية ومصلحية

لكنّ هذه التعمية على الحقائق من قبل العهد وحليفه الحزب ليست هروباً إلى الأمام ومحاولةً لرفع مسؤولية الأزمة عن عاتقهما وحسب، وإنّما تنطوي على استراتيجية قوامها رهن البلد وأهله للمصالح السياسية لكلا الطرفين أيّاً تكن التبعات الكارثية لذلك على البلد وأهله.

وإذا كان العهد محدود المصالح، إذ يمكن اختصارها بتوريث جبران باسيل الكرسي الرئاسي والزعامة على المسيحيّين، فإنّ مصالح الحزب أكبر بكثير، وهي تتجاوز الحيّز اللبناني بالنظر إلى طبيعة العلاقة بين الحزب والجمهورية الإسلامية في إيران. وفي السياق نفسه، ليست قليلة الدلالة الرسالة الموجّهة من الرئيس الإيراني الجديد إلى السيّد نصرالله، شكلاً ومضموناً.

لذلك فإنّ انهيار الدولة الحالية التي بذل الحزب ولا يزال يبذل جهداً مادياً وسياسياً وأمنيّاً كبيراً للإمساك بمفاصلها بالنظر إلى الطبيعة المعقّدة للنظام اللبناني التي تصعّب هيمنة أيّ فريق طائفي على بقيّة الأفرقاء، يجعل الحزب يطمح إلى قيام نظام سياسي – اقتصادي جديد أقلّ استنزافاً له، وأكثر اعترافاً بحضوره الشعبي والسياسي والأمنيّ، خصوصاً أنّ مراكز الثقل الاقتصادي والخدماتي في لبنان لا تزال بعيدة حتّى الآن عن الدوائر المباشرة للحزب.

لكنّ السؤال: هل الحزب قادرٌ فعلاً على الدفع باتجاه نظام جديد؟ حتّى الآن ليست لديه قدرة إقناع كبيرة بمشروعه على المستوى اللبناني العامّ، لا بل إنّ قدرته هذه تتراجع. وهو ما يحوّله قوّة هيمنة تستقطب ولاءات مصلحية كبرى أو صغرى ضمن البيئات الطائفية الأخرى، لكنّها لا تشكّل مشروعاً سياسياً بديلاً قابلاً للتحقّق بمرونة. ولذلك تسعى استراتيجية الحزب الراهنة إلى الإبقاء على تفوّقه في القدرة على الاستفادة من انهيار الدولة على المديَيْن القريب والبعيد.

وهذه استراتيجية للحزب موصولة حكماً بالاستراتيجية الإيرانية في المنطقة التي تقوم على تقويض بنى الدولة أو إبقائها تحت التهديد المباشر للميليشيات، كما يحصل في العراق. ولذلك لم يكن خطاب وتصرّف وزير الخارجية الإيراني الجديد مستغرَبيْن في قمّة بغداد السبت الماضي، إذ يعكسان ضيق طهران من سعي بغداد إلى صوغ دور إقليمي جديد يُخرجها من أسر الاستقطاب الإيراني – الأميركي. والمستغرَب أنّ طهران لم تبلغ لبنان بأجواء قمّة بغداد، واكتفت بإبلاغ سوريا بها، مع أنّ البلدين غابا عن القمّة؟!

لذلك كلّه، ما عاد يمكن النظر إلى موضوع الحكومة من زاوية الضرورات اللبنانية الملحّة، إذ إنّ الحكومة، أيّ حكومة، ستكون خاضعة لهيمنة الحزب الموصولة بالهيمنة الإيرانية في المنطقة في لحظة تصعيد إيراني عبّر عنها الوزير عبد اللهيان في قمّة بغداد، وأكّدها تجدّد القصف الحوثي على الأراضي السعودية.

إقرأ أيضاً: ميقاتي حوّل الباخرة إلى بانياس.. والحريري يتشدّد

والأخطر أنّ تلك الهيمنة تتلاقى حتّى الآن مع المصالح الآنية للعهد، ولذلك تحظى بتغطيته. فما عادت المطالبة باستقالة رئيس الجمهورية مسألة سياسية بين الرئيس وخصومه، وإنّما قضية وطنية متّصلة ببقاء الدولة والدستور أو سقوطهما. وكما تقع المسؤولية السياسية عن الوضع الراهن وعن تطوّراته السلبية على الرئيس عون، فهي تقع أيضاً على القوى السياسيّة التي تعارض سياسات العهد، ولكنّها تمتنع عن المطالبة باستقالة الرئيس تحت ذرائع طائفية ومصلحية، أو لأنّها لا تريد إثارة الحزب الذي يتمسّك بالرئيس بوصفه غطاءه الداخلي، بعدما أصبحت المبادرة الفرنسية نوعاً من الغطاء الخارجي له. فهي عوض أن تكون طريقاً للخروج من الأزمة أصبحت سبباً في تعميقها.

وأمّا المتشكّكون فيمكنهم أن يتمعّنوا في عبارات عبد اللهيان في معرض حديثه عن دعوة الرئيس إيمانويل ماكرون له لزيارة فرنسا، فربّما يدركون حجم دور فرنسا – ماكرون في المنطقة وأهدافه!   

مواضيع ذات صلة

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…