على الرغم من مضيّ أكثر من ثلاثين عاماً لا يزال مسيحيّو شرق صيدا يتذكّرون قصص تهجيرهم من بلداتهم بتفاصيلها عام 1985. لم تشفَ ذاكرتهم بعد ممّا حدث لهم حين تركوا بيوتهم على حين غرّة، فلم يأخذوا معهم حاجاتهم ولا صورهم ولا ذكرياتهم.
بعض مَن شارك يومها في المعارك من جانب القوى الفلسطينية و”القوى الوطنية” ضد “القوات اللبنانية”، يروون مشهد التهجير: “صعدنا ووصلنا بسرعة إلى بعض القرى. كان أهلها قد تبلّغوا بضرورة الرحيل، فرحلوا على غفلة تاركين كلّ شيء. كلّ شيء باستثناء الثياب التي على أجسامهم. وصلنا فدخلنا المنازل وكان فيها الطعام لا يزال ساخناً. رحلوا قبل أن يتناولوا وجبة الغداء”.
حادثة مغدوشة، القرية التي تتمتّع بحيثيّة مسيحية في المنطقة لاحتضانها مزار السيدة العذراء الذي دُعِي بـ”سيدة المنطرة” لارتباطه بانتظار مريم العذراء مرور السيد المسيح من هناك، فتحت باب النقاش في مستقبل الحياة و”التعايش” في المناطق المختلطة على مصراعيه
ليس هذا المشهد من نسج الخيال. هذه هي الذاكرة الجمعيّة لأهالي شرق صيدا الذين تهجّروا وعادوا تدريجياً بدءاً من بداية التسعينيّات. ومنذ عودتهم حتى اليوم يحضر شريط الذاكرة عند كلّ حادثة سرعان ما تأخذ أبعاداً طائفية في منطقة لم تشفَ بعد من ماضيها.
جميلة هي مبادرة شبابٍ من بلدة عنقون إلى إصلاح ما أفسده آخرون منها، وترميم مزارٍ للقديس شربل على حدود القرية مع بلدة مغدوشة. إلا أنّ ذلك يبقى فولكلوراً ما دام علاج الأزمات يخضع لرفع غطاء من مسؤول سياسي أو رجل دين، وما دامت محاكمة المرتكبين خاضعة لاستنسابية أهل السياسة. هكذا يرى أهل المنطقة المشهد. إشكال مغدوشة وعنقون خضّ منطقة شرق صيدا التي هالتها مشاهد الاعتداء على عائلات داخل منازلها، وهالتها مشاهد التعدّي على رموزها الدينية، وأعاد شريط الأعوام الماضية إلى الواجهة. ففي كل مرّة يحاول أهل بلدات شرق صيدا القفز فوق ماضيهم يواجهون ما يعيدهم إلى المربّع الأوّل في ظلّ غياب أيّ ضمانات وطنية لعدم تكرار مشاهد الحرب اللبنانية.
عبرا المسيحيّة الغابرة
يمكن أن نبدأ الحكاية من ظاهرة أحمد الأسير في عبرا، تلك القرية المسيحيّة في أساسها، والتي انقسمت إلى جزءين بعد الحرب. عبرا الجديدة التي سكنتها عائلات سنّيّة امتدّت من صيدا، وعائلات شيعية امتدّت إليها من الجنوب، مقابل عبرا القديمة التي يسكنها أهلها المسيحيّون الكاثوليك.
يوم أتاها أحمد الأسير وتمركز عند ساحة عبرا الجديدة التي يمرّ عبرها أهل البلدات الكاثوليكية التي تربط صيدا بجزّين، شعر أهلها بأنّ هذه الظاهرة المتطرّفة هي تهديدٌ لعودتهم. انتهت ظاهرة الأسير فأتت معركة قانون الانتخاب لتطيح بآمال أهل المنطقة بتمثيلٍ صحيحٍ لهم. في ورشة الخروج من قانون الستّين الأكثري الذي لم يسمح بتمثيلٍ خارج تمثيل أحزاب الأكثريّات الشيعية والسنّية في المنطقة. اعتقد أهل المنطقة أنّ الأوان قد حان لحصولهم على فرصة لينتخبوا ممثّلاً عنهم من خارج التحالف مع الأكثريّات الطائفية. غير أنّ ذلك لم يحصل. أُقرّ القانون الحالي ليقضم امتدادهم بين صيدا وجزّين. وبدل أن ينضمّوا إلى أحد القضاءين، انضمّوا إلى الزهراني وصور، فخسروا أيّ فرصة لتمثيلٍ خارج الأكثريّة الشيعية.
الظلم الانتخابيّ
لم تكن نكسة قانون الانتخاب تفصيلاً بالنسبة إلى أهالي المنطقة الذين شعروا بأنّهم متروكون من مرجعيّاتهم الحزبية والطائفية. لم تشفِ غليلَهم جولاتٌ قامت بها فعّاليات الأحزاب المسيحية على بلداتهم لأنّها في المحصّلة لا تشكّل ضمانة ثابتة لبقائهم في أرضهم. هذا في الوقت الذي يسمعون فيه فعّاليات القوى الأخرى تتمسّك بشعارات العيش المشترك والعيش الواحد من دون أن يُترجَم ذلك على الأرض فعليّاً. صحيح أنّ المنطقة تُعتبر مسالمة بعيدة عن التجاذبات الأمنيّة والطائفية إلّا ما ندر، ولكنّ الصحيح أيضاً أنّ أهل منطقة شرق صيدا يعيشون في منطقة لا توازن نيابيّاً فيها ولا توازن ميدانياً على أرضها. وما اعتداء شبّان عنقون على مغدوشة سوى دليل على أنّ فائض القوّة يستطيع أن يُطيح بسلامة وأمن أيّ قرية متى حصل أيّ سوء تفاهم أو إشكال. وعلى الرغم من الدعوات المتكرّرة إلى وقف الإشكالات، ومسارعة المرجعيّات السياسية إلى احتوائها، إلا أنّها سرعان ما تتحوّل إلى إشكالات طائفية تهدِّد “الوجود المسيحي في المنطقة”.
يمكن أن نبدأ الحكاية من ظاهرة أحمد الأسير في عبرا، تلك القرية المسيحيّة في أساسها، والتي انقسمت إلى جزءين بعد الحرب. عبرا الجديدة التي سكنتها عائلات سنّيّة امتدّت من صيدا، وعائلات شيعية امتدّت إليها من الجنوب، مقابل عبرا القديمة التي يسكنها أهلها المسيحيّون الكاثوليك
حادثة مغدوشة، القرية التي تتمتّع بحيثيّة مسيحية في المنطقة لاحتضانها مزار السيدة العذراء الذي دُعِي بـ”سيدة المنطرة” لارتباطه بانتظار مريم العذراء مرور السيد المسيح من هناك، فتحت باب النقاش في مستقبل الحياة و”التعايش” في المناطق المختلطة على مصراعيه. ولم يعد ينفع رفع الغطاء عن أيّ مرتكب في ظلّ غياب سلطة الدولة الحقيقية، ولم تعد تنفع المصالحات الفولكلورية بين المشايخ والمطارنة.
“هنا كنّا، وهنا سنبقى”، “هذه الأرض لنا”، “أرضنا مش للبيع”، هي شعارات يحملها المسيحيون في المنطقة، يحيون أعيادهم الدينية باحتفالات جماعية. يحملون صلبانهم وأغصان الزيتون ويحجون إلى مزاراتهم الدينية مُرنّمين بصوتِ جماعي واحد، وكأنّهم بذلك يحاولون إقناع أنفسهم أوّلاً وجوارهم ثانياً بأن وجودهم في هذه الارض ثابت وعودتهم لن يهدّدها أحد بعد اليوم. يدافعون بها عن هويّتهم الدينية والاجتماعية بوجه أيّ تهديد محتمل، سواء أكان تهديداً أمنيّاً أو اجتماعيّاً.
إقرأ أيضاً: صور – خلدة – المرفأ – شويّا: الحزبُ مُحاصراً؟
وها هم قد بدأوا يتحدّثون علناً عن أن لا سبيل للوصول إلى ضمان النسيج الاجتماعي سوى بتنظيمٍ مختلفٍ للتنوّع. فراح البعض ينظّر للحلّ السياسي في المقبل من الأيام. وعاد خطاب المطالبة بالفدرالية والتقسيم أو اللامركزية الإدارية، التي تحفظ الاختلاف وتبسط سلطة قانون موحّد على المواطنين، إلى الواجهة.
وإذا لم تنوجد ضمانات كافية، فإنّ مشهد هروب العائلات، تاركةً موائدها ساخنةً، سيبقى حاضراً في وجدان مَن تهجّروا، مهدّداً عودةً لا تزال منقوصةً حتّى اليوم.