يعود الفضل في تأسيس كيان لبنان الكبير إلى الموارنة بلا أيّ لبس. وليس خافياً أنّ الفرنسيين أتاحوا لهم قيادة الكيان، وكان ذلك معقولاً بالنظر إلى أنّ البطريركية المارونية هي التي أقنعتهم باستقلال لبنان وضمّ بيروت والأطراف إليه.
لكنّ للتاريخ دروساً تحكم بإعادة غير الحصفاء لأخطائهم. ما كان للاستقلال أن يتحقّق إلا حين وثب الموارنة مع بشارة الخوري، من حكم الكيان إلى قيادته، فأنتج “الصيغة” المتوازنة بمعايير ذلك الزمان مع رياض الصلح.
درس التاريخ الأكبر في لبنان أنّ أيّ تغيير سياسي مبتدؤه لدى الموارنة، ولدى الموارنة منتهاه. فالقيادة المارونية، ولا قيادة سواها، إمّا أن تأخذ البلاد إلى حيث أخذها البطريرك الحويك والرئيس فؤاد شهاب والكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، وإمّا أن تأخذها إلى صراعات المحاور وحروب الإلغاء وصغائر التحاصص
لا يُجدي الخوض مع الخائضين في أخطاء التاريخ من كلّ الطوائف، والرهانات على اختلافها، من الناصرية إلى حلف بغداد، إلى سلاح أبي عمار، إلى المارينز الراسي في مرفأ بيروت، إلى أرييل شارون في اجتياح 1982. فليُترك الحكم في ذاك كلّه للتاريخ. لكنّ ثمّة ما هو واضح في كل المحطات أنّ الدولة ما انفرط عقدها إلّا حين عجز الموارنة عن قيادة الكيان ورعاية التوازن بين مكوّناته. لا يمكن لأيٍّ من حاملي لواء المارونيّة أن يقود دولةً يتملّكه الخوف من أبنائها وتسكنه الأحقاد بين مكوّناتها.
ودرس التاريخ الأكبر في لبنان أنّ أيّ تغيير سياسي مبتدؤه لدى الموارنة، ولدى الموارنة منتهاه. فالقيادة المارونية، ولا قيادة سواها، إمّا أن تأخذ البلاد إلى حيث أخذها البطريرك الحويك والرئيس فؤاد شهاب والكاردينال مار نصر الله بطرس صفير، وإمّا أن تأخذها إلى صراعات المحاور وحروب الإلغاء وصغائر التحاصص.
يصل الابتذال السياسي إلى منتهاه حين يحمل ميشال عون شعار “بيّ الكل”، ثمّ يقضي سنواته في القصر منشغلاً بنوازع الانتقام والشعبوية والهيمنة. رجل قضى في القصر 58 شهراً منذ انتخابه، قضى منها 23 شهراً في الفراغ الحكومي، أي ما يعادل 40% من ولايته حتى اليوم، ما بين خمس استشارات نيابية في أقلّ من خمس سنوات (رقم قياسيّ)، واجتماعات لا تنتهي مع رئيس مكلّف تلو آخر، لفرض الاستئثار بأكبر حصّة ممكنة من السلطة. والمفارقة أنّه الرئيس الذي حظي بأكبر قدر من الدعم والتسهيل في تاريخ الجمهورية. رئيسٌ أتى إلى الحكم محاطاً بتفاهمٍ مع الشيعة، وتسويةٍ مع السنّة، واتفاقٍ (معراب) مع المنافس المسيحي. وحصل على حصّة حاكمة في الحكومات الثلاث الأولى في عهده، كما لم يحظَ أيّ رئيس أو حزب أو تيّار بعد الطائف، مع أنّ حزبه لم يحظَ إلا بـ 8.6% من أصوات الناخبين في الانتخابات الأخيرة، ومع كلّ ذلك انتهى به الأمر حاكماً بأمر المجلس الأعلى للدفاع على أشلاء دولة الفراغ، ولا يزال مقاتلاً على الحصص حتى آخر دولار من احتياطات مصرف لبنان، وآخر رمق من قدرة المؤسسات على الاستثمار، وآخر نقطة عرق يبذلها عسكريّ لحفظ الأمن وتنظيم طوابير الذل!
ماذا يريد الرئيس الثمانينيّ؟ يتمسّك الرجل في خريف العمر بمنع تشكيل حكومة لا يكون بيده مفتاح إقالتها أو تعطيل انعقادها أو منعها من اتّخاذ أيّ قرار متى شاء، ليمسك بعصمة التوريث، ويُبقي بيده مفتاح القصر بفتوى دستورية متكلّفة، على نحو ما فعل حين قسّم الدولة والمؤسسات، وخاض حرب الإلغاء في المناطق المسيحية في عهد النزق الأول 1988 – 1990.
يسوّق عون معركة النزق الشخصي باعتبارها معركة “حقوق المسيحيين”. فذاك عنوان يجوز من أجله أن يموت الناس بسبب فقدان الأدوية وتعطّل المستشفيات، وأن يناموا في سياراتهم في طوابير الذلّ، وأن يقتتلوا بالسلاح من أجل ليترات من البنزين، وأن تهاجر الأدمغة، وتضيع سنة دراسية بعد أخرى.
كيف يقود الموارنة الكيان برجلٍ يحمل كلَّ هذا النزق؟! ما الذي يعنيهم أو يهمّهم أو يغيّر في موقعهم في الكيان إن وزّر عون الأسماء المثيرة للغثيان التي يطرحها، والتي لم يُعرَف لها من فضلٍ أو إنجازٍ سوى التطبيل للرئيس وفريقه السياسي في الإعلام والسوشيل ميديا؟ ماذا يتحقّق للمسيحيين من مجدٍ إن أتى جبران باسيل بمستشاريه وسكرتيرته والمتزلّفين له وزراء؟ ما الذي يضير “حقوق المسيحيين”، والموارنة على وجه الخصوص، إن تولّى وزارة الطاقة أو وزارة العدل أو الشؤون الاجتماعية سيّدات أو رجال ذوو اختصاص وحسن سمعة من دون أن يكونوا من المستزلمين لميشال عون وصهره؟
ما الذي يضير “حقوق المسيحيين”، والموارنة على وجه الخصوص، إن تولّى وزارة الطاقة أو وزارة العدل أو الشؤون الاجتماعية سيّدات أو رجال ذوو اختصاص وحسن سمعة من دون أن يكونوا من المستزلمين لميشال عون وصهره؟
مشكلة عون الذهنيّة أنّه يصوغ سياسات الغلبة المحليّة منطلِقاً من حسابات إقليمية. راهن في الثمانينيات على تفاهم مع حافظ الأسد للتغلّب على منافسيه في الساحة المسيحية، وعلى المستوى الوطني، ثمّ حين سقط رهانه قضى ردحاً من العمر مستجدياً الدعم من العواصم الغربية. ثمّ أعاد الكرّة في 2005 من حيث بدأ، بصفقة مع النظام السوري وبالارتهان السياسي لإيران وحلفائها. وعلى أساسٍ من ذلك جاهر في 2010 باللغة الإقصائية المفتقرة إلى الكياسة حين قطع لسعد الحريري “وان ويْ تيكيت”، لينصّب نفسه متحكّماً برئاسة مجلس الوزراء ومَن يتولّاها. وهو اليوم يراهن على موازين الغلبة الإقليمية ليمارس الغلبة الطائفية في الداخل.
أين هي مصلحة الموارنة في لعبة كهذه؟ أين مصلحتهم في التحوّل من رعاية التوازن إلى كسره؟
آن لحكماء الموارنة أن يتطلّعوا إلى القيادة قبل الحصص، وإلى الدور قبل الصلاحيّات، وإلى التوازن قبل الغلبة. لا يمكن للموارنة أن يقودوا كياناً ذا أجنحة متكسّرة.
في “نظرية اللعبة” (Game theory) الشهيرة في عالم الاقتصاد، لا يتحقّق التوازن السلبي بين المتنافسين إلا حين يذهب كل طرف نحو تحقيق أقصى ما يمكنه من استفادة غير عابئ بأيّ تبادل للمصالح أو المنافع أو الثقة مع الآخر. هذا ما يسمّى “توازن ناش”، في إحالة إلى العالم الشهير جون ناش.
لاحت فرصة في ثورة 17 تشرين الأول 2019، حين أبدت جماهير الطوائف استعداداً للخروج إلى أرض سواء، فاستقالت الحكومة وبدا التغيير ممكناً، لكنّ الاستعصاء في بعبدا أوقف المسار وأعاد الطوائف إلى “توازن ناش”.
إقرأ أيضاً: عون لميقاتي: أريد المال.. أو الداخلية
وحدهم القادة التاريخيّون يُخرجون جماهير الطوائف من تلك الحلقة المفرغة من الخسائر المتبادلة إلى الرحاب الأوسع.
لا بدّ من قيادة مارونيّة تفتح باب التغيير من قصر بعبدا إلى كلّ القصور.