“ليلة السكاكين الطويلة” هو الاسم الرمزي لعملية تطهير واسعة النطاق قام بها الزعيم النازي أدولف هتلر، ليتخلّص من أبرز قيادات الحزب النازي، الذين اعتبر أنّهم قد يشكّلون خطراً على زعامته. فأعدم العشرات واعتقل الآلاف في تلك الليلة الطويلة.
وقد أُعيد استخدام هذا التعبير وإطلاقه على بعض الأحداث الساخنة في أكثر من بلد ومناسبة، لعلّ أشهرها كانت “سنة السكاكين الطويلة”، وهو الاسم الذي أطلقته وسائل الإعلام البريطانية على “حرب السكاكين” في شوارع لندن عام 2018، التي حصدت أرواح عشرات الشبّان في حروب العصابات.
ما تشهده مدينة طرابلس يستحقّ أن يوصف بـ”سنة السكاكين الطويلة” أيضاً.
في ما يتعلّق باغتيال المعاون الأول أحمد المراد، وهو الاغتيال الثاني خلال شهر واحد، تحدّث مصدر عسكري لموقع “أساس” عن شبهات تحوم حول بعض عناصر الجماعات الإرهابية
فمنذ عام تقريباً ومعدّلات الجريمة آخذة في الارتفاع، حتّى بلغت مبلغاً جعل الناس يعتصمون بمنازلهم مع غروب الشمس ويفرضون على أنفسهم حظر تجوّل طوعي، كلّما غاب النهار.
فما إن يُرخي الليل سدوله حتّى تتحوّل الشوارع الغارقة في الظلمة، حيث لا كهرباء ولا إنارة مولّدات، إلى ميادين لإطلاق النار العشوائي، بسبب أو من دونه، لا فرق، بالإضافة إلى رمي القنابل، وانتشار فرق لتشليح المارة وبعض السيارات، والتشبيح على المطاعم ومحلات السناك والبسطات المتناثرة هنا وهناك.
وكلّما اشتدّت الأزمة، ازدادت السكاكين عدداً وطولاً وقسوةً وتأثيراً، كما حدث في الأسبوعين الأخيرين، اللذين شهدا اغتيال معاون أول متقاعد في الجيش، تلاه رمي قنبلة على عربة لبيع الحلوى أفضت إلى إصابة صاحبها وشقيقه بجروح بليغة، بالإضافة الى تسجيل الكثير من حالات السلب والنهب، منها 10 حالات في ليلة واحدة فقط. كلّ هذه الأحداث لا يوجد بينها قاسم مشترك سوى الفوضى.
في ما يتعلّق باغتيال المعاون الأول أحمد المراد، وهو الاغتيال الثاني خلال شهر واحد، تحدّث مصدر عسكري لموقع “أساس” عن شبهات تحوم حول بعض عناصر الجماعات الإرهابية. فالمراد كان مسؤولاً عن تعقّب نشاطاتها إبّان خدمته في جهاز الاستخبارات، في فترة حسّاسة من عمر المدينة، حين كانت تشهد جولات قتال متتابعة بين التبّانة وجبل محسن. وهو ما يؤكّده عدد من الشبان، لكنّهم يضيفون أنّ مراد كان قاسياً، ويحمّله البعض مسؤولية سجن عشرات الشبّان بذريعة “الإرهاب”، ومن دون أن يكونوا متورّطين في نشاطات إرهابية. ويبدو أنّ أحداً ما استغلّ حالة الفوضى في المدينة لتصفية حسابه مع مراد بدم بارد.
تصفية حساب مع “الأمن”
تبدو الفرضية مرعبة، لكنّها مع الأسف الشديد واقعيّة. وقد حدث الاغتيال في وقت لا تزال جريمة اغتيال عامر مرعب وطلال عمران، التي وقعت منذ ثلاثة أسابيع، يكتنفها الغموض، من دون وجود أيّ رابط واضح بين الجريمتين.
أمّا إلقاء القنبلة في منطقة “التل”، فلا يمكن عزله عمّا شهدته تلك المنطقة أخيراً من محاولة فرض “خوّات” على محلات السناك الشعبية الشهيرة قرب حديقة المنشية وسط المدينة. فما كان من أصحاب تلك المحلات إلا أن عمدوا إلى إقفالها باكراً في حدّ أقصاه العاشرة ليلاً. علماً أنّها اعتادت العمل في أحلك الظروف حتّى ساعة متقدّمة من الليل.
ما هي إلا ساعات على انتهاء اجتماع مجلس الأمن الفرعي حتى عاد الرصاص ليلاً، واستمرّت الإشكالات على المحطات نهاراً، لا بل تطوّر الأمر إلى ظهور جماعات مسلّحة جهاراً، أطلقت النار وروّعت الآمنين في بيوتهم، فغدت مقرّرات الاجتماع حبراً على ورق
يقول “أبو محمد”، صاحب أحد محلات السناك الصغيرة، لموقع “أساس”، إنّه يعمل في هذه المنطقة التي تُعتبر موئلاً ليلياً للمدمنين على الحبوب المخدِّرة، منذ ما يربو على ثلاثين عاماً، شهد خلالها الكثير من الأحداث. لكن لم يسبق أن تعرّض لمضايقات مثل ما هو حاصل حالياً على أيدي مجموعة شبّان لا يتورّعون عن ارتكاب جريمة قتل من أجل أيّ شيء، حتّى لو كان “سندويشاً”. لذلك يفضّل “أبو محمد” أن يُقفل دكّانه قبيل انتشار هؤلاء الشبان منتصف الليل، هرباً من بطشهم و”خوّاتهم”.
من جانب آخر، كثر تشليح المارّة والسيارات على الطرقات في أكثر من شارع ومنطقة في المدينة، مع تسجيل أنماط جديدة وأساليب مبتكرة، إضافةً إلى قطع الطرق بواسطة بعض الصبية المسلّحين بـ”سكاكين”، ممن يرتكبون أعمال سلب ويفرضون “خوّة” أحياناً مقابل السماح بالمرور. وأشهر هذه المناطق نقطتا البالما والبداوي. البالما التي تقطع بشكل يومي من قبل هؤلاء، ويختلط الأمر بينهم وبين “الثوّار” في أحيان كثيرة.
كلّ ذلك يحدث والقوى الأمنية والاستخبارية غائبة تماماً، وكذلك الشرطة البلدية. غياب يستدعي التساؤل حول الرغبة “الأمنية” في تعميم هذه الحالة في عاصمة الشمال.
بالطبع الشوارع السائبة تُسهِّل أعمال السرقة والبلطجة. فمنذ ليلة إحراق مبنى البلدية والمحكمة الشرعية مطلع السنة الحالية، وما رافقها من هجوم على السراي ورمي قنابل على عناصر فرع المعلومات، امتنعت قوى الأمن الداخلي عن الانتشار في شوارع طرابلس، أو إقامة حواجز أو تسيير دوريات ليلية، بسبب اعتبارها أنّ ما حصل هو رسالة لها، في ظل صراع الأجهزة على النفوذ في المدينة. وكذلك يغيب الجيش اللبناني تماماً عن شوارع المدينة.
غياب الأجهزة… وعودتها
ومع ارتفاع عدد الجرائم، بالتزامن مع ما شهدته محطات الوقود في المدينة من أعمال شغب مقصودة، عمّت وسائل التواصل الاجتماعي حملةٌ تتّهم الأجهزة الأمنية بالتواطؤ على طرابلس. تلك الحملة يبدو أنّها حرّكت المياه الراكدة، فأُلقِي القبض على رامي القنبلة خلال 24 ساعة، وسُجِّل انتشارٌ مكثّف لوحدات من الجيش اللبناني في بعض النقاط الرئيسية، وقامت وحدات من الجيش بضبط الأمن في كبريات محطات الوقود، مع بدء تسيير دوريات ليلية للشرطة البلدية، واتخاذ إجراءات للحيلولة دون حصول أعمال سلب. وتلا ذلك أن اعتقلت استخبارات الجيش أحد منفّذي جريمة اغتيال أحمد المراد، في مؤشّر بالغ الدلالة إلى قدرة الأجهزة الأمنية على فرض الأمن، لكن… عندما تريد.
بيد أنّ هذا النشاط لم يستمرّ طويلاً. فبعدما هدأت نسبياً الحملة على الأجهزة الأمنية، عادت المدينة إلى سيرتها الأولى، ولا سيّما في ظلّ انشغال الناس بالبحث عن محطة وقود لتعبئة خزانات سياراتهم الخاوية.
وفي هذا السياق، دفع فقدان السيطرة على شوارع المدينة في الليل، والاتّهامات الموجّهة إلى البلدية، إلى أن يعقد رئيسها رياض يمق مؤتمراً صحافياً طالب خلاله الدولة بتحمّل مسؤوليّاتها في فرض الأمن، حتى لو اقتضى الأمر فرض حظر تجوال في ساعات الليل، متّهماً الأجهزة الأمنية بالتساهل، غامزاً من قناة المحافظ الذي يرأس مجلس الأمن الفرعي.
وعلى الرغم من أنّ كلام يمق أثار عاصفة من الردود عليه من قبل بعض أعضاء المجلس البلدي، الذين استنكروا مطالبته بفرض التجوّل، إلا أنّه دفع المحافظ رمزي نهرا إلى الظهور من بعد طول غياب، فعقد اجتماعاً لمجلس الأمن الفرعي، ضمّ مسؤولي الأجهزة الأمنية والاستخبارية، واتّخذ قراراً بمنع تجوّل الدراجات النارية بعد العاشرة ليلاً، مع إقامة حواجز ثابتة ومتنقّلة وتسيير دوريات ليلاً ونهاراً للحدّ من مظاهر التفلّت الأمني.
يقول الدكتور رياض يمق، في حديث لـ”أساس”، إنّ “المؤتمر الصحافي كان صرخة موجّهة إلى الدولة كي تقوم بواجباتها، ولا سيّما تنظيم توزيع المحروقات التي فاقم انقطاعها من حدّة تدهور الأمن في المدينة، وجعل خفافيش الليل يسرحون ويمرحون، وأدّى إلى مطالبة البعض بالأمن الذاتي الذي نرفضه رفضاً باتاً، فأمن المدينة هو مسؤولية الدولة وأجهزتها الأمنية فقط. أمّا شرطة البلدية فصلاحيّتها محدودة جدّاً”. وذكّر يمق بسجن أحد عناصر الشرطة لإطلاقه النار في الهواء لفضّ إشكال، بالإضافة إلى الاعتداءات التي تعرّض لها العديد من العناصر في السابق. وعن استنكار البعض مطالبته بفرض حظر تجوّل ليلي، قال يمق إنّ “الحياة في المدينة تجري وكأنّها في ظلّ حظر تجوّل، فالشوارع خالية والأسواق خاوية بشكل يفوق أيام التعبئة. وكان ينبغي على الأعضاء المعترضين القيام بواجبهم وحضور اجتماعات المجلس البلدي المنقطعين عنها منذ أشهر طويلة، ومنها الجلسة الأخيرة، التي كانت على جدول أعمالها ثلاثة بنود، أهمّها تأمين المحروقات من أجل انتظام العمل في أروقة البلدية، ولكن لم يحضر سوى ثلاثة أعضاء فقط”.
وما هي إلا ساعات على انتهاء اجتماع مجلس الأمن الفرعي حتى عاد الرصاص ليلاً، واستمرّت الإشكالات على المحطات نهاراً، لا بل تطوّر الأمر إلى ظهور جماعات مسلّحة جهاراً، أطلقت النار وروّعت الآمنين في بيوتهم، فغدت مقرّرات الاجتماع حبراً على ورق، وكلام يمق صرخةً في وادٍ ونفخاً في رماد.
إقرأ أيضاً: من يشعل “الفتنة” بوقود طرابلس؟
هناك مَن يريد للمدينة أن تتسربل برداء الفوضى، بعدما أصبح ثوب الإرهاب قديماً وبالياً. ما يحدث في طرابلس هو صراع أجهزة تستخدم جماعاتها لفرض حكمها. فمَن قال إنّ الفوضى ليست وسيلة للحكم؟
لذا يبدو أنّ “سنة السكاكين الطويلة” ستكون طويلة جدّاً.