“ما دام المأزق السياسي يتعمّق فقد نشهد حالات تفلّت أمني باتت لدينا هواجس حقيقية من أن تتحوّل إلى جيوب “ميليشياوية” تفرض سطوتها بالكامل على الدولة. وهي حالات يمكن توقّع حصولها شمالاً وجنوباً وبقاعاً وفي بيروت، وتقريباً نشهد يوميّاً بروفا عنها”. هذا ما تسرّ به مصادر أمنية في حديث لـ”أساس”. وتجزم بأنّه “لا يمكن التسليم بأنّ اجتماع السراي الذي عُقِد في 25 آب الفائت قد شكّل علامة فارقة في سياق الجهود الأمنيّة لتفادي وضبط ما يحصل على الأرض على الرغم من زيادة وتيرة المداهمات لكشف أوكار المحتكِرين، ومحاولة ضبط توزيع البنزين والمازوت”. وتضيف: “كلّ الأجهزة تقوم أصلاً بمهامّها، وهذا النوع من الاجتماعات يُعزِّز فقط التنسيق المطلوب عبر تشكيل غرفة العمليات المشتركة التي بدأت عملها، ومقرّها السراي، على سبيل المثال”.
هكذا لم تنفع الاجتماعات الأمنيّة على كلّ المستويات، المُعلنة منها والمُستترة، في تفادي وصول الداخل اللبناني إلى المحظور. لم يعد السؤال: هل ينفجر الوضع أمنيّاً مطيحاً بكل الخطوط الحمر؟ بل متى وأين وفي أيّ منطقة سينفجر ويمتدّ على مساحة لبنان برمّتها؟
بات السلم الأهليّ برمّته رهينة “فَرد بنزين” أو “مَشكل” على أفضليّة تعبئة خزّان وقود في ظلّ تمدّد “فدرالية البنزين” على قاعدة: “محطة الضيعة لأهالي الضيعة فقط”
وها هي نماذج المواجهات الطائفية والمذهبية في خلدة وعكار وعنقون – مغدوشة وأوتوستراد زحلة والعبّاسية، والاشتباكات “الأهلية” المتفرّقة، وعودة خطوط التماس في بعض المناطق، أطلقت أيدي الزعران و”المستقوين” بقيادات نافذة في الدولة أو بأمراء شوارع.
فقط في دولة هي في الحقيقة أقرب إلى “تجمّع قبائل” متناحرة يُعهَد إلى القوى الأمنية مرافقة صهاريج المازوت والبنزين من لحظة انطلاقها من المرفأ إلى أن تصل إلى وجهتها الأصلية خوفاً من “كبسات ميليشياوية” للسطو عليها وبيعها في السوق السوداء.
ولا يقف الأمر عند هذا الحدّ، فقد فَتَح الضبّاط إلى جانب مهامّهم الأمنيّة “فرعاً” لبيع المازوت والبنزين المضبوطيْن بإشارة قضائية، لضمان وصوله بالسعر الرسمي المدعوم إلى المستشفيات والأفران ودور الأيتام والقطاعات الحيوية، ولاحقاً إلى المدارس، وإلى حيث يجب أن يصل بعيداً عن عصابات الاحتكار والمتاجرين بأرواح الناس.
هو جهدٌ إضافيّ ومضنٍ يُثقل كاهل القوى الأمنيّة والعسكرية المُستنزَفة أصلاً، والتي تكافح بصمت ظاهرة تململ لم تشهدها الأسلاك العسكرية في تاريخها حتى في أصعب مراحل الحرب الأهلية، والتي دفعت بالمعنيّين إلى فرض قرار بمنع التسريح والسفر.
وباتت محطات الوقود مغناطيس لتجارب حيّة عن طريقة “صنع” الفوضى بوجود “موادّها الأوّلية” المتوافرة بيد الجميع: السلاح والتجييش الطائفي والمذهبي والفقر والعوَز. وفوق ذلك، سلطة “غاشية وماشية” تأخذ بيدها شعباً بكامله نحو الانتحار.
بهذا المعنى، بات السلم الأهليّ برمّته رهينة “فَرد بنزين” أو “مَشكل” على أفضليّة تعبئة خزّان وقود في ظلّ تمدّد “فدرالية البنزين” على قاعدة: “محطة الضيعة لأهالي الضيعة فقط”.
حتى الآن أخذت الإشكالات في المناطق طابعاً حزبياً سياسياً وطائفياً نافراً يتقاطع مع مواجهات الأهالي “من لون واحد”: مسلم – مسيحي، سنّي – سنّي، شيعي – شيعي، مسيحي – مسيحي… هذا إضافةً إلى النزاعات العشائرية التي تتفاقم في المناطق، وتستدعي مزيداً من الاستنفار الأمني الموزّع بين حفظ الأمن وبيع المازوت وتوزيع المساعدات والانتشار في محطات الوقود وتنظيم الصفوف وتأمين خط عسكري لوصول عبوات حليب الأطفال إلى الصيدليات ومداهمة مستودعات المحتكِرين…
يقول قائد معركة فجر الجرود العميد فادي داوود لـ”أساس” إنّ “الإرهاب الذي كان يهدّد تحديداً حدود لبنان الشرقية كان يمكن أن يستكمل مشروعه ويدمّر الداخل، مع العلم أنّ هذا المشروع كان يعمل على تركيبة لبنان الطائفية
وتُلفت مصادر متابعة إلى أنّ هذا النوع من الإشكالات كفيل بإيقاظ “ديناصورات” نائمة، كالإشكالات مثلاً التي تشهدها محطات وقود في الجنوب بين مناصرين لحركة أمل ومناصرين لحزب الله، وأحياناً ضمن الحزب الواحد كما حصل في إشكال عنقون – مغدوشة الذي تفرّع إلى خلاف بين عناصر من داخل حركة أمل نفسها، إضافةً إلى إشكالات مباشرة غير مألوفة كما حصل حين قطع عدد من عناصر القوات اللبنانية الطريق على موكب لحزب الله في زحلة قبل نحو شهر ونصف…
وللمفارقة، يتجاوز لبنان أمتاره الأخيرة نحو الفوضى الشاملة وتكريس حكم الميليشيات، فيما تحيي السلطة الذكرى الرابعة لمعركة فجر الجرود التي حرّرت لبنان من سطوة الإرهاب، لكن دشّن اللبنانيون بعدها نوعاً أبشع من “الإرهاب” الداخلي تمارسه السلطة الحاكمة بحقّ مواطنيها، وآخر خارجياً، ثمّة نزاع على هويّته، متّهماً داخليّاً بجرّ لبنان نحو الانهيار.
فهل مواجهة الأزمات المصيرية التي تعصف ببلد الطوائف أصعب من مواجهة إرهاب “داعش” والتنظيمات المتطرّفة؟
يقول قائد معركة فجر الجرود العميد فادي داوود لـ”أساس” إنّ “الإرهاب الذي كان يهدّد تحديداً حدود لبنان الشرقية كان يمكن أن يستكمل مشروعه ويدمّر الداخل، مع العلم أنّ هذا المشروع كان يعمل على تركيبة لبنان الطائفية. ولو نجح لكان نَسفها. لكنّنا أفشلنا هذا المخطّط. وخوفي اليوم من أن تنقسم كلّ مملكة على نفسها. لذا أخاف أن ينجح مجدّداً في الداخل المخطّط الذي أفشلناه على الحدود عبر قنوات يتمّ تحريكها واستغلالها”.
لكن هل ثمّة مخاوف من خروج الوضع الأمني عن السيطرة وتكريس حالة الفوضى؟
يجيب داوود: “أنا متخوّف فعلاً من ارتداد وجع الناس ومعاناتها من غياب الحاجات الأساسية على الوضع الأمني، وهو ما يترجم يوميّاً في مظاهر الفوضى، من قطع طرقات، ومواجهات أمام محطات وقود، وإشكالات في قرى على قاعدة “أخذ الحقوق” أو فرضها بالقوة الذاتية، و”مداهمات” مدنيّة من قبل مواطنين لصهاريج، إضافةً إلى مواجهات في المناطق تأخذ طابعاً طائفياً… والهاجس الأكبر أنّ رمزَيْ سيادة الدولة، أي النقد والقوى الأمنيّة، هما في دائرة الخطر. فالعملة الوطنية تشهد انهياراً كارثياً غير مسبوق في تاريخ لبنان. ولم يبقَ سوى القوى الأمنيّة والعسكرية التي تحظى بإجماع دولي ووطني على دورها. والتفلّت الأمنيّ يشكّل كرة نار”.
إقرأ أيضاً: طرابلس وسكاكين الليل: الفوضى محلّ “الإرهاب”
ويدعو العميد داوود القوى الأمنيّة إلى “التقاط كرة النار والتصرّف، كما كانت ولا تزال تتصرّف، بما يمليه الواجب الوطني ووفق القوانين والأنظمة على الرغم من حالة الاستنزاف التي ترزح تحتها”. ويستذكر ختاماً تعليقاً كتبه لمناسبة معركة فجر الجرود توجّه عبره إلى العسكر قائلاً: “فلتعلم الأمم أنّ أمّة أنجبت رجالاً وأنجزت ما أنجزتم في مثل هذا اليوم من عام 2017، قد تتألّم، لكن لا شكّ هي منتصرة”.