أين العرب من “صدمة طالبان”؟

مدة القراءة 8 د

صدمت حركة طالبان الولايات المتحدة والعالم، بسيطرتها السريعة على أفغانستان عسكرياً، وأمنياً. وأدهشت الجميع بما هو أدهى، بانضباطها العالي، وتحكّمها بأفرادها ومجموعاتها إلى حدّ بعيد، وبالترفّع عن الانتقام من خصومها، بل بالعفو عنهم، وبسط الحماية لهم ولممتلكاتهم، وصولاً إلى محاورتهم، بهدف تحقيق أوسع مشاركة معهم في النظام الجديد المراد تظهيره. هذا الجانب السياسي لا يمكن تصديقه بسهولة، بالنظر إلى طبيعة الصراع العنيف في أيّ بلد، وخاصة في أفغانستان البلد العريق في مجال الحرب والنزال، ومع طالبان التسعينيات نفسها، التي تبادلت حملات عنيفة من الثأر مع أعدائها، فقتلوا منها الآلاف بطرق شنيعة، وردّت هي بالمثل. على سبيل المثال ما جرى في مزار شريف عام 1998.

لم يسبق أن شاهد العالم مذهولاً حركة مسلحة تنتصر على قوة أجنبية، فتعرض المشاركة على عملاء هذا الاحتلال، وتطلب ممّن فرّوا من القادة السياسيين العودة بأمان.

ظهور طالبان كنموذج لحركة إسلامية متمرّدة على النظام العالمي ومنتصرة عليه تكتيكياً، له انعكاسات متوقّعة ومتفاوتة على الحركات الإسلامية، الجهادية منها والسياسية، أو ما بقي منها، وهي التي تلقّت هزائم متتالية خلال العقد المنصرم

هذا المعطى الإيجابي، أيديولوجياً وسياسياً واستراتيجياً وجيوسياسياً، يستحقّ المتابعة من دول الجوار، ومن دول العالم الإسلامي عامة ومن الدول العربية خاصة، وتحديداً من مصر أكبر دولة عربية، بمرجعية الأزهر فيها، وثقلها الجيوسياسي، وخبرتها الأمنية. ومن المملكة العربية السعودية، بوصفها أرض الحرمين، ولأنّها دولة قامت على دعوة دينية إصلاحية، وخضعت لإجراءات تحديثية متعاقبة، للمواءمة بين الواقع والمثال، واقع الهيمنة الغربية على العالم، وما يتضمّنه من حدود سيادية وقوانين دولية وقواعد دبلوماسية، ومثال الإرث الفكري والفقهي الإسلامي الضارب في التاريخ، والمحمّل بنماذج وتجارب وإنجازات وإخفاقات، والجاري في شرايين المجتمع تفاعلاً وتطوّراً.

هي فرصة نادرة لإقفال الملفّ النازف، واحتواء حركة إسلامية وطنية ذات شعبية ضاربة، وعدم التخلّي عن المنطقة الحساسة بموقعها وتاريخها وثرواتها ومستقبلها الواعد، وتركها وسط مشاريع متنافسة ومتنازعة، ومطامع متضاربة ومتناقضة. إنّ أفضل طريقة للدفاع عن الأمن القومي، بتجفيف مصدر الخطر المحتمل، من خلال الاحتواء الفعّال والإيجابي، وهو الآن أشدّ الممكن. فالنصر العسكري أسهل بكثير من صناعة السلام مع الأعداء. هذه هي اللحظة المناسبة جداً للمبادرة سياسياً ودبلوماسياً، للاستثمار الاستراتيجي في بلاد الأفغان وملء الفراغ أو ما بقي منه، وفي وقت تحتاج فيه طالبان بشدة لاعتراف العالم بها، وذلك بالنظر إلى الوقائع التالية:

أوّلاً، إنّ الولايات المتحدة لم تخسر حربها على الإرهاب، بل حقّقت خطوات كبيرة للغاية في هذا المجال. ما خسرته حقّاً، معركة أخرى كانت أصعب بكثير، هي نشر القيم الغربية وسط قبائل البشتون المحافظة والمتديّنة. فشلت واشنطن فيما فشل فيه قبل قرن تقريباً الملك الأفغاني أمان الله خان (حكم ما بين عاميْ 1909 و1929)، أو ما قام به على نحو أكثر عدائية رئيس الوزراء محمد داود خان ما بين عاميْ 1953 و1963، وكذلك بعد انقلابه على الملك محمد ظاهر شاه (حكم ما بين عاميْ 1933 و1973)، متولّياً رئاسة البلاد. ولمّا قتله الشيوعيون عام 1973 مع أفراد أسرته في انقلاب دمويّ، استمرت العملية التحديثية بالحديد والنار، بدعم مباشر من الجيش السوفياتي ما بين عاميْ 1979 و1989، فيما كان المجاهدون يشنّون حرب العصابات في الأرياف. بالطبع لم تعتمد الولايات المتحدة السياسة الهجومية التي اعتمدها الملك، مستنسخاً التجربة الكمالية العلمانية في تركيا إلى حدّ كبير. فهي اجتاحت أفغانستان عام 2001، بالتنسيق مع أصوليين سنّة وشيعة منضوين في تحالف الشمال. كما أنّ الزعماء البشتون المعادين لطالبان آنذاك، لم يكونوا تحديثيين، وظلّت المناطق القبلية في الجنوب والشرق، وفي الأرياف عموماً، تناهض إجراءات الحكومة بشأن وضع المرأة وبناء المدارس الحديثة وما شاكل ذلك. أي إنّ البيئة الشعبية بمعظمها كانت مؤاتية لحركة طالبان حتى في بعض معاقل الأقليّات العرقية في الشمال والغرب. أمّا مصير أمان الله، فارتسم في كانون الثاني عام 1929، إثر زحف الثوار نحو العاصمة من مدينة جلال آباد التي  تقع شرق كابول على بعد 130 كلم منها. انفرط الجيش وتخلّى عنه، بعدما أهمله بخلاف نصيحة أتاتورك له. فالإصلاح بحسب “أب الأتراك” يحتاج إلى قوة قامعة أيضاً. بعد ذلك بأقلّ من قرن، هرب الرئيس أشرف غني من كابول، بعد سقوط جلال آباد بيد طالبان البشتونية، ولم ينتظر انحلال الجيش، وكان متوقّعاً منه ذلك.

لم يسبق أن شاهد العالم مذهولاً حركة مسلحة تنتصر على قوة أجنبية، فتعرض المشاركة على عملاء هذا الاحتلال، وتطلب ممّن فرّوا من القادة السياسيين العودة بأمان

ثانياً، إنّ انتصار حركة طالبان ليس كأيّ انتصار لحركة مقاومة على نظام قائم أو احتلال جاثم. للمسألة الأفغانية خطوط متوازية ومتقاطعة في الوقت نفسه، احتلال ومقاومة، وتغريب وتأصيل. ولا يُعدّ نصراً كلاسيكياً “للبرغوث على الكلب”، أي حرب العصابات على الجيوش النظامية، مع أنّ حالات النصر قليلة نسبية، بمقابل تمكّن الجيوش من سحق التمرّدات غالباً. إنّه، نوعاً ما، انتصار القبائل بما ترمز إليه على الولايات المتحدة طليعة الحداثة الغربية في العالم، كما حاول المؤرّخ الأميركي جيريمي سوري (Jeremi Suri) أن يؤوّل الحدث، في مقال له في مجلة “فورين بوليسي” الأميركية. وهو يذهب إلى أنّ العلاقات القبلية في أفغانستان تطوّرت لتصبح شكلاً من أشكال النظام السياسي الحديث. أسوأ ما أزعج الإدارة الأميركية ليس تعاظم قوة طالبان بسرعة عجيبة، بل انعدام إرادة القتال عند الشرائح الأفغانية المؤيّدة للحداثة الغربية. وهو إنجاز غير مسبوق بنظر حركة دينية تقليدية في جذورها، وقومية بشتونية في تطلّعاتها، ووطنية في حدودها. وهو كارثة من دون حدود، بنظر العالم الخارجي، لأنّ ما حدث ليس فقط هزيمة للتحديث الغربي أمام التقليد الإسلامي، بل إنّ تأثيراته هي بالضرورة فورية وعابرة للحدود.

ثالثاً، إنّ حركة طالبان، ومع أنّها لا تدّعي خلافة، بل تكتفي بإمارة، وعلى الرغم من جهودها المضنية للبرهنة على أنّها بنسختها المحدّثة تختلف كثيراً جداً عن نسخة عام 1996 حين دخلت كابول منتصرة على تحالف الشمال، إلا أنّ انتصار حركة إسلامية على دولة حديثة شكلاً، أي النظام الأفغاني السابق، واجتثاثه من جذوره، يؤدّي بها تلقائياً إلى استعادة نمط الحكم الإسلامي التقليدي، والذي لا يعترف بالديموقراطية شكلاً، بمعنى تداول السلطة دورياً عبر الانتخابات العامة، ولا مضموناً بمعنى التشريع المدني للقوانين، علماً أنّها كانت، خلال عقدين، ديموقراطية شكلية إلى حدّ أقصى، وعاجزة عن تخطّي الاعتبارات القبلية أو الاختلافات العرقية. لذا من المهمّ التواصل مع الحركة للوقوف على التطوّرات الجادّة التي طرأت على الفكر السياسي لقادتها خلال المنفى الطويل خارج أفغانستان، وما استدخلته من مؤثّرات خارجية، ومن دروس استقتها من تجارب معاصرة، لأنّ ما ظهر حتى اليوم من مواقف وبيانات قد يفيد بأنّ طالبان القديمة لم يبقَ منها إلا بعض العناصر التأسيسية الراسخة، ومنها الاعتماد المطلق على المدرسة الفقهية لأبي حنيفة النعمان (توفي عام 150هـ/767م)، بالتزاوج مع مدرسة أهل الحديث. ومعلوم أنّ الفقه الحنفي من أكثر المذاهب اتباعاً في العالم الإسلامي، ولا سيّما في القسم الآسيوي غير العربي، وهو من أكثرها إحاطة بالواقع بالنظر إلى طول ممارسته في الدول الإسلامية تاريخياً.

إقرأ أيضاً: إدارة الدين وتحدّي”نموذج” طالبان السنّي! (1/2)

رابعاً، إنّ ظهور طالبان كنموذج لحركة إسلامية متمرّدة على النظام العالمي ومنتصرة عليه تكتيكياً، له انعكاسات متوقّعة ومتفاوتة على الحركات الإسلامية، الجهادية منها والسياسية، أو ما بقي منها، وهي التي تلقّت هزائم متتالية خلال العقد المنصرم. فطالبان لم تعد عمليّاً منظمة إرهابية منبوذة، بعد الاتفاق مع واشنطن في شباط 2020، وعقب سيطرتها على البلاد. وهذا ما يتيح تنامي التأييد العلني لها في أرجاء العالم الإسلامي دون خوف من العواقب. لكنّ هذا ليس على إطلاقه. فحركة طالبان تختلف عن سواها من الجماعات. وإنّ الترادف بين طالبان والقاعدة في تسعينيات القرن الماضي، بحكم جريان الأحداث حينذاك، يخفي اختلافاً منهجياً بين الجماعتين. تكفي قراءة البيانات السياسية للحركة في السنوات الأخيرة، وما قامت به الحركة من تواصل مع عواصم الدول، ولا سيما مع الولايات المتحدة منذ العام الماضي لتبيان الفوارق المهمّة. ثمّ إنّ أجهزة الاستخبارات الأميركية التي استولت على أرشيف أسامة بن لادن في باكستان عام 2011 بعد قتله، تعلم خفايا العلاقة المعقّدة بين طالبان والقاعدة. وعلى هذا الأساس، أقدم ترامب على خطوته المستغرَبة آنذاك. وطالبان مختلفة كذلك عن جماعات الإسلام السياسي، فهي لا تسعى إلى التماهي مع النظام الديموقراطي الغربي، كما فعل الإخوان المسلمون ولا يزالون يفعلون من خلال مجاراة الواقع للاستيلاء عليه بصناديق الاقتراع. طالبان صريحة وواضحة في هذا المجال. وهو ما يتوافق تماماً مع الواقع القبلي المعقّد في أفغانستان.

مواضيع ذات صلة

الصراع على سوريا -2

ليست عابرة اجتماعات لجنة الاتّصال الوزارية العربية التي عقدت في مدينة العقبة الأردنية في 14 كانون الأوّل بشأن التطوّرات في سوريا، بعد سقوط نظام بشار…

جنبلاط والشّرع: رفيقا سلاح… منذ 100 عام

دمشق في 26 كانون الثاني 2005، كنت مراسلاً لجريدة “البلد” اللبنانية أغطّي حواراً بين وليد جنبلاط وطلّاب الجامعة اليسوعية في بيروت. كان حواراً باللغة الفرنسية،…

ترامب يحيي تاريخ السّلطنة العثمانيّة

تقوم معظم الدول التي تتأثّر مصالحها مع تغييرات السياسة الأميركية بالتعاقد مع شركات اللوبيات التي لها تأثير في واشنطن، لمعرفة نوايا وتوجّهات الإدارة الأميركية الجديدة….

الأردن: 5 أسباب للقلق “السّوريّ”

“الأردن هو التالي”، مقولة سرت في بعض الأوساط، بعد سقوط نظام بشار الأسد وانهيار الحكم البعثيّ في سوريا. فلماذا سرت هذه المقولة؟ وهل من دواعٍ…