“اطلبوا العلم ولو في الصين”… تربّينا وترعرعنا على هذه المقولة مذ كنّا صغاراً، فتعلّمنا (ما كتير تشدّ إيدك) وكبرنا وتزوجنا وأنجبنا ولم يخطر على بالنا يوماً أن تكون المدرسة التي تقع على مرمى حجر، نسبة إلى المسافة بيننا وبين الصين وعلومها، سنعجز عن توصيل أبنائنا إليها!
نعم إخوتي في الله، إنه لبنان. إنه بلد العجائب الذي يصرّ على إبهارنا بأزماته وتوابله وبسبع بهاراته.
إذا كانت المسافة بين البيت والمدرسة أقل من 20 كلم، وهي كذلك طبعاً، فهذا يعني أنّ مصروف الطالب الواحد من البنزين لن يتخطى الـ5 ليترات!
فاروق، جارنا “الباب بالباب” موظف في إحدى الدوائر الحكومية، عاد إلى منزله بعد يومٍ شاقٍ وطويل قضاه متراصفاً في طابور البنزين.
دخل فاروق المنزل، ثم سمعنا “الزيطة”. صراخ وعويل وتمتمات غير مفهومة من خلف الباب، لكن كلّها على وزن: أخت، حريم… توت، والله لأعمل، والله لأترك… تووووت.
هدأت العاصفة لهنيهات، ثم بعد ذلك فتح فاروق باب بيته و”كرج” نزولاً إلى المدخل، فركبت “مشايتي” الأصبع وعلّقت لها الـDeuxième بنزول الدرج، ولحقت به لأستفهم ما حاله.
مسكت فاروق في “الباركينغ” قرب سيارته، وبعد أن هدأ روعه ونفخ مرارته بسيجارة “سيدرز” طويل، أخبرني أنّ إدارة المدرسة التي يعلم أولاده ثلاثة فيها قد أخطرت زوجته التي لم تُكذّب خبراً وزفّت له البشرى فور وصوله إلى البيت، بأنّ تعرفة الـAutocar هذه السنة “على الراس الواحد” ستكون 12 مليون ليرة، وأن الأقساط لم يُنظر إليها بعد.
هذا يعني أنّ فاروق “المشحّر” سيضطر إلى دفع 36 مليون بدل أوتوكار… هذا كله ولم نتحدّث بعد بالأقساط، ولا بالخرجيات كل صباح، ولا بسندويش الـ”نوتيلا” الذي بات حلماً بورجوازياً (على أيامنا كان في شوكوماكس يُباع في مجمع اللبنة البلاستيكي الأبيض وبمقدار أوقية فقط) أو سندويش الجبن والحرمان والخذلان، ولا بمنقوشة الزعتر التي بات سعرها 7 آلاف ليرة ولا “القازوزة” التي أمست هي الأخرى بـ7 آلاف أيضاً… ما يعني أنّ فاروق، وأيّ فاروق آخر (أي أبٌ لأولاد يرتادون المدرسة) سيكون مطالباً بمبلغ عن كل يوم دراسي، ما يقارب 15 ألف ليرة ليرة لبنانية، أي ما معدّله 300 ألف ليرة شهرياً عن كل ولد.
هذا كله يعني أنّ المدارس ا ترحم، وهي أكثر بطشاً وجشعاً من “نقابة تجار الغالونات” بالمفرّق، التي تصطاد المواطنين وتستثمر وجعهم وحاجتهم، وأنّ الجدوى من وجود المدرسة ما عادت رسالة التعليم، وإنّما الربح والتكسّب من خلال تجارة المحروقات
أما في حالة فاروق، فسيكون المسكين بحاجة إلى 900 ألف ليرة “شبرقة” و”خرجيات” شهرياً… وتبقى طامته الكبرى في موضوع الأوتوكار. فإذا اعتبرنا أنّ الموسم الدراسي 9 أشهر يتخللها ما مجموعه شهران بين عطل وإجازات وإضرابات واحتفالات، فإنّ العام الدراسي المتواصل هو 7 أشهر، أي نحو 140 يوماً دراسياً إذا حذفنا نهايات الأسبوع.
وإذا كانت المسافة بين البيت والمدرسة أقل من 20 كلم، وهي كذلك طبعاً، فهذا يعني أنّ مصروف الطالب الواحد من البنزين لن يتخطى الـ5 ليترات!
طيب يا سيدي، فلنفرض أنّ المدرسة تحتسب سعر صفيحة البنزين بـ300 ألف ليرة، أي على سعر “السوق السوداء” المحرر والمنتظر من باب التحسّب. وهذا يعني الليترات الخمسة تساوي 75 ألف ليرة لبنانية من أصل صفيحة الـ20 ليتراً، مضروبة بـ140 يوماً دراسياً، فيكون المجموع 10.5 مليون ليرة… وهذا يعني أنّ طالباً واحداً قادر على سدّ تكلفة تنقل الباص يومياً فيما بقية ما يدفعه التلاميذ هو بمثابة ربحٍ صافٍ للمدرسة.
وهذا كله يعني أنّ المدارس لا ترحم، وهي أكثر بطشاً وجشعاً من “نقابة تجار الغالونات” بالمفرّق، التي تصطاد المواطنين وتستثمر وجعهم وحاجتهم، وأنّ الجدوى من وجود المدرسة ما عادت رسالة التعليم، وإنّما الربح والتكسّب من خلال تجارة المحروقات… فما الفرق بين السماسرة وإدارات المدارس؟
إقرأ أيضاً: إذا انقطعت من الدواء أو البنزين… إقصد الصرّاف!
أجريت هذه الحسبة السريعة مع فاروق، ولمّا “دارت لو”، التفت إليه وقال: بتعرف أبو زهير؟ كانوا يقولوا لنا “أطلبوا العلم ولو في صين”… شيلك من هيدا الكلام السخيف، سأعلّمهم “الرماية” لأننا عائدون إلى الفوضى، و”السباحة” حتى يفرّوا كمهاجرين غير شرعيين إلى أوروبا، و”ركوب الخيل” إذا قرّر شي حمار منهم أن يبقى في هذا البلد المشؤوم.
فنظرت إليه بحسرة وتنهدت عميقاً، ثم قلت: طيّب هات سيجارة …
*هذا المقال من نسج خيال الكاتب