غاب محسن العيني، وغاب معه وجهٌ من وجوه الزمن اليمني الجميل، بل أحد آخِر وجوه هذا الزمن. إنّه زمن يصعب أن يعود يوماً في ضوء هبوط ظلام دامس على صنعاء، وهو ظلام كان هدفُ رجالٍ من طينة محسن العيني التخلّص منه إلى غير رجعة.
كان محسن العيني الذي عرفه الناس بـ”الأستاذ محسن” أوّل وزير للخارجية في اليمن بعد قلب النظام الإماميّ في 26 أيلول من عام 1962. وقد شغل موقع رئيس الوزراء مرّات عدّة قبل أن يمضي ما يزيد على عشر سنوات سفيراً لليمن في واشنطن في ثمانينيات القرن الماضي وتسعينياته، أي قبل الوحدة في عام 1990 وبعدها.
توفّي “الأستاذ محسن” في القاهرة عن 90 عاماً. توفّي بعيداً عن صنعاء ومسقط رأسه في مديريّة بني بهلول القريبة منها. كانت لديه علاقة خاصة بمصر التي تخرّج من إحدى جامعاتها في أواخر أربعينيات القرن الماضي قبل أن يدرس في باريس لفترة قصيرة ويعود إلى بلده حيث لعب دوراً سياسياً، خصوصاً في مجال التوفيق بين اليمنيّين بعد قيام الجمهوريّة والتدخّل العسكري المصري والدعم السعودي للملكيّين في مرحلة ما بعد سقوط الإمامة.
في زمن محسن العيني، كانت الحياة في صنعاء حياة جميلة في أجواء حضارية. كانت صنعاء نفسها مدينة مسالمة إلى حدٍّ كبير
تكمن أهمّية محسن العيني في قدرته على تطوير نفسه مع مرور السنوات، وتحوّله من العقل البعثي المتحجّر إلى عقل سفير ناجح لدولة فقيرة اسمها اليمن. استطاع محسن العيني إقامة شبكة علاقات واسعة على مستويات مختلفة في عاصمة العالم التي اسمها واشنطن دي.سي.
كان رجلاً دمثاً وعاقلاً ومرناً يتمتّع باحترام كلّ مَن عرفه. كان بيته مفتوحاً، أكان في القاهرة أو في صنعاء أو في واشنطن. كان رجلاً من هذا العالم يؤمن بالعلم والتطوّر والانفتاح. كان يعمل من أجل يمن أفضل عبر رفع مستوى التعليم فيه. ساعدته في ذلك زوجته السيدة عزيزة شقيقة الشيخ سنان أبو لحوم أحد أبرز المشايخ في تاريخ اليمن الحديث. انتمت السيدة عزيزة، التي كانت أوّل يمنيّة تقود سيّارة، إلى عائلة كانت بين العائلات القليلة التي تبعث بأولادها إلى خارج اليمن من أجل إكمال تحصيلهم العلمي، أكان في بيروت أو القاهرة. كانت العائلة ترسل بعد ذلك أبناءها إلى الجامعات الأميركية لمتابعة تعليمهم العالي وكي يكونوا من أبناء العالم المتحضّر.
في زمن محسن العيني، كانت الحياة في صنعاء حياة جميلة في أجواء حضارية. كلّ ما كان يُقال عن أنّ الغلبة كانت للسلاح ليس صحيحاً. كانت صنعاء نفسها مدينة مسالمة إلى حدٍّ كبير. كان زائر عاصمة اليمن ينتقل من منزل إلى آخر، ولا سيّما منزل “الأستاذ محسن” بحديقته الجميلة، كي يكتشف حياة غنيّة بالنقاشات السياسيّة والثقافية المفيدة قبل أن يبدأ الوضع بالتدهور مع استغلال الإخوان المسلمين موجة “الربيع العربي” لمباشرة انقلاب على علي عبدالله صالح في شتاء عام 2011، وصولاً إلى محاولة اغتياله في الثالث من حزيران من تلك السنة تمهيداً لاستقالته في شباط 2012.
انتمى “الأستاذ محسن” إلى عالم عربي لم يعد موجوداً، تماماً مثلما أنّ اليمن الذي عرفناه لم يعد قائماً. لم يعد من وجود لا لبيروت ولا لدمشق ولا لبغداد
في الزمن الجميل لصنعاء، خصوصاً بين 1990 و1994، كانت العاصمة اليمنيّة تتّسع للجميع، لكلّ القبائل وكلّ الاتّجاهات السياسيّة وكلّ رجال الأعمال والتجّار. فما لا مفرّ من الاعتراف به أنّ علي عبدالله صالح، الرئيس منذ 1978 إلى 2012، كان يعرف، على الرغم من أخطاء كثيرة ارتكبها، أن لا أحد يلغي أحداً في اليمن، وأنّ عليه التعايش حتّى مع أولئك الذين يكنّ لهم في قرارة نفسه كرهاً شديداً.
لم يكن محسن العيني أو آل أبو لحوم من المحظيّين عند علي عبدالله صالح، لكنّ تضييقه على هؤلاء بقي ضمن حدود معيّنة في مقابل صعود نجم الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر، زعيم قبيلة حاشد التي كانت أكثر القبائل تماسكاً. كانت حاشد القبيلة الأقوى، وكانت بكيل القبيلة، التي ينتمي إليها آل أبو لحوم، الكبرى والأكثر انتشاراً في الأراضي اليمنية.
من واشنطن، كان محسن العيني شاهداً على التغييرات التي حدثت في اليمن، وعلاقاتها بمحيطها وبالعالم. شهد تغيير الوحدة بين الشمال والجنوب، وتغيير حرب الانفصال، صيف عام 1994، التي بدّلت كلّيّاً طبيعة الوحدة والتوازنات داخل اليمن. سمح له وجوده في العاصمة الأميركيّة بالتفرّج على المشهد اليمنيّ قبل أن يكتشف أخيراً أنّ اليمن لم يعد يتّسع لشخصيّات مثله، خصوصاً في ظلّ الحلف غير المقدّس بين الإخوان المسلمين والحوثيّين.
صار محسن العيني محروماً من اليمن. يمني أصيل لم يعد يستطيع العودة إلى بلده الذي أمضى ستين عاماً وأكثر من حياته في خدمته. الأكيد أنّه تألّم كثيراً لدى وفاة الشيخ سنان أبو لحوم في القاهرة على الرغم من أنّ الحوثيين سهّلوا للعائلة دفنه في صنعاء، وسهّلوا أيضاً عودة جثمانه إلى مسقط رأسه ليوارى في الثرى في أرض بني بهلول.
تغيّر اليمن تغييراً جذريّاً في السنوات الأخيرة، خصوصاً مع زوال المركز الذي اسمه صنعاء. لم يعد اليمن يشبه اليمن. لذلك فضّل “الأستاذ محسن” الانكفاء والبقاء في القاهرة حيث وجد تعزية في الكتب، وفي ذكرياته الغنيّة وعلاقاته العربيّة والدوليّة الكثيرة والواسعة، وعائلته الملتفّة حوله.
إقرأ أيضاً: إيران والاتّحاد السوفياتيّ… واليمن
انتمى “الأستاذ محسن” إلى عالم عربي لم يعد موجوداً، تماماً مثلما أنّ اليمن الذي عرفناه لم يعد قائماً. لم يعد من وجود لا لبيروت ولا لدمشق ولا لبغداد. يمنيّاً، لم يعد من وجود لا لصنعاء ولا لعدن ولا لتعز. الوجود الوحيد هو لعلامات الاستفهام من نوع: أيّ صيغة سيقوم عليها اليمن مستقبلاً؟… هذا إذا كانت من قيامة لبلد تشظّى، بكلّ ما في كلمة تشظٍّ من معنى. ما مستقبل الأجيال اليمنيّة الجديدة؟ أين ستتعلّم هذه الأجيال وما الذي ستتعلّمه؟
تعلّم محسن العيني في القاهرة وباريس وعاد إلى خدمة اليمن. ساهم قدر المستطاع في الزمن اليمنيّ الجميل الذي يطوي رحيله إحدى آخر أوراقه…