فور استيلاء حركة طالبان على السلطة في أفغانستان، أعلنت الميليشيات الشيعية العراقية استعدادها للسفر إلى أفغانستان في أيّ وقت، لحماية الشيعة هناك. بعد أيام قليلة، تراجعت نبرة البيانات، وانخفضت درجة حدّتها إلى حدّ كبير. ويقول قادة وسياسيون ورجال دين عراقيون لموقع “ميدل إيست آي Middle East Eye” إنّ إيران أصدرت تعليمات صارمة إلى القوات شبه العسكرية، وإلى الفصائل السياسية المتحالفة معها، بحظر أيّ دور لها على الإطلاق في أفغانستان، وحظر تدخّلها بأيّ شكل من الأشكال، وتحت أيّ ذريعة.
في آخر مرّة سيطرت فيها طالبان على كابول، قبل هجمات 11 أيلول في الولايات المتحدة، وقبل الغزو الأميركي لأفغانستان، عام 2001، كانت حركة طالبان عدواً شرساً للجمهورية الإسلامية في إيران. ولكنّ الأمور تغيّرت في السنوات الأخيرة. ولا تنوي طهران الآن نقض التفاهمات المعقودة بعد مشقّة مع طالبان، ولا سيّما وقد سيطرت بشكل كامل على أفغانستان، وهي الآن بصدد استعادة علاقاتها مع جميع دول المنطقة. وعلى الرغم من أنّ النيّات الحقيقية لطالبان تجاه الشيعة في أفغانستان، لم تظهر بعد، لكنّ إيران طمأنت حلفاءها إلى أنّ اضطهادات طالبان للشيعة الأفغان لن تتكرّر، أقلّه في الوقت الراهن.
يسود القلق والتوتّر في مدينة النجف العراقية المقدّسة، مركز العالم الشيعي، والمكان الذي يستضيف جالية كبيرة من الأفغان، ومعظمهم من الطلاب المتديّنين
إنّ حركة طالبان لم تظهر إلا في عام 1994، لكنّ الفصائل التي سبقتها كانت لها صلات دائمة مع إيران، جارة أفغانستان غرباً. وخلال الاحتلال السوفياتي لأفغانستان، دعم الإيرانيون حركة المقاومة الإسلامية، وأرسلوا فيما بعد ضباطاً من الحرس الثوري لتدريب المجاهدين الأفغان، وتقديم المشورة لهم. بعض هؤلاء سينضمّ لاحقاً إلى حركة طالبان. وكان سليماني، الذي اغتالته واشنطن مطلع عام 2020، من بين الضبّاط المرسلين إلى أفغانستان حتى نهاية التسعينيات. وفي عام 1998، انحلّت العلاقة بين إيران وطالبان تماماً، بعد اتّهام الحركة بقتل 10 دبلوماسيين إيرانيين وصحافي لدى اقتحام مدينة مزار شريف. إنّ القمع العنيف ضدّ الأقليّة الشيعية في أفغانستان، التي تشكّل اليوم نحو 20 في المئة من السكان، لم يؤدِّ إلا إلى زيادة التوتّر. ولكن في عام 2015، ومع ظهور فرع لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في أفغانستان، زار وفد من قادة طالبان طهران لمناقشة فتح مكتب سياسي هناك، وبدأت صفحة جديدة.
في ذلك العام، زار سليماني أفغانستان أيضاً، وأبرم عدّة اتّفاقات مع قادة طالبان، وفقاً لقادة عراقيين من الفصائل المسلّحة المدعومة من إيران كانوا مقرّبين منه. ويكشف الموقع بعد مقابلات أجراها مع مصادر عدّة من بغداد إلى كابول، مضمون الاتفاقات التي ضمّت بنوداً كثيرة، أبرزها منع إنشاء قواعد عسكرية أميركية بالقرب من الحدود الإيرانية، ووقف تهريب المخدِّرات إلى منطقة الخليج عبر إيران، وزيادة عدد الهجمات التي تستهدف القوات الأميركية في أفغانستان، ورفع مستواها، ووقف الهجمات ضد الأفغان الشيعة بشكل كامل.
وفي المقابل، وعدت إيران بتقديم دعم مالي وتقني غير محدود لطالبان. وأرسلت ضباطاً من الحرس الثوري لتدريب مقاتلي طالبان وتقديم المشورة لهم، وسمحت لهم بإنشاء معسكرات وملاذات آمنة لقادة الحركة داخل الحدود الإيرانية. ووعدت طهران بضمان عدم عودة لواء فاطميون إلى أفغانستان من سوريا. وهو أشرس ميليشيا شيعية أفغانية مدعومة من إيران.
وقال قائد بارز في فصيل مسلّح كان مقرّباً جدّاً من سليماني: “منذ ذلك الحين، لم تستهدف طالبان الشيعة هناك، وجميع الهجمات ضدهم نفّذها تنظيم داعش”.
وتقول وسائل الإعلام الإيرانية ومقرّبون من إيران تحدّث إليهم الموقع إنّ غالبية طالبان ليسوا من السُنّة المتشدّدين، بل هم في الواقع صوفيون، في محاولة لتصوير تنظيم “الدولة الإسلامية” وتنظيم “القاعدة” على أنّهما المتطرّفان الوحيدان. وقد دافع القائد البارز المقرّب سابقاً من سليماني عن هذه النظرية، وهو ما ترفضه جميع المصادر الأفغانية التي اتّصل بها الموقع. ويقول: “إنّ غالبية طالبان من الصوفيين، وليس لديهم مشكلة أيديولوجية مع الشيعة، وهم الذين عقدوا اتفاقيات مع سليماني”. وقال: “المشكلة هي مع حركة طالبان السلفية، التي انضمّت إلى القاعدة وداعش، وهي المسؤولة عن معظم الهجمات ضد الشيعة على مدى السنوات الماضية”.
وتمثّل الهزارة، وهي ثالث أكبر مجموعة عرقية في أفغانستان، العمود الفقري للأقلية الشيعية، وتتركّز في المناطق الجبلية في وسط أفغانستان، ولا سيّما في مقاطعات هرات وكابول وباميان وهلمند وغزني ومزار الشريف. ولطالما اعتبرت طالبان الشيعة كفّاراً، وقتلت الآلاف منهم على مدى العقود الماضية. وقد أثار استيلاء الجماعة على السلطة عقب سقوط كابول حالةً من الذعر في الأوساط السياسية والدينية الشيعية في النجف وبغداد.
واغتنمت الجماعات العراقية المسلّحة المدعومة من إيران الفرصة لوضع نفسها في قلب الأحداث العالمية، متعهّدةً بحماية الشيعة، وهي التي تشعر بتهميش متزايد منذ أن بدأت الولايات المتحدة التفاوض مع طهران بشأن الانضمام مجدّداً إلى الاتفاق النووي. بيد أنّ منصّات هذه الجماعات الإعلامية تروّج اليوم فكرة أنّ طالبان قد تغيّرت واعتدلت، ولن تستهدف الشيعة كما فعلت في الماضي. وبدلاً من ذلك، تصرّ الحملة الإعلامية على أنّ استيلاء طالبان على السلطة يشكّل هزيمة صارخة للولايات المتحدة، وانتصاراً للإسلام. وقال قائد الفصيل المسلّح الموالي لإيران: “الشيعة هناك في مأمن من هجمات طالبان. وحتى الآن تسير الأمور وفقاً للاتفاقات المعقودة مع طهران”. وأضاف: “لا يُسمَح لفصائل عراقية أو غير عراقية مسلّحة بالتدخّل في هذه المرحلة. وقد صرّح الإيرانيون بذلك علناً خلال اجتماعنا معهم قبل أيام قليلة في بغداد”. في ذلك الاجتماع، أوضح الإيرانيون لحلفائهم كيف أنّ القرى الشيعية في أفغانستان معرّضة للخطر، ويمكن لطالبان أن “تقضي” عليهم بسرعة إذا انهار الاتفاق الإيراني. ونقل ذلك القائد عن الإيرانيين قولهم في الاجتماع: “لا يمكن حلّ هذه المسألة عسكرياً. لقد خسرنا المعركة. وإرسال أيّ قوّة مسلّحة شيعية إلى هناك، يعني الآن إبادة الطائفة الشيعية في أفغانستان”. جاء كلام القادة الإيرانيين ردّاً على تساؤلات قادة الفصائل العراقية الذين هُرِعوا إلى تقديم خدماتهم، ولم يكونوا على علم بما يجري. بعد ذلك، ركنوا إلى الصمت. وأضاف قائد الفصيل الموالي لإيران: “إنّ الأوامر الآن تقضي بالتزام الهدوء والانتظار، واستغلال الحدث بوصفه هزيمة أميركية. وإنّ عملاء أميركا والمتعاونين معها سيدفعون الثمن عندما تنسحب من العراق قريباً. الرسالة وصلت إلى كلّ مَن في العراق، وفهمها جيداً”.
يقول الأستاذ الجامعي في كابول ناصر أحمد حسيني إنّ طالبان ستصبر، وستُظهِر التزامها بما اتّفقت عليه حتى تسيطر على جميع المقاطعات. وربّما تغيِّر سياستها بعد ذلك. إنّها فقط مسألة وقت
وسعت حركة طالبان بعد استيلائها على السلطة إلى طمأنة الشيعة في المدن الرئيسية التي تتّخذ منها مقرّاً لها، ولا سيّما كابول ومزار الشريف وغزني وقندهار. واعتذر قادة طالبان للطائفة الشيعية بعدما أنزل مقاتلوها الأعلام العاشورائية يوم الأحد الماضي. وحرص بعض قادة طالبان على زيارة التجمّعات الشيعية لطمأنتهم والمشاركة في طقوس عاشوراء السنوية. استمرّت احتفالات عاشوراء بتشنّج، ولكن بسلام. وأصدر مولوي نجيب الله، رئيس لجنة الدعوة والتوجيه التابعة لطالبان في إقليم هرات، قرارا خطّياً، حصل الموقع على نسخة منه، يحظر فيه مضايقة المواكب والمساجد الشيعية هناك.
وعلى الرغم من ذلك، يسود القلق والتوتّر في مدينة النجف العراقية المقدّسة، مركز العالم الشيعي، والمكان الذي يستضيف جالية كبيرة من الأفغان، ومعظمهم من الطلاب المتديّنين. وقال الشيخ خالد الحمداني، المدرّس في النجف والمسؤول عن الطلاب الأجانب، للموقع: “كنّا قلقين جدّاً على طلابنا وعلى أسرهم، وخصوصاً في كابول وقندهار ومزار الشريف. اتصلنا بمكتب المدارس في قندهار، ومكاتب المرجعية في بقيّة المدن، فقالوا لنا إنّه لا توجد مشاكل حتى الآن، وإنّ الحياة طبيعية”. وأضاف: “قال لنا طلابنا إنّ القادة الشيعة هناك تلقّوا ضمانات من جمهورية إيران الإسلامية بأنّ طالبان لن تهاجمهم مقابل التزامهم الهدوء وعدم المقاومة”. بل إنّ مقاتلي طالبان دخلوا مزار شريف وفقاً لاتفاق تُشرف عليه إيران، حسبما ذكرت مصادر للموقع. وذكرت مصادر في النجف وكابول أنّ إيران أمرت مقاتلي حزب الوحدة الإسلامية (الهزارة)، الذين كانوا جزءاً من قوات مكافحة الإرهاب الأفغانية الرسمية، بالانسحاب والاحتفاظ بأسلحتهم حتى إشعار آخر. وقال حمداني إنّ “الإيرانيين يخشون أن يتّخذ النزاع منحىً عرقيّاً، فيصبح عندئذٍ أكثر دموية من النزاع الطائفي”. وهناك مخاوف من أنّه إذا اندلع صراع عرقي مع الهزارة، فإنّ جماعات أخرى في أفغانستان سوف تنقلب على الشيعة، وليس فقط طالبان. “لا تعتبر حركة طالبان أنّ الهزارة من السكان الأصليين في أفغانستان. وإذا تحوّل الصراع من نزاع طائفي إلى نزاع عرقي، فهذا يعني نهاية الهزارة”.
الأمور في النجف متوتّرة، وآية الله العظمى علي السيستاني، زعيم الطائفة الشيعية، يراقب أفغانستان عن كثب. يتمتّع السيستاني بالنفوذ لتعبئة الشيعة في أيّ لحظة، كما فعل عندما اجتاح تنظيم “الدولة الإسلامية” العراق في عام 2014، ولكن من غير المرجّح أن يتدخّل بأيّ شكل من الأشكال، حسبما قال باحثون وقادة فصائل مسلّحة مدعومة من إيران ورجال دين مقرّبون من السيستاني للموقع.
إقرأ أيضاً: حكاية الأيام الأخيرة قبل سقوط كابول
وقال علي المدني، الباحث العراقي المتخصّص في الفكر الديني وحركات الإسلام السياسي: “كان بعض الناس يطلبون من المرجعية في النجف، ولا سيّما السيد السيستاني، التدخّل وإصدار فتوى بشأن الجهاد أو استثمار سمعته العالمية للدفاع عن الأقليّة الشيعية في أفغانستان”. ومع ذلك، حذّر قادة الفصائل المسلّحة العراقية من أنّ هذا الهدوء يتوقّف على قدرة طالبان على السيطرة على مقاتليها. لقد بذل قادة طالبان قصارى جهدهم لإبراز صورة مفادها أنّ الحركة أكثر تسامحاً ممّا كانت عليه في السابق. ومع ذلك، بدأت تظهر تقارير بالفعل تفيد بأنّ مقاتليها يقومون بعمليات تطهير، ويستهدفون النساء والصحافيين والأشخاص المرتبطين بالغرب. ويقول باحثون أفغان وعراقيون وقادة فصائل مسلّحة إنّهم يعتقدون أنّ طالبان لن تتمكّن من التظاهر لفترة طويلة بأنّها قادرة على تبنّي سلوك لا يتّفق مع أيديولوجيّتها، وأنّها مسألة وقت فقط قبل أن تُظهِر وجهها الحقيقي.
ويقول الأستاذ الجامعي في كابول ناصر أحمد حسيني للموقع إنّ “طالبان ستصبر، وستُظهِر التزامها بما اتّفقت عليه حتى تسيطر على جميع المقاطعات. وربّما تغيِّر سياستها بعد ذلك. إنّها فقط مسألة وقت”.
لقراءة النص الأصلي: اضغط هنا