– مساومات ميقاتي لا تفعل شيئاً سوى إعادة تأهيل المرض العوني وتقديمه كنمط طبيعي في ممارسة السياسة.
– لن تخرج البلاد من هذه الأزمة إلا بالمواجهة. والمواجهة تقتضي اعتذار ميقاتي، ثم فرض الحُرم الوطني على كل مَن يرضى تشكيل حكومة مع ميشال عون.
لا تزال مصابيح الهواتف المضيئة في ساحات طرابلس غضة في الذاكرة. كان سعد الحريري لا يزال في الحكم حين تقدمت ساحات أهل السنّة بأولى الخطوات نحو التغيير متحرّرة من حُرمات الطوائف. وصلت الرسالة إلى الحريري فاستقال، وبقي ميشال عون يلعب اللعبة نفسها طوال اثنين وعشرين شهراً، ذاقت فيها البلاد كل صنوف الذل والقهر والانقسام. وبماذا يفكر الآن؟ بالثلث المعطّل!
تعثرت ثورة 17 تشرين لأنها بدت في ساحات مغامريها الأوائل نصف ثورة، أخرجت طائفة كبرى من الحكم، ومكنت شلّة طائفية من ممارسة الإلغاء حتى منتهاه
كان في الوعي السنّي الباطنيّ ما يدفع إلى التحرّر من قيود اللعبة الآسرة في حدود الزعامات المستأثرة بالتمثيل، وكان ثمّة استعداد لاختبار نمط مختلف في ممارسة السياسة. لم يُثِر طرح اسم كفاءة من قماشة نواف سلام لرئاسة الحكومة توجّساً أو ريبة، بل كان في الشارع المسيّس وشبه المسيّس وغير المسيّس ما يكفي من المستعدّين للتقدّم خطوة مغامرة نحو أرض مختلفة.
ماذا تبقّى من تلك المغامرة؟
قتلها ميشال عون.
استغلّ الرجل المظلّة المعتادة للموقع المسيحي الأول ليمارس أسوأ صنوف الاستفزاز والإقصاء، فشطب طائفة بكاملها من معادلة الحكم تماماً، وشكّل حكومة ليس في مناصبها السُنّيّة رجل واحد يعرف شيئاً عن السياسة أو يحظى بشيء من الاعتبار التمثيلي، سواء في رئاسة الوزراء أو وزارة الداخلية أو الوزارات الخدمية. يستفزّ عون الحميّة المسيحية بالكلام عن الميثاقية ليل نهار، ثم لا يجد حرجاً في أن يعيّن نرجسياً مغموراً في رئاسة الوزراء، بما لها من ثقل في المعادلة الوطنية، أو أن يعيّن ضابطاً متقاعداً يدين له بالولاء ويعتبره الأب الروحي، ثم يخرج الرجل في الإعلام بعدما ابتسم له الحظ ليقول بمنتهى “البراءة” إنّه لا يفهم بالسياسة، وإنّه لا يتدخّل في ملفاتها حين تُطرح في مجلس الوزراء!
كان بالإمكان تخيّل سيناريو مختلفٍ عمّا حدث بعد ذلك. ماذا لو تقدّم المسيحيون خطوة مقابلة ونفضوا عنهم عهد ميشال عون قبل أن يأتي على كل شيء؟ ماذا لو توافق أهل الحلّ والعقد من الموارنة تحديداً على انتخاب شخصية للرئاسة، ولو لفترة انتقالية، تحظى بثقل وطني عابر للطوائف، وتستطيع لملمة شتات الوطن؟ من كان سيتوجّس حينها من التغيير في رئاسة الوزراء؟
لكنّ عون لعب اللعبة الملائمة لشدّ أوتاد المظلة المسيحية فوق رئاسته المشلّعة، لعلّه يصرف جماهير الطوائف عن الأرض المشتركة ويتيح لجبران باسيل أن يواصل أحلام الرئاسة. تعثّرت ثورة 17 تشرين لأنّها بدت في ساحات مغامريها الأوائل نصف ثورة، أخرجت طائفة كبرى من الحكم، ومكّنت شلّة طائفية من ممارسة الإلغاء حتى منتهاه.
وها قد عادت لعبة تشكيل الحكومات إلى المحترف العوني وفق النموذج المقزّز الذي أرسله قصر بعبدا مع الدرّاج إلى الحريري ليملأه: لا توزير لأيّ مسيحي لا تكون مرجعيته عند الصهر، ليقرّر عنه كيف يصوّت وما يقول ومتى يفتح هاتفه في مجلس الوزراء. وقد رضخ الرئيس المكلّف نجيب ميقاتي للّعبة، فدخل بازار المساومة بما قد يظنّه نفساً أطول وصدراً أرحب للمماحكة.
لن تخرج البلاد من هذه الأزمة إلا بالمواجهة، والمواجهة تقتضي قبل كل شيء اعتذار ميقاتي، ثم فرض الحُرم الوطني على كل من يرضى تشكيل حكومة مع ميشال عون
يعاند ميقاتي ما يعرفه عن مآل اللعبة وبؤسها، ويحلو له أن يقلب الأعداد سريعاً وهو يحصي زياراته إلى بعبدا، بوصفها شاهداً على البراغماتية والحنكة وطول الأناة. اثنتا عشرة زيارة حتى الآن، تعادل ضعف زيارات مصطفى أديب طوال فترة تكليفه، وثلثي زيارات الحريري على مدى تسعة أشهر. يقدّم الرجل نفسه فدائياً يبحث عن مخرج للبنان من الحريق. لكن فات الأوان. هو لا يفعل شيئاً سوى إعادة تأهيل الحالة المرضيّة العونية وتقديمها كنمط طبيعي في ممارسة السياسة. ولا يفتح باباً للخروج من جهنّم ميشال عون سوى لميشال عون نفسه.
ماذا ينتظر ميقاتي؟ هو منذ اليوم الأول يقول إن مهلة التأليف غير مفتوحة، لكن خفافيش القصر تسرّب كل يوم ما يهزأ باحتمال الاعتذار. بات واضحاً أن مهلته المفترضة لا تُؤخذ على محمل الجدّ، وأنّ الوقت الإضافي الذي يمنحه للمساومة يأكل من رصيده، ومن رصيد موقع رئاسة مجلس الوزراء، وموقع الطائفة في المعادلة الوطنية.
أربعون لقاءً بين رئيس الجمهورية وبين ثلاثة رؤساء مكلّفين على مدى عامٍ كاملٍ لم تكن كافية لتشكيل حكومة، فيما الفراغ الحكومي يقتل الناس، بحرفية الكلمة، في التليل وفي طوابير الذلّ وعلى أبواب المستشفيات. من أجل ماذا يعاند الرئيس؟ ما الذي يستحقّ موت الناس وذلّهم وعذابهم إلى هذا الحد؟ ما المطلوب ليتوقّف الابتزاز؟ وزارة الداخلية؟ وزارة العدل؟ توزير مستشار جبران باسيل في وزارة الطاقة؟ الثلث المعطِّل؟ النصف زائد واحداً؟
نسأل مَن يدير القصر والرئاسة: ماذا تريدون؟ فيجيب باسيل أنّهم يريدون الميثاقية. والميثاقية عندهم أنّ رئيس الجمهورية يمثّل المسيحيين في الحكم، ومن حقّه أن يسمّي الوزراء المسيحيين جميعاً، وأن يكون مرجعيتهم، بما معناه أن تكون بيده استقالتهم ووجهة تصويتهم، ونطقهم ونجواهم في مجلس الوزراء. والميثاقية في قوله هي عينها المناصفة ورفض المثالثة. ثم يتبيّن أنه لا يرفض المثالثة، بل يسلّم بالثلث الشيعي كاملاً غير منقوص، ويطلب لنفسه النصف، ويترك للسنّة والدروز معاً النصف ناقص الثلث، أي نصف الثلث. وبهذه المعادلة الكاسرة يريد أن يبني وطناً. إنها حرب إلغاء من نوع آخر، لا تستهدف طائفة بعينها بقدر ما تستهدف كسر التوازن وإشباع الجوع العتيق للاستئثار، على نحو ما فعل في الساحة المسيحية حين نصّب نفسه حاكماً عسكرياً في الثمانينيات، لكنه يفعلها هذه المرّة لا بسلاح الجيش والشرعية، وإنما في حمى سلاح “حزب الله” وفي ذمّته.
سيكون تضييعاً لوقت البلاد الاستمرار في المساومة مع الابتزاز العوني. لم يعد بالإمكان التعامل مع هذا المرض المستعصي على أنّه نمط طبيعي في ممارسة السياسة يمكن لميقاتي أو سواه الاستمرار في معاركته ومماحكته على بساط الدستور والأعراف والأخلاق السياسية.
إقرأ أيضاً: تأجيل الانفجار 40 يوماً… وعون: أنا الدولة!
قُضِيَ الأمر. ميشال عون لم يعد صالحاً للحكم، وكل يوم يمرّ في المساومة معه على الحقائب والمناصب استنزاف للبلاد في اقتصادها ومؤسساتها وتوازن الحكم فيها.
لن تخرج البلاد من هذه الأزمة إلا بالمواجهة. والمواجهة تقتضي قبل كل شيء اعتذار ميقاتي، ثمّ فرض الحُرم الوطني على كل مَن يرضى تشكيل حكومة مع ميشال عون. وللساحة السنّيّة أن تتقدّم الآن بلا حرج، وللآخرين أن لا يضيّعوا فرصة اللقاء في ساحة سواء.