إدارة الدين وتحدّي”نموذج” طالبان السنّي! (2/2)

مدة القراءة 11 د

ماذا فعل الطالبانيّون عندما هاجمتهم الولايات المتحدة بين عاميْ 2001 و2003؟

لجأوا، كما لجأ أُسامة بن لادن وأتباعه، من جديد إلى باكستان وجبال القبائل على الحدود بين البلدين. وكما حدث في العراق، إذ استغرق الأمر سنتين حتى بدأت “المقاومة” السنّيّة ضد الأميركيين، كذلك الأمر مع الطالبانيين الذين استغرق الأمر معهم أكثر، أي حوالى خمس سنوات، حينما أقبلت الاستخبارات الباكستانية على إعادة التنظيم، وبدأت الضربات في الأرياف والجبال ضد قوات الحكومة التي نصّبها الأميركيون، ثمّ ضدّ الأميركيين أنفسهم. وكالعادة، بدأ الأميركيون يقلقون لطول المدّة، ويفكّرون في الانسحاب أو خفض عدد قوّاتهم مع حلفائهم الأطلسيين. وتبرّع القطريون، فبدأت اللقاءات بالدوحة عاميْ 2013 و2014. وانجرّت إليها الحكومة الأفغانية مضطرّةً أيام الرئيس كرزاي ومَنْ بعده، إلى أن تعهّد أوباما ثمّ ترامب بالانسحاب الكامل. وإنّما جرى تفاوض طويل على طريقة الانسحاب حتى لا يحدث ما حدث في فيتنام عام 1975. وقد شجّع الأميركيين على إمكان ذلك، انسحابُهم من العراق عاميْ 2010 و2011 بطريقة منظّمة بالفعل.

هناك اضطراباً في إدارة الدين أو سياساته لدى أهل السُنّة. وما حدث بأفغانستان بدفعٍ من باكستان يعني امتداداً بطريقةٍ ملتويةٍ للإسلام السياسي الذي يحمل مقولة: “تطبيق الشريعة”، ويجعلها مهمّةً للدولة، فيما مهمّة الدولة الحقيقية هي حُسْنُ إدارة الشأن العام

لكن لماذا حدث ما حدث من فوضى كانت صورةً للهزيمة الكاملة؟

في الغالب لأنّهم ما قدّروا أن ينهار الجيش الأفغاني الذي أنشأوه بهذه السرعة، تاركاً عتاده وعائداً إلى مناطقه القبلية، أو منضمّاً إلى طالبان. وتقديري أنّ أجزاء صغيرة من الجيش لجأت أيضاً إلى وادي بنجشير أو إلى المناطق الشيعية، والأرياف التي تسود فيها إثنيّات غير بشتونية.

وليس من غرض هذا المقال الحديث عن المتغيّرات الجيوستراتيجية، ولذلك أعود إلى إدارة الدين وسياساته.

طالبان ليسوا أصحاب أيديولوجيا

أنا مُصرٌّ، كما ذكرتُ في مقالتيَّ في جريدتي “الشرق الأوسط” و”الاتحاد”، أنّ هؤلاء في تفكيرهم الديني تقليديون ومحافظون وليسوا أهل أيديولوجيا جهادية أو حتى صحوية (مثل الجماعة الإسلامية الباكستانية أو الإخوان المسلمين)، وهم متجذّرون في قبائل البشتون والأعراف القبلية والعشائرية. والتعابير التي ترد على ألسنتهم، مثل حكم الشريعة والإمارة والخلافة.. إلخ، تعلّموها من خصومهم المجاهدين أو من الجماعة الإسلامية أو ممّن عرفوا من الإخوان بقطر. والواقع أنّه لا تحكمهم غير الأعراف. وأظنّ أنّ بشاشتهم مع الأتراك لأنّهم أحنافٌ مثلهم. لكنّ تركيا عندها محنة، فالنصف مليون لاجئ أفغاني عندها معظمهم من الطاجيك والأوزبك من خصوم طالبان، وهم هاربون منها. وأنا لا أقصد أنّ الطالبانيين أبرياء وسذّج. فكثيرون منهم مارسوا أعمالاً إجراميةً حتى ضدّ شعبهم، وبدوافع تعصّب قبلي أو ديني أو مصلحي. هم يقولون الآن إنّ الهجمات على المصلّين بالمساجد من أعمال داعش(!)، لكنّها تحدث منذ عام 2009، ووقتها ما كان داعش منتشراً. وهم أعداء داعش بالفعل، لكن ربّما لا يزال بينهم أناسٌ من أصول قاعدية. إنّ ما أقصده أنّه ليست عندهم أيديولوجيا تشبه أيديولوجيات الإسلام السياسي أو الجهادي، وأنّهم في مسلكهم الديني أدنى إلى الإسلام التقليدي. وهنا مربط الفرس كما يقال. وهذه المرّة الأولى في الإسلام السنّيّ التقليدي غير الصحوي وغير الجهادي، التي يتولّى فيها شيخٌ (تقليدي: مرةً أخرى!) رئاسة النظام. وبالطبع، فإنّ طرف عمامته العلمية غائصٌ في مستنقع القبيلة، لكنّه شيخٌ (أو عالم دين؟) مثلما هو الخامنئي أو يا سيدي: رئيسي، في إيران الشيعية. إنّما وراء نظام ولاية الفقيه أيديولوجيا ودوغما ضخمة، وليس وراء طالبان غير الاستخبارات الباكستانية.

قيام دولة دينيّة

ماذا يعني هذا؟

هذا يعني قيام دولة دينية للمرّة الأولى في عالم الإسلام السنّيّ في الأزمنة المعاصرة. وأنا متأكّد أنّ هذه الدولة إذا استقرّت، ستتحوّل إلى دولة عادية أو وطنية، لكنّها الآن هي سلطة سياسية/دينية، وتوشك أن تسلك كما سلك الخميني في السنتين الأوليين للثورة الإيرانية. إذ تعاون مع الجميع، واستعمل المدنيين والحزبيين ورجالات الدولة ذوي التجربة، ثمّ قضى عليهم جميعاً. إنّما هل تكون القبليّة من القوّة بحيث تُرغم بالفعل على التوافق والتوازُن، أم يتمكّن الطالبانيون من إقامة حكم استبدادٍ باسم الدين كما فعل المشايخ الإيرانيون؟

القاعديّون والدواعش والإخوان ليسوا حجّةً علينا لأنّهم شكّلوا انشقاقات في الدين وعلى الدولة. أمّا شيخ الطالبانيين فقد يريد إعطاء نفسه سلطةً باسم الدين، ولكنّ الدخول في الاستبداد باسم الدين يصعُبُ الخروج منه.

 هل تكون القبليّة من القوّة بحيث تُرغم بالفعل على التوافق والتوازُن، أم يتمكّن الطالبانيون من إقامة حكم استبدادٍ باسم الدين كما فعل المشايخ الإيرانيون؟

لقد دخلت باكستان في ممارسةٍ خطِرةٍ عندما تلاعبت بإسلامها التقليدي الذي أُسِّس عليه استقرارها. وهو الأمر الذي يحدث عندما يتذاكى ضباط الاستخبارات، فيعتقدون أنّهم كما يستطيعون التلاعب بحكمتيار أو عبد ربّ الرسول سيّاف، أو برهان الدين ربّاني، يستطيعون أيضاً التلاعب بالمؤسسة الدينية. فإذا كان يمكن تعيين رجل دينٍ رئيساً على أفغانستان ليحكم باسم الدين، فلماذا لا يستطيع شيخٌ باكستاني أن يفعل ذلك أيضاً؟!

إنّ خلاصة الأمر أنّ هناك اضطراباً في إدارة الدين أو سياساته لدى أهل السُنّة. وما حدث بأفغانستان بدفعٍ من باكستان يعني امتداداً بطريقةٍ ملتويةٍ للإسلام السياسي الذي يحمل مقولة: “تطبيق الشريعة”، ويجعلها مهمّةً للدولة، فيما مهمّة الدولة الحقيقية هي حُسْنُ إدارة الشأن العام.

طوال القرن العشرين، عمل العلماء المتبصّرون على اعتبار الدين قوّةً ناعمةً تحمل قيم السلام والعدالة والرحمة، والذين يمارسون العنف باسم الدين هم منشقّون، وليسوا أهلاً للنطق باسم الدين أو حكم الجبروت باسم الدين.

يقول أحد المتحدّثين باسم طالبان إنّ أفغانستان لن تكون ديموقراطية. الديموقراطية ليست اعتقاداً، لكنّها طريقة في إدارة الشأن العام ومصالح الناس، وهي كلّي العصر والمستقبل. هذا كلامٌ يستطيع القذّافي أن يقوله وقاله وفعله، لكنْ ليس من حقّ متسلّطٍ يتحدّث باسم الإسلام أن يُصدر هذا الحكم، وإلاّ فما معنى قوله تعالى: {وأمرهم شورى بينهم} (سورة الشورى: الآية 38)؟! إنّها صورةٌ سلبيّةٌ جدّاً تُعطى من جديد عن الإسلام بعدما كنّا قد ظننا أنّنا تخلّصنا من القاعدة وداعش وطرائقهما الإجرامية في فهم الإسلام وتطبيقه. وما يحدث في مطار كابول ومن حوله، لا يمكن نسيانه، كما لا يمكن نسيان إحراق داعش للناس، واستعباد النساء والأطفال.

اختراق جديد للتقليد السنّيّ

سيظلّ الباحثون الاستراتيجيون والمفكّرون والزملاء من الإعلاميين يحاججونني أنّ هؤلاء الطالبانيين في النتيجة ليسوا أقلّ سوءاً من القاعديين والدواعش وأنصار الشريعة ومجرمي بوكو حرام.. إلخ. وأنا لستُ أزعم خلاف ذلك. ولكنْ ما أذهب إليه أنّهم يشكّلون اختراقاً جديداً للتقليد الديني السنّيّ، الذي ما كان الدواعش وغيرهم يوالونه، بل يتنكّرون له ويعادونه لأنّه لا يقول بالدولة الدينية، ولا يقبل العنف باسم الدين لأيّ سببٍ كان. ولا يظنّنّ ظانٌّ أنّ هؤلاء الطالبانيين يمكن أن ينتموا إلى الجزء المتخلّف من التعليم الديني الهندي الأصل المعروف بـ”الديوبندي”، والذي انكمش تحت وطأة الهزيمة أمام البريطانيين، واعتبار الإصلاحيين متغرّبين. فالقول بالحكم المدني ليس مقولةً لمحمد عبده المصري، بل ظهر قبله ومعه بالهند على أيدي علماء هنود من ذوي الثقافة التقليدية، أمثـال شـبلي النعماني وأبـو الكلام أزاد. ويبلغ من قوّة هذه الفكرة بحيث صارت ممارسة مستقرّة، أنّ أبا الأعلى المـودودي (1979)، مؤسّس الجماعة الإسلامية (عام 1941)، وهو لم يكن عالم دين، وهو أشهر الصحويين المسلمين المعاصرين، عندما انصرف إلى وضع تنظيمات دستورية وقانونية لحزبه مُريداً فرضها على الدولة الباكستانية الجديدة، اضطرّ إلى الذهاب إلى صيغة “بديعة” في فهم طبيعة الإسلام أنّه ثيوديموقراطي (!). وقد سخر منه صديق عمره أبو الحسن الندوي (وهو عالم ديني كبير) توفّي عام 1999، إذ قال له: “دعك من هذه الخزعبلات، واترك أمّتنا تعِش في عالم العصر وعصر العالم”. وما أريد الوصول إليه أنّ أصوليّي الهند وباكستان أنفسهم لا يستطيعون التنكّر للديموقراطية، وهم إذا فعلوا ذلك أو شبهه يفعلونه على سبيل الفتوى أو الرأي وليس باعتبارهم حكّاماً.

وتبقى قبل طالبان وبعدها الأهداف الاستراتيجية الثلاثة لأمّتنا: استعادة السكينة في الدين، وتجديد تجربة الدولة الوطنية، والعلاقة السليمة مع العالم

ويمكن أن نفهم المشاعر الوطنية والإسلامية لعشرات الألوف من الشبّان في التسعينيات الذين فرحوا بذهاب الروس، لكنّهم انزعجوا لتكالُب “المجاهدين” على السلطة والثروة، فانتظموا في فِرَق قادها ضبّاط باكستانيون لتحرير وطنهم من أوباش وأوضار “المجاهدين” بعدما تحرّر من الروس والشيوعيين. إنّما لا يمكن أن نفهم إيواءهم لابن لادن وصحبه، ولا ممارستهم لهذا العنف المنفلت الذي يشبه الاستباحة والاستعراض كما كان يُقال عن أوائل الخوارج في منتصف القرن الأوّل الهجري.

إنّني آمُلُ أن يكونوا قد تعلّموا خلال تجربتهم القتالية والعلاقات بالمحيط، والتجربة الطويلة في التفاوض، وأن يلفت انتباههم ذعر ملايين مواطنيهم منهم بما لا يقلّ عن ذعر الناس من داعش أو بوكو حرام: كيف ستحكم 38 مليون بشري، وأكثر من نصفهم يخافك لأسبابٍ قبليّة أو دينية أو حضارية أو إنسانية، فهل ندخل من جديد في “إدارة التوحّش” شأن ما كان أيّام داعش؟

3 أهداف استراتيجيّة

لست على أملٍ كبيرٍ أن يكون الطالبانيون أهل رشدٍ ورشاد. إنّما هذا الأمر على أهميّته ليس موضوع اهتمامي الرئيسي. أنا أذهب إلى أنّ التعليم الديني السنّيّ، والتقليد الديني السنّيّ داَخَلَهُ اختراقٌ أو شرخٌ جديد، لغير مصلحة الحكم المدني والدولة الوطنية. وقد ساعد عليه العسكريون الباكستانيون، والاستخبارات الباكستانية، من أجل مصالح واعتبارات استراتيجية تتعلّق بعملهم عند الصين وفي مواجهة الهند… وأميركا. وهو قِصَر نظر سيجلب على رئاسة باكستان قريباً، إمّا شيخاً تقليدياً أو أصولياً عنيداً، يحملان نفس الفكرة بشأن تطبيق الشريعة أو إقامة الدولة الإسلامية الوهميّة، كأنّما باكستان مثل أفغانستان ما عرفت الإسلام إلاّ مع المودودي وطالبان. إنّ طالبان مصيبة جديدة على منظر الإسلام في العالم، وعلى واقعه، ولا نستطيع الآن تقدير حجم الضرر الذي وقع وسيقع.

وأنا أزعم أنّه للأسباب التقليدية والسبب المستجدّ (= حكم الشريعة!)، فإنّ أفغانستان لن تستقرّ، ولن يستمتع بالسيطرة عليها الصينيون والباكستانيون والأتراك.. إلخ. إنّما لا بدّ لمؤسّساتنا الدينية ودولنا الوطنية في العالمين العربي والإسلامي أن تتعلّم الدرس، فالخطر مزدوج على الدين وعلى الدولة، وعلى الدين أكثر من الدولة. ولذلك تكرَّر في مقالاتي تعبير: “الاحتضان المتبادل بين الدين والدولة الوطنية المدنية”، لكي نتجنّب النموذج الإسرائيلي للدولة اليهودية، والنموذج الإيراني للدولة الإسلامية.

إقرأ أيضاً: إدارة الدين وتحدّي”نموذج” طالبان السنّي! (1/2)

لنعُد إذن للمرّة الثانية أو الثالثة إلى مسألة إدارة الدين أو سياساته. باكستان تلاعبت بإدارة الدين، كما تلاعبت من قبل بإدارة المجاهدين الأشاوس. ديننا محتاجٌ إلى احتضانٍ، وليس إلى تجاهلٍ وإقصاءٍ بما يمكّن أعداء السلطات الوطنية من استخدام الدين واستغلاله في مواجهتها. وما استطعنا استعادة السكينة في الدين بسبب عذابات الجهاديات والصحويات، واستنزافات السياسات الدولية، واستخدام إيران للدين في صنع الدول الفاشلة والمجتمعات الممزّقة. ونحن مقبلون على مرحلة أُخرى في عمليات استغلال ديننا وإهانته ومهانته. ولذلك سيكون على مؤسّساتنا الدينية أن تستمرّ في التأهّل والتأهيل، وعلى دولنا أن تُقبل أكثر على احتضان الدين وإقرار التشارك في إدارته وصنع سياساته.

وتبقى قبل طالبان وبعدها الأهداف الاستراتيجية الثلاثة لأمّتنا: استعادة السكينة في الدين، وتجديد تجربة الدولة الوطنية، والعلاقة السليمة مع العالم.

مواضيع ذات صلة

روسيا ولعبة البيضة والحجر

منذ سبع سنوات كتب الأستاذ نبيل عمرو في صحيفة “الشرق الأوسط” مستشرفاً الأيّام المقبلة. لم يكتب عمّا مضى، بل عمّا سيأتي. نستعيد هذا النصّ للعبرة…

سورية القويّة وسورية الضعيفة

سورية القويّة، بحسب ألبرت حوراني، تستطيع التأثير في محيطها القريب وفي المجال الدولي. أمّا سورية الضعيفة فتصبح عبئاً على نفسها وجيرانها والعالم. في عهد حافظ…

الرّياض في دمشق بعد الفراغ الإيرانيّ وقبل التفرّد التركيّ؟

سيبقى الحدث السوري نقطة الجذب الرئيسة، لبنانياً وإقليمياً ودوليّاً، مهما كانت التطوّرات المهمّة المتلاحقة في ميادين الإقليم. ولا يمكن فصل التوقّعات بشأن ما يجري في…

الرّافعي لـ”أساس”: حلّ ملفّ الموقوفين.. فالقهر يولّد الثّورة

لم يتردّد الشيخ سالم الرافعي رئيس هيئة علماء المسلمين في لبنان في الانتقال إلى دمشق التي لم يزُرها يوماً خوفاً من الاعتقال. ظهر فجأة في…