تشكيل الحكومة… انتخابٌ ثانٍ لميشال عون

مدة القراءة 7 د

عندما يتواصل، طوال سنتين، وعن حقّ، تحميل السلطة السياسيّة مسؤولية الكوارث المتتالية في لبنان، ولا يحصل أدنى تغيير سياسي يمنع السلطة عينها من مواصلة إنتاج النكبات، فهذا يعبّر عن أزمة وطنية كبرى أكثر منه عن انعدام التكافؤ في موازين القوى بين السلطة من جهة، والمعارضة، بل والمعارضات، من جهة ثانية.

إزاء واقع كهذا يصبح الحديث عن صراع سياسي بين السلطة والمعارضة نوعاً من التورية. ففي الواقع ليس هناك صراعٌ فعليّ بين الطرفين يسعى فيه الطرف الأضعف، أي المعارضة، إلى تعديل موازين القوى لمصلحته. إنّما لبّ المشكلة أنّ هناك عجزاً فادحاً عن إنتاج صراع متكافئ، ولو بالحدّ الأدنى، لأنّ القوى المهيمنة، وتحديداً حزب الله، قادرة حتّى الآن على منع تجاوز الصراع الحدود التي تمكِّن المعارضة من قلب المعادلة، أو أقلّه تحسين شروطها.

والائتلاف الحاكم، أي العهد والحزب، ما عاد مهتمّاً بإنتاج الحلول للأزمة بقدر اهتمامه بضبط حدود الصراع. فإذا كان تعميق الأزمة يحسمُ الصراع نهائياً لمصلحته فهو مستعدّ لتعميقها أيّاً تكن النتائج على المجتمع والدولة.

إنّ لحظة تأليف حكومة نجيب ميقاتي هي، من الناحية السياسية، إعادة إنتاج لحظة انتخاب ميشال عون نتيجةً للتسوية بينه وبين سعد الحريري


لذلك فإنّ العجز عن إنتاج صراع متكافئ نسبيّاً يعني حكماً العجز عن إنتاج مسار تفاوضي حقيقي لحلّ الأزمة السياسية. ذلك لأنّ القوى المهيمنة لا تجد نفسها مضطرّة إلى التفاوض بجدّ طالما أنّ المعارضة عاجزة عن الضغط عليها ودفعها إلى التفاوض لتجنّب الأسوأ في البلاد.

لذلك يتمثّل انسداد الأفق أوّلاً في غياب أيّ إمكان للتفاوض على العناوين الأساسية للصراع السياسي، لأنّ هذه العناوين نفسها أصبحت ضبابية في ظلّ عدم وجود جسم معارض يحمل خطاباً سياسياً واضحاً ومتماسكاً. إذ توجد معارضات، أشبه بـ”الذئاب المنفردة”، يتحرّك كلّ منها وفق خلفيّته ومصالحه وأولويّاته، وليس هناك ما يجمع بينها سوى معارضة السلطة. لكن حتّى هذه السلطة تختلف المعارضات على توصيفها وتفكيك خطابها وأدوات عملها وموازين القوى داخلها.

وهل من تعبير عن استثنائية وغرابة، لا بل سوريالية الواقع اللبناني، أكثر من مطالبة بعض المعارضات للقوى المهيمنة بتشكيل حكومة لن تكون في ظلّ الظرف الحالي سوى ارتدادٍ لرجحان موازين القوى لمصلحة الائتلاف الحاكم؟

ليست المشكلة في الحكومة بذاتها، لأنّه من حيث المبدأ يبقى وجود حكومة أفضل من عدمه. لكنّ إنتاج الحكومة بالشكل الذي يتمّ فيه يعكس الأزمة الوطنية الكبرى التي يتخبّط فيها لبنان. وهي أزمة من طبيعة سياسية وطنية في الأساس، وليست أزمة مالية أو اقتصادية بحت.

في واقع الحال، أيّ حكومة ستُشكّل في ظلّ حكم العهد والحزب هي حكومة أمر واقع، وليست حكومة مؤهّلة فعلياً لامتصاص الصراع الحقيقي الكامن في البلد، والذي يغذّيه الائتلاف الحاكم مع حرصه في الوقت نفسه على ضبطه لكي لا يتحوّل عامل ضغط عليه يحضّه على القبول بالتفاوض حول العناوين الرئيسة للأزمة، وفي مقدّمها تمسّك حزب الله بسلاحه واستقواء العهد بهذا السلاح لتأمين مصالح فريقه السياسي ولو بلغ به الأمر حدّ وسم منطقة وطائفة بأمّها وأبيها بالتشدّد والتطرّف.

لذا الحكومة العتيدة هي حكومة تطمس الصراع وتخمده، ولا تعالج أسبابه، وهذا شرط تشكيلها وإلّا فلن تبصر النور.

ربّ قائلٍ إنّ الظرف الآن يتطلّب حكومة تكبح جماح الانهيار، لا حكومة تعالج الأزمة السياسية العميقة والتاريخية.

لكنّ ذلك القول على مشروعيّته بالنظر إلى فداحة النكبة لا يلغي واقع أنّ الحكومة الميقاتية في حال تألّفت ستكون أداة جديدة لتكريس غلبة الحزب والعهد في لبنان ولو في ظلّ الانهيار. اليوم أكثر من أيّ وقت مضى يمكن القول إنّ الحكومة العتيدة هي حكومة حزب الله، لأنّ قرار تشكيلها هو أوّلاً قرار الحزب في لحظة إقليمية ودولية معيّنة هي لحظة الانسحاب الأميركي من أفغانستان ومن الشرق الأوسط ولد بالتدريج.

حتّى لو تألّفت الحكومة وأُجريت الانتخابات النيابية والرئاسية في موعدها، فالعهد الحالي أعطانا درساً تاريخياً مفاده أنّه ليس المهمّ إتمام الاستحقاقات الدستورية، وإنّما كيفيّة إتمامها


لن تنحصر ارتدادات المشهد الأفغاني الجديد في الداخل الأفغاني أو في جواره القريب وحسب، بل إنّ تلك الارتدادات ستشمل المنطقة بأسرها. إذ يشكّل الانسحاب الأميركي من أفغانستان، وفرض حركة طالبان مجدّداً سيطرتها على البلاد، متغيّراً جيوستراتيجيّاً كبيراً في المنطقة. وهو ما سيؤثّر حكماً على مسار الصراعات الدولية والإقليمية في المنطقة، ومن أبرزها الصراع الأميركي – الإيراني، وتحديداً في العراق وسوريا ولبنان.

وفي هذا السياق، ليس قليل الدلالة اعتبار الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي الانسحاب الأميركي من أفغانستان هزيمة للأميركيين. فقد وظّف الإيرانيون هذا الانسحاب سريعاً في سياق صراعهم مع الأميركيين، وذلك على الرغم من التحدّي الذي تمثّله عودة طالبان إلى حكم أفغانستان، البلد الذي تتشارك معه إيران حدوداً تبلغ 800 كيلومتر.

وإذا كان لا بدّ من انتظار كيفيّة تصرّف واشنطن مع ملفّات المنطقة لاستبيان ما إذا كان التطوّر الأفغاني سيدفعها إلى التشدّد أو التساهل في مجمل حركتها السياسية والعسكرية في الإقليم، فإنّ اللحظة الراهنة، ولا سيّما عشيّة استئناف المفاوضات النووية في فيينا المرتقبة في أيلول المقبل، هي لحظة مؤاتية لإيران للإمساك قدر الإمكان بأوراق الضغط على الأميركيين، في العراق وسوريا ولبنان.

وفي حال تشكيل الحكومة الميقاتية فستكون بمنزلة رسالة إيرانية إلى مَن يعنيهم الأمر، ومفادها أنّ الغلبة في لبنان هي لطهران من طريق حزب الله وحلفائه. وهو ما يعني أنّ شرط تشكيل الحكومة هو تأكيدها هذه الغلبة التي لا لبس فيها.

والحال هذه فإنّ لحظة تأليف حكومة نجيب ميقاتي هي، من الناحية السياسية، إعادة إنتاج لحظة انتخاب ميشال عون نتيجةً للتسوية بينه وبين سعد الحريري. ذلك لأنّ تشكيل الحكومة الميقاتية يعيد التأكيد أوّلاً على إمساك إيران بورقة الاستحقاقات الدستورية اللبنانية، وثانياً على أنّ أيّ تسوية سياسية في ظلّ غلبة الحزب هي تسوية مختلّة الشروط تطمس الصراع الحقيقي عوَض أن تشكّل خطوة باتجاه معالجته والتفاوض في شأنه. فهي تسوية استسلامية لشروط الحزب أيّا تكن إخراجاتها الشكليّة.

وهذا وجهٌ رئيسٌ من وجوه الأزمة الوطنية، يتمثّل في أنّ الحاجة إلى ملء السلطة، سواء في رئاسة الجمهورية أو الحكومة أو حتّى في إجراء الانتخابات النيابية، مرهونة بأولويّات إقليمية لا لبنانية، وفي الوقت نفسه فإنّ العجز عن إنتاج موازين قوى داخلية تقلب هذه المعادلة الكارثية من خلال فرض حتمية التفاوض المتكافئ، يؤدّي حكماً إلى إعادة التطبيع مع هذه المعادلة تحت ذريعة الحاجة إلى إتمام الاستحقاقات الدستورية لتسيير الدولة، ولا سيّما في ظلّ النكبة الحاصلة.

لذلك فإنّ لبنان يعاني من معضلة مزدوجة. فمن ناحية هناك إمساك إقليمي بالقرار الداخلي، وعلى نحو غير مسبوق في تاريخ البلد. ومن ناحية أخرى هناك غياب لجسم معارض متين يوصّف الأزمة الوطنية المتأتّية من جرّاء هذا الإمساك. فإن لم يكن قادراً الآن على تغيير هذا الواقع فأقلّه أن يمنع طمس الصراع الأساسي وتأجيله، ويستبق خطورة انفجاره. وقد شهدنا في الأيام القليلة الماضية تعبيرات أوّلية عن هذا الانفجار، سواء في خلدة أو وسط بيروت أو شويّا أو التليل.

إقرأ أيضاً: ميقاتي: المنطقة تتغيّر… ولبنان كذلك

والحال هذه فإنّه كلّما تفاقمت وقائع النكبة اللبنانية يسلك المسار السياسي والشعبي مسارات صدامية لا تعبّر عن إمكانات حلول للأزمة اللبنانية، وإنّما عن مزيد من انسداد الأفق أمام الحلول الحقيقية لهذه الأزمة. فالمسار السياسي والشعبي الراهن ومن جميع أطرافه، الحزب والعهد ومعارضيهما، يعبّر عن موت السياسة وموت التفاوض. فحتّى لو تألّفت الحكومة وأُجريت الانتخابات النيابية والرئاسية في موعدها، فالعهد الحالي أعطانا درساً تاريخياً مفاده أنّه ليس المهمّ إتمام الاستحقاقات الدستورية، وإنّما كيفيّة إتمامها.

في المحصّلة هناك حاجة وطنية ملحّة إلى إعادة إنتاج حقل سياسي يعيد الاعتبار إلى المنطق السياسي والوطني على حساب الغلبة الفئوية والشعبوية والفوضى التي لن تكون بين الشعب وقوى السلطة حصراً، وإنّما بين فئات الشعب أيضاً.

    

مواضيع ذات صلة

الجيش في الجنوب: mission impossible!

لم يعد من أدنى شكّ في أنّ العدوّ الإسرائيلي، وبوتيرة متزايدة، يسعى إلى تحقيق كامل بنك أهدافه العسكرية والمدنية، من جرائم إبادة، في الوقت الفاصل…

وزير الخارجيّة المصريّ في بيروت: لا لكسر التّوازنات

كثير من الضوضاء يلفّ الزيارة غير الحتميّة للموفد الأميركي آموس هوكستين لبيروت، وسط تضارب في المواقف والتسريبات من الجانب الإسرائيلي حول الانتقال إلى المرحلة الثانية…

تعيينات ترامب: الولاء أوّلاً

يترقّب الأميركيون والعالم معرفة ماذا تعلّم الرئيس ترامب من ولايته الأولى التي كانت مليئة بالمفاجآت وحالات الطرد والانشقاقات، وكيف سيكون أسلوب إدارته للحكم في ولايته…

الميدان يَنسِف المفاوضات؟

لا شيء في الميدان على المقلبين الإسرائيلي واللبناني يوحي بأنّ اتّفاق وقف إطلاق النار يسلك طريقه إلى التنفيذ. اليوم ومن خارج “دوام عمل” العدوّ الإسرائيلي…