الموت “المظلوم” في عكّار… أين منه 4 آب؟

مدة القراءة 5 د

كم شهيداً يجب أن يسقط في عكار ليصبح الحدث لائقاً بفتح الهواء؟ هل يكفي عشرون؟ ثلاثون؟ مئة؟

السؤال لا يتعلق بالهوية الطائفية أو السياسية للمنطقة، بل بعطب ما في تكوين الكيان لم يلتفت إليه أحد قبل فؤاد شهاب، ولا بعده. لا أحد.

ما يسري على عكار يسري على بعلبك والهرمل والبقاع الغربي وراشيا وجزين والعرقوب، ومعظم الجنوب حتى عهد قريب.

فقط في عكار يُشتَمُّ من التغطية الإعلامية أنّ الموت ضرر جانبي لأعمال التهريب أو للنزاع السياسي أو للبؤس المحتّم

انفجارٌ في عكار لا يداني انفجاراً في بيروت. لا علاقة للأمر بعدد الضحايا ومدى العصف وحجم الدمار. الأطراف لا تداني المركز، لا تستحق قدراً مماثلاً من الدموع والمقابلات والشهادات الحية والصلوات والقداديس وزيارات الرؤساء ومساعدات المنظمات الأممية والمؤسسات غير الربحية. بالكاد تبدو التغطية كما لو أنها تضامن “كريم” من المركز مع أناس يستحقون العطف.

والناس هناك كُثر. الصوت في عكار يساوي نصف صوت في بيروت أو كسروان، وربع صوت في البترون. هذا ما تقوله الأرقام.

فقط في عكار يُشتَمُّ من التغطية الإعلامية أنّ الموت ضرر جانبي لأعمال التهريب أو للنزاع السياسي أو للبؤس المحتّم.

يبدو الموت موضوعاً ملائماً لسجال ليس تحته تحت حول هوية صاحب الأرض، وصاحب الخزان، ومن يرافق، ومع من يتصوّر، ولمن يصوّت، وفي أيّ جيبٍ هو مفتاح.

هل هذا هو قدَر عكار وقَدْرُها في مصنع السياسة في بيروت؟

مئة عام منذ إعلان الكيان، وثمانون حولاً إلا قليلاً منذ الاستقلال، لم يفكر أحد بعكار إلا ناحيةً منسيّةً للتهريب ولعشائر ظلت هويتها قيد الدرس ستة عقود. وبعد ربع قرن، ما زال الفاشيون يرون في هوية مواطن دُفن جد جده في هذه الأرض، افتراءً على علياء ذواتهم الطائفية.

الظلم ينصب على عكار من كل صوب، ممّن لا يرى فيها إلا خزاناً انتخابياً، ومن لا يرى فيها إلا عبئاً ديموغرافياً أو خطأ جغرافياً ارتكبه راسمو الخرائط

عكار لا تنتمي إلى هذه الدولة. إذا انتفض أهلها هناك ماتوا بالنسيان أو بحرائق الغابات أو بصهريج بنزين مهرّب، وإذا أتوا إلى العاصمة الأنيقة للتظاهر يسمعون كلاماً عنصرياً من الشعب الآخر: “شو جابن من عكار؟ أين تقع هذه العكّار؟ خلف أيّ حدود “نوعية” لأية فدرالية؟”.

هذه العكّار خلف حدود الاستحقاق. ثمانون عاماً لم تخصّص لها الدولة مشروعاً إنمائياً واحداً. قضاء بلغ عدد المقترعين فيه في الانتخابات الأخيرة 137 ألفاً، أي أكثر من أربعة أضعاف المقترعين في البترون، ومع ذلك تخصّص الدولة للإنفاق في قضاء جبران باسيل عشرة أضعاف ما تخصّصه للإنماء فيه، سواء للسدود أو الطرقات أو المعاهد أو حتى أعمدة الكهرباء.

الشواهد كثيرة. في مشاريع السدود مثلاً، خصص باسيل ما يقارب مئة مليون دولار لإنشاء سدّين في البترون (المسيلحة وبلعا) بطاقة تخزين تتجاوز 8 ملايين متر مكعب، فيما يمنّ على عكار بتوسعة بحيرة الكواشرة القائمة منذ السبعينيات لتتّسع لنحو 400 ألف متر مكعب، أي 5% فقط من الطاقة التخزينية لسدّيْ البترون! مع العلم أن مشروع توسعة الكواشرة قديم وأُنجز في 2013.

وفي التعليم، لم تحظ عكار بفرع لكلية واحدة منذ الاستقلال، وحين وُعدت سُلب منها مشروع الكلية البحرية، ونُقِل إلى البترون في أيام الودّ بين الحريري وجبران باسيل.

هذه ليست إلا أمثلة من بؤس الحديث عن الإنماء المتوازن.

إلا أن القضية لا تُختزل بالإنفاق الحكومي وحده. المشكلة في غياب أي تصور أو رؤية للنهوض الاقتصادي والإنمائي في منطقة تمتلك كل المقومات لمضاعفة ناتجها المحلي خلال سبع سنوات فقط. منطقة تمتلك الموارد المائية وتمتلك الإمكانات لمضاعفة الناتج الزراعي، ولديها اليد العاملة، ولديها إمكانات هائلة لتطوير أنواع جديدة من السياحة آخذة بالرواج عالمياً، ولا سيما السياحة المستدامة والسياحة المحافظة التي يمكن ترويجها لدى الأُسر العربية، أسوة بما تفعله دول أخرى في المنطقة.

لربما لا تكون عكار بذاتها مستهدفة. إنما هي دولة لا تنتمي إليها أطرافها. متى فكّر لبنان الكبير بميزة تنافسية يمكن البناء عليها في الهرمل؟ متى فكرت الدولة بتأسيس حياة اقتصادية مستدامة للسكان؟ متى فكرت بالبقاع الغربي وراشيا؟ متى فكرت بالجنوب قبل أن يفرضه الإمام موسى الصدر، ومن بعده الرئيس نبيه برّي، فرضاً على خريطة السياسة والإنماء؟

تجاهل لبنان الصغير أطرافه عقوداً، فتحوّل التهميش مادة للحرمان الطائفي استعرت به الحرب الأهلية بأشكال متعددة وعناوين شتى. وها هي خطيئة الجنوب تتكرر في الشمال، وتنتظر مشاريع من وراء الحدود للاستثمار فيها.

إقرأ أيضاً: العونيون فجّروا عكّار.. واتّهموها بالإرهاب

الظلم ينصب على عكار من كل صوب، ممّن لا يرى فيها إلا خزاناً انتخابياً، ومن لا يرى فيها إلا عبئاً ديموغرافياً أو خطأ جغرافياً ارتكبه راسمو الخرائط.

آن لعكار أن تنتفض على كل هؤلاء، وأن تكون مادة لنقاش من نوع آخر: كيف يمكن للمستقبل الاقتصادي أن يكون؟ هو نقاش ممكن وشائق، لكن لا مكان فيه لأطراف سجال ما بعد انفجار التليل، وأوّلهم المستقبل.

مواضيع ذات صلة

كريم خان يفرّغ رواية إسرائيل عن حرب “الطّوفان”

تذهب المحكمة الجنائية الدولية في لاهاي إلى المسّ بـ “أبطال الحرب” في إسرائيل، رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير الدفاع المقال يوآف غالانت. بات الرجلان ملاحَقَين…

هل يريد بايدن توسيع الحروب… استقبالاً لترامب؟

من حقّ الجميع أن يتفاءل بإمكانية أن تصل إلى خواتيم سعيدة المفاوضات غير المباشرة التي يقودها المبعوث الأميركي آموس هوكستين بين الفريق الرسمي اللبناني والحزب…

مواجهة ترامب للصين تبدأ في الشّرق الأوسط

 يقع الحفاظ على التفوّق الاقتصادي للولايات المتحدة الأميركية في صميم عقيدة الأمن القومي على مرّ العهود، وأصبح يشكّل هاجس القادة الأميركيين مع اقتراب الصين من…

الحلّ السعودي؟

ينبغي على واشنطن أن تُدرِكَ أنَّ المملكة العربية السعودية الأقوى تَخدُمُ الجميع، فهي قادرةٌ على إضعافِ قوّةِ إيران، كما يُمكنها أن تدفع إسرائيل إلى صُنعِ…