شكراً فخامة الرئيس.. على خجلنا بالوطن

مدة القراءة 5 د

لا شك في أن الرئيس اللبناني الجنرال ميشال عون قد دخل التاريخ. ولكن من أيّ بوابة؟

من حسن الحظ أنه لا يحسن الكتابة. فلو كان يحسنها لفعل كما فعل من قبله الرئيس البريطاني ونستون تشرشل. وقصة ذلك أنه في نهاية الحرب العالمية الثانية عُقد في يالطا اجتماع ثلاثي ضمّ تشرشل إلى الرئيس السوفياتي جوزف ستالين والرئيس الأميركي تيودور روزفلت. في هذا الاجتماع قال تشرشل لزميليه: “إنّ التاريخ سوف ينصفكما”. تساءل الرئيسان: وكيف يكون ذلك؟ ردّ تشرشل قائلاً: “لأنّني أنا من سيكتب التاريخ”.

بدأ عهد الرئيس عون بشيء من الحبّ وقليل من الأمل. لم تكن هناك كراهية. كان هناك حذر وخوف، كمن ينفخ لتبريد اللبن بعدما اكتوى بسخونة الحليب

وبالفعل ما إن وضعت الحرب أوزارها، وأُبعد تشرشل عن رئاسة الحكومة، حتى تفرّغ لكتابة تاريخ الحرب في عدة مجلدات. وقد نال جائزة نوبل للآداب تقديراً لعمله. وأصبحت تلك المجلدات المرجع الأهم لمؤرخي الحرب من أوروبيين وأميركيين وسوفيات.

الجنرال عون ليس تشرشل. ولذلك فإنّ ما سيكتبه التاريخ عن فترة حكمه بدأت تظهر معالمه في الشعارات والهتافات التي يردّدها اللبنانيون اليوم في بيوتهم المظلمة وفي شوارع مدنهم المقفرة. من هذه الشعارات، البذيء جداً الذي يعاقب القانون على نشره بصرف النظر عن صحته، ومنها الواقعي جداً، لكن العاجز عن تحريك وتر عاطفي في شبكة أوتار مقطّعة.

كان الرئيس الفرنسي الراحل جاك شيراك يقول عن السياسة إنّها فنّ تحويل المستحيل إلى ممكن. التجربة السياسية مع الرئيس عون تقول العكس: إنها فنّ تحويل الممكن إلى مستحيل. ويعود ذلك إلى أنّه كان ولا يزال مهتمّاً بممارسة النفوذ وليس بممارسة الحكم. والحكم مستمَدّ من الحكمة. والحكمة ضالّة المؤمن.

فالواقعية السياسية عنده هي تجاهل كل الوقائع الأخرى. والحقيقة عنده هي وجهة نظر. والحكم عنده حكم أتباع وليس حكم دستور وقوانين. والسياسة عنده هي الانتقام ممّن يعتبرهم خصوماً ومنافسين أو أعداء، لا مواطنين لهم وجهات نظر مختلفة. ولذلك فإنّ السياسة عنده تحوّلت من فنّ تدوير الزوايا إلى فنّ الانتقام وتصفية الحسابات. وكانت النتيجة نحر الديموقراطية ومحاولة اغتيال العيش المشترك. وهما الركيزتان اللتان يقف عليهما الاستثناء اللبناني في منطقة من العالم متعطّشة إلى مزيد من الديموقراطية وإلى مزيد من ثقافة العيش المشترك.

علّمنا التاريخ أنّ هناك طريقتين للاستقرار في مجتمع متنوّع. طريق الهيمنة وطريق التوازن. جرّب لبنان الطريقتين. ولمّا اكتشف فضل التوازن وأهميته ونجاحه، آلَ الأمر فيه إلى رئيس يؤثِر الهيمنة، ويعتبر أنّ الجميع على خطأ، وأنّه هو وحده على صواب، لأنّه هو وحده الرئيس، وحده لا شريك له.

الجنرال عون ليس تشرشل. ولذلك فإنّ ما سيكتبه التاريخ عن فترة حكمه بدأت تظهر معالمه في الشعارات والهتافات التي يردّدها اللبنانيون اليوم في بيوتهم المظلمة وفي شوارع مدنهم المقفرة

ولضمان هذه “الوحدوية” في السلطة، لا بد من تسلّحه بالثلث المعطّل، وليس بالثقة العامة التي تطلق سراح مسيرة الإصلاح.

يبدو أنّ الرئيس عون آمن بمقولة الشاعر اليوناني القديم “آسيوس” Accius (مات سنة 86 قبل الميلاد)، والتي يقول فيها: “دعهم يكرهونني طالما أنّهم يخافونني”.

بدأ عهد الرئيس عون بشيء من الحبّ وقليل من الأمل. لم تكن هناك كراهية. كان هناك حذر وخوف، كمن ينفخ لتبريد اللبن بعدما اكتوى بسخونة الحليب.

الممارسة السياسية المتعثّرة هي التي أوجدت هذا الحذر الشديد. لقد أثبت الإنسان اللبناني أنّه لا يخاف من السلطة، حتى ولو كانت سلطة فاشلة. ذلك أنّ الحكم الفاشل يسلّح نفسه بمزيد من أدوات الكراهية. وكانت النتيجة على عكس نظرية آسيوس. كراهية من دون خوف. وهو ما تعكسه الهتافات والشعارات التي ترفعها التجمعات الاحتجاجية اللبنانية في طول لبنان وعرضه.

إنّ اللبنانيين يشكّلون المياه في “أكواريوم” السلطة الذي يسبح فيه الرئيس عون. الآن وقد خرجت المياه من هذا الأكواريوم، أيّ معجزة تساعد سمكة الرئاسة على التنفّس؟

لقد ارتكبت السلطة معجزات من قبل، مثل بناء سدود حيث لا توجد مياه، أو بناء جسور حيث لا توجد أنهار أو وديان.

وفي ذكرى مئوية ولادة دولة العيش المشترك، حاولوا تحويل الذكرى إلى مجلس عزاء. لكنّهم، على الرغم من مأساة مرفأ بيروت ومأساة عكار، لن ينجحوا، حتى ينجح حيوان القريدس في فنّ الغناء، بحسب تعبير الرئيس السوفياتي الأسبق نيكيتا خروتشوف.

علّمتنا الممارسة السياسية للجنرال عون أنّ معنى أن تكون رئيساً هو أن تعتبر نفسك على صواب، وأنّ الجميع على خطأ. وإلا فكيف تمارس السلطة وتتبوّأ الرئاسة؟

وعلى العكس من ذلك ، علّمتنا الحقيقة أنّ لكلّ قضية ثلاثة أوجه:

– وجهة نظرك.

– وجهة نظر الآخر.

– الحقيقة.

إقرأ أيضاً: برنامج اليوم: رحيل الرئيس أو ترحيله

إنّ اختصار الحقيقة ومصادرتها في وجهة نظرك، وتسفيه وجهة نظر الآخر المختلف وإسقاطها، لا تؤدّي إلا إلى ما واجهه لبنان طوال السنوات الخمس الأخيرة، التي أودت به إلى التهلكة.

ورثتُ عن جدّي وعن والدي وطناً أعتزّ به .. وأنا اليوم أورث أبنائي وأحفادي وطناً أخجل به.

شكراً فخامة الرئيس.

مواضيع ذات صلة

الرياض: حدثان اثنان لحلّ لبنانيّ جذريّ

في الأيّام القليلة الماضية، كانت مدينة الرياض مسرحاً لبحث جدّي وعميق وجذري لحلّ أزمات لبنان الأكثر جوهرية، من دون علمه، ولا علم الباحثين. قسمٌ منه…

الحزب بعد الحرب: قليل من “العسكرة” وكثير من السياسة

هل انتهى الحزب؟ وإذا كان هذا صحيحاً، فما هو شكل اليوم التالي؟ وما هي الآثار السياسية المباشرة لهذه المقولة، وكذلك على المدى المنظور؟ وما هو…

أكراد الإقليم أمام مصيدة “المحبّة” الإسرائيليّة! (2/2)

عادي أن تكون الأذهان مشوّشة خارج تركيا أيضاً بسبب ما يقوم به دولت بهشلي زعيم حزب الحركة القومية وحليف رجب طيب إردوغان السياسي، وهو يدعو…

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…