في السباق بين السلام والحرب، قبيل المفاوضات في فيينا وأثناءها، بين مجموعة دول مجلس الأمن الخمس وألمانيا لاستعادة الاتفاق النووي، وبين إيران من باب عودة الولايات المتحدة إليه، مع محاولة إضافة ملحقات إليه تتعلّق بدور إيران الإقليمي والصواريخ الباليستية، برز مجدّداً نمط من أنماط العمليات السرّية، هو ما يُعرف بـ”الراية المزيفة false flag”. وهو أكثر تعقيداً وغموضاً من عمليات الحرب السرّية أو “حرب الظلال”، حيث درجت دول عدة، ولا سيّما إسرائيل، على القيام بعمليات سرّية تخريبية ضدّ أعدائها، وخاصة ضدّ إيران منذ عام 2005، بهدف تعويق برنامجها النووي. وتتضمّن تلك العمليات تخريب منشآت عسكرية وصناعية، واغتيال علماء وخبراء.
استنفدت إيران وسائل الردّ بوكلاء في المنطقة، بعدما أفادت على مدى سنوات حتى من عمليات إرهابية سنّيّة تتناقض معها أيديولوجياً
لا تعترف إسرائيل بهذه العمليات عادة، لكنّ من السهل معرفة المسؤول عنها، بخلاف عمليات “الراية المزيّفة” التي تنجح حين لا يُكتشف الفاعل الحقيقي.
“حرب الظلال” هي نوع من العمليات المعقّدة ضمن نشاطات التجسّس، والعمل خلف خطوط العدو، وتخريب المنشآت الحسّاسة، واغتيال الشخصيات المهمّة، من دون تبنّيها علناً. ومن أخطر تلك العمليات، اغتيال رئيس منظمة الأبحاث والإبداع في وزارة الدفاع الإيرانية، العالم النووي محسن فخري زادة، في 27 تشرين الثاني من العام الماضي، والعمليات التخريبية المتتالية التي أصابت مجمع نطنز النووي الإيراني. ومن أهداف تلك العمليات أيضاً فضلاً عن التعويق، توتير السياق التفاوضي بين واشنطن وطهران، من أجل إفشاله بالحدّ الأدنى، ودفع الأمور إلى الصدام الأمني والعسكري بالحدّ الأقصى.
في المقابل، تنشط إيران وأذرعتها في المنطقة وداخل إسرائيل في حرب سرّية، لجمع المعلومات، وتجنيد العملاء، وتنفيذ عمليات خاصة، لا يتسرّب من أخبارها إلا القليل الذي تكشف عنه الأجهزة المختصة بين الفينة والأخرى، كالكشف عن خلايا نائمة قيد الإيقاظ، وعمليات أمنيّة قيد الإعداد.
لكنّ عمليات “الراية المزيّفة”، أكثر تمويهاً وتضليلاً، وتتطلّب دقّة أكبر، واحترافاً أكثر. وهدف استعمال هذا النوع من العمليات هو مخادعة العدو أو الصديق أو حتى الحليف، استمطاراً لقرارات خاطئة، تصبّ منافعها على الطرف الخادع، بشرط أن لا تنكشف الخدعة. ومن أشهر تلك العمليات الخطيرة التي فشلت من حيث المبدأ، لكن أفضت إلى نتائج استراتيجية بالغة الأهمية لإسرائيل، ما يُعرف بقضية لافون (Lavon affair)، نسبة إلى وزير الدفاع الإسرائيلي آنذاك بنحاس لافون (Pinhas Lavon). ففي عام 1954، قرّرت الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية “AMAN” تنفيذ عمليات تخريبية داخل مصر، بوساطة مصريين يهود، بهدف إلقاء التهمة على معارضي جمال عبد الناصر، أي الإخوان المسلمين أو الحزب الشيوعي، وتقويض النظام المصري، وإجهاض التقارب الأميركي المصري بشأن تقديم الدعم لسدّ أسوان، واحتمال عقد صفقة أسلحة. فشلت العملية من حيث المبدأ لا من حيث التنفيذ، وانكشف دور إسرائيل. ومع ذلك، انطلقت سلسلة من الأحداث التي أدّت إلى حصول إسرائيل على القنبلة النووية من فرنسا (انظر المقال في نشرة العلماء النوويين Bulletin of the atomic scientists). حوكم 8 مصريين يهود، وأُعدم اثنان منهم. ردّت إسرائيل باختراق غزة وقتل 39 مصرياً. انعقدت صفقة سلاح بين مصر والاتحاد السوفياتي. هذا ما أغضب واشنطن ولندن، فسُحِب الدعم المفترض لسدّ أسوان. حينئذ أمّم عبد الناصر قناة السويس. ونشبت حرب عام 1956 أو ما عُرف بالعدوان الثلاثي الإسرائيلي البريطاني الفرنسي لإسقاط عبد الناصر، وفشلت في الهدف المرسوم. إثر ذلك، كثّفت فرنسا تعاونها النووي مع إسرائيل التي حصلت على قنبلتها.
ما حدث في جنوب لبنان أنّ إسرائيل بعثت من خلال الغارة رسالةً مختلفةً، وهي أنّها ستعتبر أيّ عمل عدائي تجاهها مسؤولية الحزب مباشرة
فماذا عن إيران وحرب “الرايات المزيّفة”، ولا سيّما بعد الأحداث المتدحرجة أخيراً من خليج عُمان إلى لبنان؟ وهل تنجح في هذا النوع الخاص من الصراع؟ وما هو الهدف؟
أولاً، في العراق، وبعد الاصطدام الإيراني الأميركي العنيف في عام 2019، وصولاً إلى اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري، قاسم سليماني، أوائل كانون الثاني من عام 2020، ردّاً على استهداف السفارة الأميركية في بغداد بوساطة ميليشيات عراقية موالية لطهران، وما تخلل ذلك وأعقبه من شنّ غارات جوية أميركية على مقارّ الحشد الشعبي ومخازنه وقياداته، بدأت طهران بتشكيل مجموعات جديدة غير معروفة من قبل، متخصّصة بالطائرات المسيّرة، لمواصلة الهجمات على الأهداف الأميركية في العراق. ولهذا الإجراء أهداف تكتيكية عدّة، أبرزها تمويه الفاعل الحقيقي، وتجنيب الميليشيات المعروفة ضربات انتقامية. والهدف الرئيس هو نفسه، وهو إجبار الجيش الأميركي على الانسحاب تماماً من العراق، أثناء “الحوار الاستراتيجي” بين واشنطن والعراق، الذي جرت جولته الرابعة في الولايات المتحدة أخيراً بمشاركة رئيس الوزراء مصطفى الكاظمي، أي الحوار تحت النار.
ثانياً، بعد تصاعد التوتّر الإيراني الأميركي في الخليج في السنة الأخيرة من ولاية دونالد ترامب، وبلوغ الذروة في إسقاط الحرس الثوري مسيّرة أميركية هي الأكثر تطوّراً فوق المياه الإقليمية، كما قالت طهران، أي على حافّة الصدام الأكبر بين الترسانة الأميركية البحرية في مياه الخليج وبين القوات الإيرانية، برزت مطلع هذا الشهر، محاولة إيرانية أخرى، عن طريق استعمال “الراية المزيّفة”، أو الفاعل المجهول، إثر قصف ناقلة النفط “ميرسير ستريت Mercer Street” التي يملكها رجل أعمال إسرائيلي، وترفع علم ليبيريا، قرب خليج عُمان، بواسطة مسيّرة، فقُتِل بريطاني وروماني. وهو ما أثار غضب الدول الغربية على نحوٍ خاص. فوسائل إعلامية موالية لإيران اعتبرت أنّ هذا ردّ على الغارة الإسرائيلية على مطار الضبعة في محافظة حمص قبل أسبوع، ثمّ نفت طهران هذا النبأ. تلا ذلك محاولة اختطاف سفينة أخرى، أو هي عملية تمويهية أخرى، لشدّ الأنظار عن العملية الأولى. واللافت هنا أنّ طهران ادّعت أنّ قصف ناقلة النفط هو من نوع “الراية المزيّفة“، وقد قامت به إسرائيل لإطلاق صراع بين إيران والولايات المتحدة وحلفائها. لكنّ الهدف تحقّق نسبياً، وهو إقلاق أمن الملاحة البحرية، من دون تحدٍّ واضح.
ثالثاً، في لبنان الذي يخضع للقرار الدولي رقم 1701 منذ عام 2006، لا يمكن للحزب إطلاق الصواريخ من جنوبي لبنان باتجاه إسرائيل، باستثناء مزارع شبعا المتنازع عليها التي بقيت ثغرة قانونية عمداً مع رفض سوريا الاعتراف بلبنانيّتها. ومنذ 15 عاماً، ساد الهدوء جبهة الجنوب، وفق معادلات دقيقة. ينطلق صاروخ، فيردّ العدو بقذيفة، في مناطق مفتوحة، ما عدا بعض الاختراقات المحدودة بين الطرفين. لكن في 20 تموز الماضي، انطلق صاروخان من لبنان نحو إسرائيل، فقال العدوّ إنّ فصائل فلسطينية أطلقتهما، وردّ بقصف مدفعي. ثم في 4 آب، سقط صاروخان آخران في شمال فلسطين المحتلّة، فردّ العدوّ بغارات جويّة للمرّة الأولى. ثمّ ردّ الحزب نهاراً فوقعت الراجمة وطاقمها وسط غضب أهالي قرية شويّا في قضاء حاصبيا. هذا التدحرج في الأحداث دلّ على عدم نجاعة اللجوء إلى وكلاء لإطلاق صواريخ هي كناية عن رسائل متبادلة. فقد استنفدت إيران وسائل الردّ بوكلاء في المنطقة، بعدما أفادت على مدى سنوات حتى من عمليات إرهابية سنّيّة تتناقض معها أيديولوجياً. جفّت موارد تلك الجماعات، وانحسرت عمليّاتها. وأيّ عملية تقوم بها الآن جماعة موالية لإيران تُحسب عليها فوراً، كما حدث مع اغتيال قاسم سليماني في بغداد. وما حدث في جنوب لبنان أنّ إسرائيل بعثت من خلال الغارة رسالةً مختلفةً، وهي أنّها ستعتبر أيّ عمل عدائي تجاهها مسؤولية الحزب مباشرة.
إقرأ أيضاً: إسرائيل هزمت لبنان بيد الحزب
ما يدعو إيران والجماعات التي تدور في فلكها إلى التخفّي بأسماء أخرى، أو حتى من دون أسماء، أنّها لا تريد أن تكون هدفاً مباشراً للعمليات الانتقامية المدمّرة. وهذا الأسلوب استخدم في بدايات الثورة من موقع الضعف، فما بالها تعود إليه وهي تدّعي القوّة؟ إيران ليست كالجماعات الإرهابية السنّيّة، فهي لا ترفض التفاوض مع أعدائها، ولا تستنكف عن المساومة على مكاسب آنية، ولم تيأس بعد من الاعتراف الدولي بمكانتها ودورها في المنطقة.