بَلَغ الانفصام السياسي مداه أمس بمقاطعة بعض الكتل النيابية الممثَّلة في عضوية المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء جلسة مجلس النواب التي كانت مقرّرة اليوم، وكان يُفترض أن تصوِّت على العريضة النيابية المتعلّقة بـ”طلب اتّهام وإذن بالملاحقة أمام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء” بعد ادّعاءات المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار على نواب ووزراء سابقين ورئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب.
شعبويّة ومزايدات تحكّمت بقرار نواب التيار الوطني الحر والقوات اللبنانية والحزب الاشتراكي، إضافة إلى نواب مستقلّين. وأخطر ما يعتري هذه الشعبوية هو تصوير الفريق الرافض لإحالة الملفّ إلى لجنة تحقيق برلمانية تسبق المحاكمة أمام “المجلس الأعلى” بأنّه مع “كشف الحقيقة ومعاقبة المرتكبين”، فيما الفريق النيابي، الذي يلتزم بالمسار الدستوري القاضي بوضع القضية في عهدة المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، هو “ضدّ الحقيقة”، ويسعى إلى تمييع المسؤوليّات وتجهيل الفاعل.
الأرجح أنّ النواب المقاطعين يدركون جيّداً ماذا يفعلون. هي الفرصة الذهبية للاستثمار السياسي، على الرغم من أنّ ادّعاءات القاضي البيطار اعتراها الكثير من علامات الاستفهام
بالتأكيد يستأهل ضحايا المرفأ وأهاليهم إدارةً أكثر مسؤوليةً لهذه الكارثة الإنسانية التي تدخل شيئاً فشيئاً في زواريب تصفية الحسابات، فيما المطلوب تحديد هويّة المسؤولين عن حصولها بعيداً عن لغة التشفّي والأحقاد والثأر.
وقد التقت الكتل النيابية المُقاطِعة على اعتبار أنّ الجلسة تهدف إلى “طمس الحقيقة والالتفاف على القضاء العدلي”، فيما اعتبر النائب جبران باسيل أنّ الجلسة “غير شرعية لأنّه لم يتمّ التقيّد بالآليّة القانونية المنصوص عنها في المادة 93 من النظام الداخلي لمجلس النواب، والمادتين 20 و22 من قانون أصول المحاكمات أمام المجلس الأعلى. وهذا ينزع عن الجلسة قانونيّتها ويجعل جميع إجراءاتها غير قانونية”.
من جهته، واجه الرئيس نبيه برّي المقاطعين بقوله: “إلى مَنْ يتذرّعون بغير الشرعية وبعدم القانونيّة، وهم ما هم من مهارة في هذه الميادين، أسألكم ما قيمة نصوص الدستور، المواد، 60، 70، 71، 80…؟”.
وأضاف: “ما قيمة القانون رقم 13/90؟ وماذا كنتم تفعلون عندما انتخبتم، إضافة إلى ثمانية قضاة برئاسة رئيس مجلس القضاء الأعلى، سبعة نواب أعضاء أصيلين في هذا المجلس، من بينهم الزملاء السادة: جورج عقيص، جورج عطالله، وهاغوب بقرادونيان. هذا عدا عن نواب الاحتياط؟ ما يعني قيام المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء إلا إذا كنتم على استعداد لإلغاء هذه المواد ما دمتم لا تحتاجون إليها كما تفعلون. وأنتم لا تدرون ماذا تفعلون”.
لكنّ الأرجح أنّ النواب المقاطعين يدركون جيّداً ماذا يفعلون. هي الفرصة الذهبية للاستثمار السياسي، على الرغم من أنّ ادّعاءات القاضي البيطار اعتراها الكثير من علامات الاستفهام، والمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء هو سلطة قضائية أيضاً وليس “لويا جيرغا” سياسية.
من الأكيد أنّ جولات “حَلش الشعر” المتمادية بين القوات والتيار، وبين هذين الحزبين وتيار المستقبل، وبمؤازرة من حلفائهم، ستسمح ببلوغ المزايدات السياسية حدّها الأقصى تحت لافتة “حزب القاضي البيطار”
وقد توحّدت شعارات المزايدين على “رفع الحصانات فوراً ومثول المدّعى عليهم أمام المحقّق العدلي”، وبالتالي تجاوز العريضة النيابية واقتراح الرئيس سعد الحريري.
والمفارقة أنّ رئيس الجمهورية نفسه، ومعه فريق التيار الوطني الحرّ، لم يقدّما نموذجاً يُقتدى به في الاندفاع الفوري إلى تلبية “طلبات” البيطار، حيث إنّ الإذن بملاحقة المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا لم يُمنح بعد.
والمرجعية الصالحة لذلك، وفق رأي هيئة التشريع والاستشارات، هو المجلس الأعلى للدفاع الذي دعا رئيسه ميشال عون أمس إلى جلسة لدرس الأوضاع الأمنيّة والمعيشية. وتفيد المعلومات أنّه بعد انتهاء الاجتماع الأمني عقد اجتماع آخر بحضور الأعضاء الحكميين فقط في المجلس وجرى درس طلب إعطاء إذن بملاحقة صليبا وصدر القرار بردّه والطلب من مدعي عام التمييز أخذ القرار.
واتكأ المجلس الأعلى للدفاع على المادة 61 من المرسوم الاشتراعي رقم 12 تاريخ 12-6-1959 (ملاحقة الموظفين) وإلى عدم وجود ملفٍ مرفق مع طلب الإذن بالملاحقة، فلم يبادر المجلس الأعلى إلى طلب هذا الملف من المحقّق العدلي بل رمى الكرة في ملعب النيابة العامة التمييزية، صاحبة الاختصاص برأيه، أي المحامي العام القاضي غسان خوري!
ومع قرارات المقاطعة قد يأخذ الرئيس برّي قراراً بتأجيل الجلسة، فيما صدرت دعوات متفرّقة من قبل أهالي الضحايا وهيئات في المجتمع المدني إلى منع النواب من الوصول إلى البرلمان لتعطيل النصاب. وقد رَهَن هؤلاء تحرّكاتهم بالقرار الذي سيصدر بالإبقاء على الجلسة أو إلغائها.
وستتضمّن الجلسة، في حال حصولها، تقديم النواب المعنيين بادّعاءات البيطار، وهم النواب والوزراء السابقون علي حسن خليل وغازي زعيتر ونهاد المشنوق، “مرافعاتهم” التي على أساسها يُتَّخذ القرار بالأكثرية بإحالة الملف إلى لجنة تحقيق نيابية أو ردّ طلب الاتّهام “لعدم توافر الشُبهات الجديّة”. وهنا تنتهي “زوبعة” الحصانات عند هذا الحدّ.
بالتأكيد يستأهل ضحايا المرفأ وأهاليهم إدارةً أكثر مسؤوليةً لهذه الكارثة الإنسانية التي تدخل شيئاً فشيئاً في زواريب تصفية الحسابات، فيما المطلوب تحديد هويّة المسؤولين عن حصولها بعيداً عن لغة التشفّي والأحقاد والثأر
ويقول أحد النواب المشمولين بهذه الادّعاءات: “نتمنّى أن لا يُرَدّ طلب الاتّهام لأنّنا لا نريد ذلك. يجب الالتزام بالمسار الدستوري الذي يوصل إلى صدور قرار بالاتّهام أو التبرئة من المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء. إنّ كشف الحقيقة هو مصلحة مباشرة لي كنائب لأنّه لا يستطيع أحد أن يحمل وزر هذا الاتهام والشهداء الذين سقطوا في انفجار المرفأ”.
ويشير نائب آخر إلى أنّ “النَفَس الثأري يسيطر على سلوك القاضي البيطار، وإلّا ما هو الدافع إلى ادّعائه على شخصيات لم يطلب الاستماع إليها، ومع ذلك ثبّت عليها الشبهة الجرمية بعكس آخرين استمع إليهم؟”.
ويضيف: “هذه مواجهة غير عادلة وظالمة. وإذا قرّر البيطار الإطاحة بكلّ موجبات الدستور، فمن حقّ “المعتدى” عليهم عدم الانصياع لإملاءاته وطلباته المخالفة للدستور. ولو أنّ القاضي البيطار استمع إلى الجميع، ومنهم رئيس الحكومة والوزير المشنوق الذي لم يستمع إليه لا هو ولا المحقق العدلي السابق قبل الإدعاء عليه، ثمّ قرّر الادّعاء، لكان أقفل المسارب التي تشكِّك بأدائه وسلوكيّاته، لكنّه لم يفعل. فبأيّ حقّ لا يترك لِمَن لم يَستمع إليهم الحقّ بالدفاع عن أنفسهم في بدايات التحقيق”.
وفيما كان التوجّه أن يأخذ مجلس النواب باقتراح الرئيس الحريري بتعليق العمل بالمواد المرتبطة بالحصانات من رئيس الجمهورية ونزولاً، فقد برزت جبهة مضادّة له كان وفد “تيار المستقبل” أوّل من “استفتاها”، إضافة إلى معارضين آخرين لهذا الاقتراح. وقد تبيّنت صعوبة السير به حالياً لأنّ المجلس في دورة انعقاد استثنائية يُمنَع فيها تعديل الدستور. ولا يزال وفد تيار المستقبل يستكمل جولاته على الكتل والنواب لإقناعهم بتبنّي الاقتراح.
وأمس طالب الحريري بتبني اقتراح المستقبل “ليصبح الجميع من دون استثناء خاضعين فورًا للمحقّق العدلي من دون أي إذن أو حصانة أو استثناء في قضية لا تحتمل أي تذاكٍ أو تلاعب أو تطييف، أو أن يطبّق القانون والدستور كاملًا وبحذافيره على الجميع”.
إقرأ أيضاً: معركة الحصانات إلى مجلس النوّاب: هل يُرَدّ طلب الاتّهام؟
من الأكيد أنّ جولات “حَلش الشعر” المتمادية بين القوات والتيار، وبين هذين الحزبين وتيار المستقبل، وبمؤازرة من حلفائهم، ستسمح ببلوغ المزايدات السياسية حدّها الأقصى تحت لافتة “حزب القاضي البيطار”.
وفي الأيام الماضية اجتاحت بعض الشوارع لافتات إعلانية داعمة للقاضي البيطار ولمساره في التحقيق. وهي سابقة غير مألوفة تطرح علامات استفهام عن المغزى من حملات ترويجية لقاضٍ تكلِّف عشرات آلاف الدولارات، مع استبعاد فرضية أن يكون أهالي شهداء المرفأ قد جمعوا التبرّعات لرفعها في المناطق. والأغرب أن تأخذ طابع الثأر عبر التركيز على فكرة “وحده (القاضي البيطار) بياخد بيطارنا”.