“أنا نصفي الحلو لبناني”، يقول الدكتور الإماراتي عبد الخالق عبد الله. زوجته ريما “أم خالد” لبنانية بيروتية. يشير إليها قائلاً: “هذا نصفي الحلو، ورفيقة الدرب والعمر، ودائماً نذهب معاً، وهي مصدر سعادتي”.
لكن قبل أن يتعرّف إلى ريما بسنوات طويلة، وقع في حبّ لبنان منذ السبعينيات. “لبنان جميل بطبيعته وبشواطئه وبناسه وبجباله. لبنان هو البلد العربي الوحيد بعد الإمارات الذي أكنّ له هذا القدر من المحبّة، ولكنّ هذا أيضاً ليس بغريب على الإماراتيين وأهل الخليج الذين يكنّون المحبّة للبنان منذ القدم. في الستينيات والسبعينيات كنّا نرى في بيروت المدينة القدوة والعاصمة المتألّقة، وفي لبنان النموذج لأحرار العالم وحاضنة المثقّفين. لكنّ لبنان المتعدّد الطوائف لم يعد كذلك اليوم. لبنان المشرق لم يعُد كما كان سابقاً. أعتقد أنّ طائفة واحدة أصبحت اليوم الأكثر هيمنة. بيروت التي كانت خيمتنا الأخيرة كخليجيين لم تعُد كذلك”.
يضيف: “إنّ حب لبنان مغروس فيّ بسبب أم خالد، وبسبب هذا الشغف العربي بلبنان المختلف والجميل، الذي لا يستحقّ ما يحصل له اليوم”.
بالنسبة إلى تعطّل النظام السياسي، يرى الدكتور عبد الخالق عبد الله أنّه “إذا بحثنا عن الأسباب، فسنجد أنّ الأسباب كثيرة، ولكن أعتقد أنّ السبب الرئيسي خلال الـ15 عاماً الأخيرة هو تحوّل حزب الله إلى دولة أو دويلة داخل لبنان وتحكّمه في مصير لبنان
نسأله عن تحليله للمعضلة اللبنانية كأكاديمي إماراتي، فيقول: “تشكّلت المعضلة اللبنانية منذ لحظة تشكّل لبنان. هذه المحاصصة الطائفية هي مصدر قوة لبنان ومصدر ضعفه. إنّ قوّة لبنان هي في تعدّديّته التي حمته من الديكتاتورية ومن الدولة البوليسية التي انتهت إليها الجمهوريات العربية برمّتها. هكذا كانت الطائفية مصدر قوة، لكنّها تتحوّل إلى مصدر ضعف في حال اشتباك الطوائف في ما بينها، أو تحوّلها إلى طوائف تسترزق من الخارج بأجندات غير وطنية. وهذا أيضاً وارد. وأعتقد أنّ الطائفية اليوم هي مصدر ضعف، وليست مصدر قوة، كما كانت في السابق. لكنّ لبنان بلد ديموقراطي، وفيه من الحريات ما لا يوجد في أيّة دولة عربية أخرى. فالوجه المشرق للبنان ليس فقط في طائفيّته”.
بالنسبة إلى تعطّل النظام السياسي، يرى الدكتور عبد الخالق عبد الله أنّه “إذا بحثنا عن الأسباب، فسنجد أنّ الأسباب كثيرة، ولكن أعتقد أنّ السبب الرئيسي خلال الـ15 عاماً الأخيرة هو تحوّل حزب الله إلى دولة أو دويلة داخل لبنان وتحكّمه في مصير لبنان وتوجيهه نحو محور المقاومة. إنّ إعادة توجيه لبنان من لبنان العروبي إلى لبنان الإيراني تسبّب بمشكلة ضخمة لدول الخليج، وخصوصاً مع تدخّل “حزب الله” في قضايا إقليمية، وزجّ لبنان في متاهات ليست له علاقة بها، سواء في اليمن أو العراق أو سوريا. ليس لكم أيّ شأن في ذلك، فـ”حزب الله” هو الذي فرض هذه الأجندة على لبنان. وعليه، يدفع لبنان ثمن هذا الواقع. المعضلة اللبنانية اليوم متداخلة طائفياً وسياسياً، وعلى رأسها تغوّل “حزب الله” في الشأن اللبناني”.
متى ينتهي الغضب الإماراتي والسعودي على لبنان؟ وهل يُعقل أن يدفّع الأشقّاء العرب شعب لبنان ثمن أخطاء سياسيّيه؟
يجيب “بكل صراحة”، بأنّ “الخليج لم يُدِر ظهره للبنان، إنّما لبنان هو الذي أدار ظهره للخليج. هذه هي المعادلة. لذا القول إنّ الخليجيين يعاقبون لبنان ليس صحيحاً. إنّ الضغط أميركي وأوروبي وعربي، ومن كل الاتجاهات، ومن كلّ دول العالم، وربّما لبنان لا يستحقّ ذلك، لكنّ السبب هو تحوّل لبنان إلى بلد لم نعهده من قبل. إذ ولّى وجهه شطر طهران، بعيداً من العواصم العربية التقليدية. وإن كنّا على خطأ فأخبرونا. فالخليجي لم يُدِر ظهره للبنان، وإنّما لبنان الحالي المحكوم من “حزب الله” ومن “التيار الوطني الحر”، هو الذي أدار ظهره لللخليج”.
يتابع كلامه: “المطلوب لكي يعود الخليجيون أن يكون لبنان كما كان دوماً، عربياً في قلبه وفي فؤاده وفي عواطفه ليس أكثر، ويكون محايداً وليس منحازاً. لقد انحاز لبنان كثيراً إلى محور المقاومة، فعليكم بالعافية، وحلّوا هذا الموضوع. إذا كان هذا هو خيار الشعب اللبناني فنحن نحترمه ونقول تفضّلوا وخلّيكم مع هذا الخيار”.
غرّد الدكتور عبد الخالق عبد الله فرحاً بالانتفاضة اللبنانية، هو المغرّد الشهير: “صحيح أنّني فرحت بالانتفاضة كما فرح جميع الشباب اللبنانيين بالثورة على المجموعة التي جعلت من أغنى دولة عربية أفقر بلد عربي. إنّ هذه المجموعة الفاسدة المحتكرة والمجرمة تستحقّ الثورة عليها. وكنّا متأمّلين خيراً بأنّها بالفعل ثورة شبابية ناجحة، لكنّها مع الأسف الشديد ككلّ ثورات الربيع العربي لم تحقّق نتائج، بل ربّما جاءت بنتائج عكسية. أنا كنت في 17 تشرين في بيروت يوم اندلعت هذه الثورة، وحضرت انطلاقتها قرب البرلمان، فمَن لا يفرح بمَن ينادي ويقول بأنّه ضد الفساد، وحان وقت التغيير؟ مع الأسف لم تكن لهذه الثورة قيادة، ولم تكن الأجندة واضحة. ومع الأسف فقد حدثت تدخّلات. وقد تدخّل “زعران لبنان” أيضاً وأساؤوا إلى هذه الثورة. يبدو أنّنا كما أيّ ثورة عربية حدثت في الربيع العربي في تونس ومصر. للأسف، هذه الثورات اصطدمت بقوة داخلية قادرة على إجهاضها”.
الخليج لم يُدِر ظهره للبنان، إنّما لبنان هو الذي أدار ظهره للخليج. هذه هي المعادلة. لذا القول إنّ الخليجيين يعاقبون لبنان ليس صحيحاً
كتب الدكتور عبد الخالق عبد الله في عام 2018 كتاب “لحظة الخليج في التاريخ العربي المعاصر”، الذي نشرته دار الفارابي، وحصل على جائزة أفضل كتاب لكاتب إماراتي: “هذا الكتاب يأتي بأطروحة بسيطة مفادها أنّ مركز الثقل العربي الذي كان دوماً في الحواضر العربية انتقل إلى الجزء الخليجي. أصبح الجزء الخليجي مؤثّراً وحاضراً، وله من النفوذ في الشأن العربي أكثر من أي وقت آخر. وفي معادلة رياضية بسيطة، أصبحت 6 دول خليجية باختلافها، وأحياناً بتوافقها عبر مجلس التعاون، أكثر تأثيراً في الشأن العربي من 16 دولة عريبة، صغيرها وكبيرها. تشكّل هذه اللحظة العصر الذهبي لخليج القرن الـ21″.
ويشرح ميزات هذا الخليج: “استقراره السياسي أولاً. إنّ الجزء الأكثر استقراراً في هذه المنطقة المضطربة هي الدول الخليجية. من أفغانستان إلى المغرب، تمتدّ هذه المنطقة الأكثر عنفاً واضطراباً. الجزء الوحيد المستقرّ منها هو الخليج، وليس بسبب النفط، بل لأنّ هذه المناطق الست هي الأكثر ازدهاراً. فأكبر 3 اقتصادات في العالم العربي هي السعودية والإمارات، ثمّ مصر وقطر. الدول الخليجية منها ملكية، ولديها شرعيّتها واستقرارها. هذه الأنظمة موجودة منذ 500 سنة، وليست مثل الجمهوريات العربية التي نشأت بعد الحرب العالمية الثانية. فلديها الشرعية والاستقرار والازدهار. أضف إلى ذلك أنّ لدينا مجلس تعاون خليجياً، ليس له مثيل. وفي هذا الوضع يعيش الخليج اليوم عصره الذهبي. وهو الأكثر تأثيراً. وهي لحظة الخليج في التاريخ العربي”.
يحضر الدكتور عبد الخالق عبد الله الكثير من الندوات في مجال تخصّصه الأكاديمي في علم السياسة، ولها علاقة بمستجدّات المنطقة العربية والخليج العربي. رفض سابقاً المشاركة في عدّة مؤتمرات عندما اكتشف مبكراً حضوراً إسرائيلياً فيها: “لا أشعر بالارتياح نفسياً وسياسياً وأخلاقياً ومهنياً إلى الوجود الإسرائيلي. وأنا ضد التطبيع بكل أشكاله، بما في ذلك التطبيع الأكاديمي”، كتب يوماً. وهو كان أحد الأعضاء المؤسسين لجمعية الإمارات لمقاومة التطبيع. وكان يتفادى لقاء الإسرائيليين الأكاديميين، “كما يتفادى الإنسان الوباء والشرّ والمكروه”.
في كتابه “اعترافات أكاديمي متقاعد” فقرات عن العداء الذي يحمله لإسرائيل، فكيف يقرأ السلام الإماراتي مع إسرائيل؟ وكيف تطمئن الإمارات إلى تجوّل إسرائيليين في أنحائها؟
“ليست الإمارات الدولة الوحيدة التي طبّعت مع إسرائيل، فهنالك 6 دول عربية طبّعت رسمياً مع إسرائيل، بدءاً بالمغرب والسودان، وقبلاً مصر والأردن والبحرين… وهكذا ليست الإمارات الدولة الوحيدة. هنالك 6 دول عربية أخرى لديها علاقات واسعة ومعلنة، منها عُمان وقطر وموريتانيا وتونس. ولدى دول أخرى علاقات غير معلنة… ولا داعي لذكرها”.
يتابع: “أصبح التطبيع مع إسرائيل جزءاً من الوقائع السياسية في المنطقة. هنالك دول كثيرة لم تستطع هزيمة إسرائيل بالحروب، وهنالك دول عربية تعترف بأنّ 72 عاماً من المقاطعة زادت إسرائيل قوّةً وليس ضعفاً. لهذا السبب أُعيد النظر اليوم في المقاطعة والحروب، فكان التطبيع خياراً من الخيارات، وحتميّة من الحتميات”.
إقرأ أيضاً: المغرّد الإماراتي عبد الخالق عبد الله (1/2): الإمارات تلتزم القرار السعودي في لبنان
يضيف: “هنالك دول أخرى انجذبت إلى إسرائيل لضرورات استراتيجية. فإيران تهدّد اليوم، وتتدخّل في الوضع الخليجي أكثر من أيّ وقت آخر. لذا فأنت تحتمي بمَن يعطيك أيّ سبيل للاحتماء، فنشأت الضرورات الاستراتيجية والحتمية السياسية”.
ألا يُعتبر التطبيع الإماراتي تخلّياً عن القضية الفلسطينية؟
يجيب: “تحافظ الإمارات على مسارين متوازيين، أحياناً يلتقيان. المسار الأول هو التطبيع مع إسرائيل، والثاني هو دعم المطالب العادلة للشعب الفلسطيني. لا يمكن للإمارات، مثلها مثل أيّ دولة عربية، أن تدير ظهرها لقضية فلسطين، ولا يمكن أن تتخلّى عن الشعب الفلسطيني، لا تاريخياً ولا سياسياً ولا إنسانياً. فالموقف ثابت في دعم القضية الفلسطينية. وهذا ما فعلته دول أخرى طبّعت مع إسرائيل ولم تتخلَّ عن القضية الفلسطينية”.