غاب المغرّد الإماراتي الذائع الصيت الدكتور عبد الخالق عبد الله عن لبنان 6 أعوام متتالية، ليعود إليه أخيراً ممارساً هوايته الأحبّ إلى قلبه، التي اكتشفها في جبال قنّوبين منذ 30 عاماً، وهي تسلّق الجبال.
“أنا أعشق جبال لبنان، وقد مررت بالقمم الرئيسيّة كلّها، فتسلّقت القرنة السوداء مرّتين، وجبل الهرمل، وجبل صنّين، وكان لا بدّ من الوصول إلى القمّة الرابعة على ارتفاع 2463 متراً، وهي قمة المزار”، يقول لـ”أساس”. الأكاديمي والسياسي والمحلّل في الشؤون الاستراتيجية الخليجية والإقليمية والدولية الدكتور عبد الخالق عبد الله هو منتج إماراتي صرف بنكهات عربية مختلفة، ومع “نصف لبناني” جميل يتمثّل في زوجته البيروتية ريما أو “أم خالد” رفيقته في دروب الحياة وإلى سلاسل القمم.
يصحّ بالدكتور عبد الخالق عبد الله توصيف “سفير الإمارات غير المعيّن” لصلته العميقة بلبنان عاطفياً، كما جميع العرب، على الرغم من مرارة يحملها نتيجة إسقاطات الواقع اللبناني على المناخ الخليجي منذ عام 2015 حتى اليوم، التي ولّدت إشكالات عدّة يفنّدها الدكتور الدمث بصراحة وبلا مواربة.
يقول المفكر منطلقاً من معرفته ولقاءاته واتصالاته إنّ المستقبل اللبناني ليس سعيداً في المدى المنظور: “يبدو أنّ الأمور تتّجه من سيّئ إلى أسوأ”
يرفق عبد الخالق عبد الله التحليل بمعلومات أكيدة يستقيها من علاقاته الوطيدة في الخليج والعالم العربي والعالم. ويشير أثناء سرد سيرته لـ”أساس” إلى أنّ “التنسيق الإماراتي السعودي حول لبنان يتطابق مئة في المئة. وعنصره الرئيسي أنّ السعودية هي التي تحدّد المسار الخليجي تجاه لبنان لأنّها تعرف الشأن اللبناني أكثر من أيّة دولة أخرى، ولها حضورها الوازن. وهكذا تتوافق السعودية والإمارات على أنّ ما ترتضي به السعودية هو الذي يسري”.
يقول المفكر منطلقاً من معرفته ولقاءاته واتصالاته إنّ المستقبل اللبناني ليس سعيداً في المدى المنظور: “يبدو أنّ الأمور تتّجه من سيّئ إلى أسوأ. وفي النظريات المطروحة لا أعتقد أنّ انتعاشاً قريباً قادمٌ ولو تشكّلت حكومة سريعاً. ولا أعتقد أنّ موضوع الأزمة المعيشية والشلل السياسي مؤقّت، بل هو بنيوي وعميق وضخم جداً، وأعتقد أنّه يحتاج إلى سنوات. فنحن في مسار مأساوي على الصعيدين الاجتماعي والمعيشي والشلل السياسي ربّما يطول أكثر ممّا نتوقّع”.
لا يمكن مناقشة الدكتور عبد الخالق عبد الله، وهو المنفتح على النقاش، لكن غالباً ما تكون معلوماته دقيقة جداً يصعب دحضها، وهو القائل يوماً في كتابه الشهير “اعترافات أكاديمي متقاعد”: “رجل السياسة عادة ما يكون منغمساً في التفاصيل اليومية، ومنهمكاً في رؤية تفاصيل الشجرة، ولا يرى أبعد من ذلك. أمّا عالم السياسة والمستشار السياسي فلا تعنيه تفاصيل الشجرة، وإنّما يرى الغابة والصورة الكليّة والمسار التاريخي الغائب عن الحاكم”.
إذن ما هي معايير الحكومة المقبلة التي تريدها السعودية؟ يقول الدكتور الذي يتابعه أكثر من 258 ألف متابع على حسابه على “تويتر”: “ليس أكثر من أن تضع الحكومة الجديدة الشأن اللبناني أوّلاً، وليس الشأن الإيراني. ما حدث خلال فترة الأعوام الخمسة الأخيرة، أنّ هذه الحكومة التي لديها القرار أعادت جدولة الأولويات اللبنانية الخارجية في اتجاه إيران، وكلّ المطلوب هو إعادة النظر في توجيه هذه الجدولة إلى الشأن اللبناني أوّلاً، والعربي ثانياً، بحكم أنّ لبنان بلدٌ عربيّ وليس بلداً إيرانياً”.
لا يسبق حبّه للبنان سوى حبّه لبلده الإمارات العربية المتحدة. فهي بالنسبة إليه خطّ أحمر يحتّم “البلوك” لكلّ من يجرؤ أن يمسّ بها وبقياداتها. يكفي قراءة هذه العبارة التي كتبها لمعرفة مدى حبّه لبلده: “أعترف بأنّني حين أترك الإمارات أشعر وكأنّني تركت الكون بكامله. فما أجده هنا من إحساس بالسكينة والطمأنينة لا أجده في أيّ مكان آخر. ويوم واحد في الإمارات يوازي في قيمته الروحية والنفسية والذهنية شهراً في الخارج”.
ولد الدكتور عبد الخالق عبد الله في عام 1953، ونشأ وترعرع في دبي. “أنا دبويّ، وفخور بمدينتي التي أصبحت اليوم مركزاً عالمياً” يقول باعتزاز. درس في ثانوية دبي وتخرّج منها، لكنّه أمضى مع أسرته قبلها فترة غير قصيرة في الدمّام في المملكة العربية السعودية، حيث درس في المدرسة النموذجية. بعد تخرّجه من الثانوية درس الهندسة البترولية، لكنّه بدّل اتجاه تخصّصه حين سافر إلى الولايات المتحدة الأميركية لدرس السياسة والفلسفة السياسية.
التحق بجامعة الإمارات العربية المتحدة في مدينة العين، “أكثر مدن الإمارات اخضراراً”، وذلك في 23 نيسان 1980. وحصل على لقب “معيد جامعي”، وهو أوّل درجة في السلم الأكاديمي الذي ينتهي بالأستاذية. “كانت ولادتي كأكاديمي”، كما يقول، ويضيف: “كانت الجامعة لسنوات عديدة صرحاً اتحاديّاً، مهمّته صهر أبناء الإمارات في بوتقة الهوية الوطنية الواحدة. فكانت تستقبل آلاف الطلبة من الفجيرة شرقاً، وأبو ظبي غرباً، مروراً ببقيّة الإمارات. يأتون جميعاً إلى مدينة العين، التي أصبحت مدينة جامعية بامتياز”. بعد هذه التجربة التعليمية، انتقل إلى جامعة جورج تاون في واشنطن، حيث تخصّص في العلوم السياسية والعلاقات الدولية ودراسة الحكومات في العالم، وتخصّص أيضاً في اللغة الإنكليزية في بريطانيا.
عندما يزور أيّة مدينة أو دولة، فإنّ أوّل ما يستفسر عنه هو أعلى قمّة لممارسة هوايته. “أعشق هذه الهواية، ومررت أثناء ممارستها بصعوبات. وأصعب رحلة كانت نحو جبل إفرست في الهملايا بالنيبال. في تلك الرحلة، وهي الأولى في عام 2016، وفيما كنّا في منتصف الطريق على ارتفاع 3555 متراً، حدث زلزال ضخم بقوّة 7.4 درجات، فاهتزّ الجبل تحت أقدامنا. وكنّا فريقاً مؤلّفاً من 4 أفراد، سيّدتين أميركيّتين وزميل بريطاني وأنا. اهتزّ الجبل، وانتكست النيبال برمّتها، وقتل في ذلك الزلزال 16 ألف نيبالي. كنّا عالقين في منتصف الجبل. وانقطعت الطرقات كلّها. مضت ثلاثة أيام ونحن عالقون فوق الجبل حيث الظروف صعبة جداً بسبب تراكم الثلوج والارتجاجات التي حصلت. كانت الأمور صعبة، وكنّا في مدينة اسمها نامشي. اهتمّت بنا الإمارات وحاولت استئجار طائرة هليكوبتر، لكنّ الأمر تعثّر في تلك اللحظة وسط الضحايا والدخان المتصاعد”. كان الإماراتي الوحيد العالق في جبال النيبال، وقد كتب فيما بعد كتاباً بعنوان: “آخر إماراتي في النيبال”، شرح فيه هذه “التجربة الزلزالية”، كما يصفها.
لا أعتقد أنّ انتعاشاً قريباً قادمٌ ولو تشكّلت حكومة سريعاً. ولا أعتقد أنّ موضوع الأزمة المعيشية والشلل السياسي مؤقّت، بل هو بنيوي وعميق وضخم جداً، وأعتقد أنّه يحتاج إلى سنوات
أعاد الكرّة، وقصد جبال الهملايا بعد عام على هذه الحادثة، ولكن في بوتان وليس النيبال. “بوتان هي عشق كلّ متسلّق. أردت أن أثبت للعالم ولأسرتي أنّ هذه التجارب نمرّ بها، وتتضمّن دروساً، لكنها لا تمنعني من القيام بهذه الهواية المفضّلة لديّ”.
إضافةً إلى السفر والترحال في أصقاع الأرض على مدار السنة، بدأ الدكتور عبد الخالق عبد الله، منذ تقاعده في عام 2013، السفر أكثر في العالم الافتراضي، مبحراً على شبكة التواصل الاجتماعي “تويتر”. حصل على لقب “الأكاديمي المغرّد”. يقول: “غزا تويتر حياتي كما لم يغزُها أيّ جديد آخر. وأقبلت عليه بنشاط وهمّة واندفاع، كما يُقبل العاشق على عشقه الأول، والحبيب على حبّه الأول.(…). وكما أنّ للصورة والكلمة قوّة وتأثيراً، فإنّ لكل حرف من حروف تغريدات تويتر الـ140 سحره ومفعوله العجائبي”.
يتابع: “قصتي مع تويتر مهمّة جداً. فيها لحظات سعيدة، وأخرى محزنة وصعبة جداً. وأحياناً فيها أثمان صعبة دفعتها طوال هذه الفترة. فحين تكون مغرّداً أكاديمياً مستقلّاً ولديك وجهة نظر، تتعرّض دوماً لسيل، بل لطوفان من الانتقادات، من اليمين ومن الشمال، ممّن يحبّونك ومَن يكرهونك. واكتشفت أنّ تويتر هو فضاء محرّر، ويمكن أن تمارس فيه أكبر قدر من الحرية. وبسبب هذا الهامش من الحرية تدخل أحياناً في مناطق رمادية، فتنشب المشاكل أحياناً مع أقرب الناس إليك، ثمّ مع دولتك وحكومتك، والسلطات التي تراقبك، ومع الدول المحيطة بك، لأنّك تبدي رأيك في شأنك الخليجي والعربي، وتكون بعض الجماعات غير راضية عنك. وقعت في مشاكل متعدّدة لا تخطر على بال: زعل حكومات وغضب حكومتي أحياناً”. وعن كيفيّة تخطّيه لهذه المطبّات، يقول: “أنا أكتب منذ 50 عاماً، وكانت مقالاتي قبل تغريداتي يسودها هذا الجو الناقد الوطني الحريص والمستقلّ الذي يقول كلمته ويمشي، من دون الالتفات إلى ردود الأفعال. كل هذه الفترة كنت أدفع ثمن كلمتي، والآن أدفع الثمن بسبب التغريد أكثر من المقال. اُتّهَم مثلاً بأنّني ملحد، أو خائن، أو متناقض. وتجعلني بعض الحملات الاجتماعية، التي تصلني عبر “تويتر”، أكتئب في أحيان كثيرة”.
وكيف يكون ردّه على الشتائم؟
إقرأ أيضاً: السعودية ولبنان: الحكاية الكاملة
يقول: “أولا تتوقّع التطاول والتهجّم والتخوين والتحريف والتصيّد؟ كلّ هذا وارد. فقد اتخذت قراراً بأن تكون موجوداً في العلن وفي هذا الفضاء المحرّر، ويجب أن تتوقّع ذلك، فلا تلُم إلا نفسك، ولا تلُم مَن يتطاول ومَن يتهجّم عليك. لكن أحياناً تتجاوز الأمور الحدّ المقبول، وعندما يذهب البعض بعيداً فمن حقّك أن تلجأ إلى القانون. ثمّة تجربة مررت بها، إذ رفعت دعوى على شخص تطاول عليّ كثيراً في التغريدات، وكسبت المعركة القضائية، وتسامحت معه، وعفوت عنه”.
نادراً ما يستخدم أشهر مغرّد إماراتي البلوك: “أنا لا أؤمن بالبلوك إطلاقاً إلا في حالتين: عندما أرى شخصاً يتطاول على وطني. فهذا خطّ أحمر عندي. ومَن يتطاول على الإمارات أواجهه بالبلوك دائماً. وثانياً، مَن يتطاول على الرموز الوطنية، وهذا من المحرّمات. عدا عن ذلك فإنّ صدري رحب مع الجميع، ونادراً ما أستخدم البلوك حتى في مواجهة البذيء من المغرّدين”.