مَن تابع أحداث جنوب لبنان، وتمعّن فيها سيفهم لماذا يرقص الشّرق الأوسط برُمّته على حافّة الهاوية بسبب تجمّد محادثات فيينا النّوويّة.
فبعد 6 جولاتٍ من المحادثات الشّاقّة، اختار حائكو السّجّاد الفُرس أن يُراقصوا على فوهّة البركان إدارة الرّئيس الأميركي جو بايدن، المُنسحب من الشّرق الأوسط. وعلى الرّغم من تأكيد المتحدّث باسم الخارجية الإيرانية سعيد خطيب زادة أنّ بلاده لم تترك محادثات فيينا الرامية إلى إحياء الاتفاق النووي، إلّا أنّ إيران اختارت التّصعيد في كلّ مكان.
الشّرق الأوسط مُقبلٌ على 10 أسابيع من الرّقص الإيرانيّ على حافّة الهاوية. إذ يسعى الإيرانيّون إلى ابتزاز الغرب والأميركيين عبر التّحرّش بالخطوط الحمراء الأميركيّة: أمن إسرائيل، وخطوط التّجارة العالميّة، ومنابع النّفط
والبُركان تتّسع هوّته المُتفجّرة يوماً بعد يوم، بدءًا من مياه الخليج ووصولاً إلى سهول الجليل شمال فلسطين المُحتلّة، وإلى مُرتفعات مزارع شبعا على سفح جبل الشّيخ على مُثلّث الحدود اللبنانيّة – الفلسطينيّة – السّوريّة.
منذ استيلاء نظام الخُميني على الحُكم سنة 1979، دائماً ما كان الإيرانيّون يلجأون ويبرعون في جرّ العالم برمّته إلى حافّة الهاوية، ثمّ الرّجوع به عنها في تهدئة مُفاجئة. حقّقت لهم هذه السّياسة مكاسبَ عديدة، كان آخرها توقيع الاتفاق النّوويّ عام 2015، وإطلاق يدِ إيران من اليمَن في أقصى جنوب الجزيرة العربيّة وصولاً إلى سوريا ولبنان على سواحل البحر الأبيض المُتوسّط، ومروراً بالعراق بطبيعة الحال.
اليوم، تستخدم إيران السّياسة نفسها، لكن في ظُروف مُغايرة عنوانها إحكام التّيّار المُتشدّد القبضة الحديديّة على كامل مفاصل الحُكم في طهران للمرّة الأولى منذ 3 عقود.
في العاصمة النّمساويّة فيينا، يُتوقَّع استئناف جلسات المُفاوضات النّوويّة في شهر أيلول المُقبل، وهذا الاستئناف مرهونٌ بأمرين رئيسيّين في عاصمة الملالي:
الأوّل، معرفة مَن سيخلف مُحمّد جواد ظريف في وزارة الخارجيّة الإيرانيّة. وفي هذا الإطار قالت مصادر مُقرّبة من الإيرانيين لـ”أساس” إنّ أيّ شخصية ستتولّى منصب وزير الخارجيّة لن تكون إلّا شبيهة بالمساعد الخاص لرئيس مجلس الشورى للشؤون الدولية المُتشدّد أمير حسين عبد اللهيان.
وعلمَ “أساس” أنّ مساعد المنسّق العام للسّياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي إنريكي مورا الذي حضَر حفل تنصيب إبراهيم رئيسي، عقد مُحادثات في طهران مع أمير حسين عبد اللهيان بشأن موعد الجلسة المُقبلة لمحادثات فيينا.
في الآونة الأخيرة، زادَ السّلوك الإيرانيّ في بحر عُمان والخليج العربيّ في إحراج إدارة بايدن، إذ أكّدت التّصرّفات الإيرانيّة ضرورة بحث سلوكها في المنطقة للتّوصّل إلى أيّ اتفاق
أمّا الأمر الثّاني والأهمّ فهو انتظار سقف التّفاوض الذي سيرسمه مُقرّر السّياسة الخارجيّة الإيرانيّة أوّلاً وأخيراً المُرشد عليّ الخامنئي لحكومة إبراهيم رئيسي.
سقفٌ لن يختلِفَ إطلاقاً عن ذلك الذي كانت حكومة الرّئيس السابق حسن روحاني تُفاوض تحته: “الضّمانات الأميركيّة بعدم الانسحاب من الاتفاق مُستقبلاً، ورفع جميع العقوبات المفروضة على إيران منذ عهد الرّئيس الأسبق دونالد ترامب والتّحقّق من رفعها”.
هكذا إذاً. مسارُ فيينا مرهونٌ بما في طهران، حيث أُقيم الخميس الماضي حفل تنصيب إبراهيم رئيسي وتيّار حزب الله خلفاً لحسن روحاني وتيّاره الإصلاحيّ.
في التّنصيب، لوّح الرّئيس الجديد بـ”جزرة” عنوانها دعمه “الدّبلوماسيّة التي تهدف إلى رفع العقوبات”، وتذكيره بـ”تحريم استعمال السّلاح النّوويّ وأسلحة الدّمار الشّامل”.
إلّا أنّه في الوقت عينه، لا يُمكن إغفال تلويحه بـ”العصا الغليظة” عبر قوله: “سنستمرّ بالتّصرّف بجرأةٍ في الشّرق الأوسط”، وذلك على مَسمَع ممثّلي “الرّباعي” المُنفّذ للسّياسة الخارجيّة الإيرانيّة: رئيس المكتب السّياسي لحركة حماس إسماعيل هنيّة، والأمين العام لحركة الجهاد الإسلاميّ زياد النّخالة، ونائب الأمين العام لحزب الله الشّيخ نعيم قاسم، والمُتحدّث باسم ميليشيات الحوثي محمّد عبد السّلام، الذين أُجلِسوا في الصّفّ الأمامي مُتقدّمين على مُمثّلي الدّول والدّبلوماسيين أمثال إنريكي مورا.
قبل التّنصيب بساعاتٍ قليلة، كان مُسلّحون موالون للحرس الثّوريّ الإيرانيّ يُقرصنون سفينةً تجاريّة في المياه الدّوليّة قُبالة سواحل الفُجيرة الإماراتيّة. وجاءَت هذه القرصنةِ تحدّياً للغربِ بعد تأكيد أميركا وبريطانيا وإسرائيل أنّ إيران تتحمّل مسؤوليّة استهداف النّاقلة “ميرسر ستريت” عبر طائرة من دون طيّار، إيرانيّة الصّنع، في أواخر تمّوز الماضي.
بعدَ حفل التّنصيب بأقلّ من 24 ساعة، كان حزبُ الله يُطلق 21 صاروخاً في محيط مواقع إسرائيليّة في منطقة مزارع شبعا المُحتلّة. سبقتها 3 صواريخ مجهولة – معروفة المصدر لم تجِد “إعلاماً حَربيّاً” ليتبنّاها.
علمَ “أساس” أنّ مساعد المنسّق العام للسّياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي إنريكي مورا الذي حضَر حفل تنصيب إبراهيم رئيسي، عقد مُحادثات في طهران مع أمير حسين عبد اللهيان بشأن موعد الجلسة المُقبلة لمحادثات فيينا
وفي تل أبيب، وبالتّزامن مع حفل التّنصيب، كان وزير الدّفاع الإسرائيلي بيني غانتس يُحذّر من أنّ طهران باتت على مسافة 10 أسابيع من إنتاج موادٍ انشطاريّة تُستخدَم لإنتاج “القنبلة النّوويّة”. وهذا تحذيرٌ يحملُ الكثيرَ بين سطوره.
ومن هنا، يُمكنُ القول إنّه صارَ واضحاً كيف سيكون التّفاوض النّوويّ في عهد إبراهيم رئيسي: “لا تفاوض على الأذرع والصّواريخ الباليستيّة. التفاوض في فيينا، إن أكمَلَ جلساته، سيكون محصوراً لدى الجانب الإيرانيّ بين رفع العقوبات وضمانات عدم الانسحاب. وكلّ ما سوى ذلك لا يعني طهران، أقلّه في العلن”.
وبناءً عليه، فإنّ الشّرق الأوسط مُقبلٌ على 10 أسابيع من الرّقص الإيرانيّ على حافّة الهاوية. إذ يسعى الإيرانيّون إلى ابتزاز الغرب والأميركيين عبر التّحرّش بالخطوط الحمراء الأميركيّة: أمن إسرائيل، وخطوط التّجارة العالميّة، ومنابع النّفط.
هذا في طهران. لكن ما هو الحال على المقلب الآخر في واشنطن؟
في عاصمة القرار، لا يبدو الوضع أحسن حالاً من طهران. إذ تشير مصادر دبلوماسيّة أميركيّة لـ”أساس” إلى أنّ إدارة الرّئيس بايدن، حتّى السّاعة، ليست بوارد تقديم أيّ ضمانات لإيران بشأن عدم الانسحاب من الاتفاق. وإنّ “الرّفع الجزئيّ” للعقوبات مرهونٌ بعودة إيران إلى التزاماتها التي ينصّ عليها اتفاق 2015.
لا يخفى على أحدٍ أنّ الرّئيس جو بايدن وطاقم إدارته للسّياسة الخارجيّة والأمن القوميّ (أنتوني بلينكن، فيكتوريا نولاند، جايك سوليفان، روبرت مالي، وحتّى مُستشاره لـ”شؤون المناخ” وزير خارجيّة اتفاق 2015 جون كيري) مُتحمّسون للعودة إلى الاتفاق مع إيران، خصوصاً أنّ بايدن يُركّزُ كثيراً على تنفيذ وعوده الانتخابيّة، وهذا بدا جليّاً في إعلانه الانسحاب من أفغانستان وإنهاء المهمّة القتاليّة في العراق، عدا عن سعيه للتّفرّغ للنّزاع التّجاري مع الصّين والنّفوذ الرّوسي المُتنامي.
إضافةً إلى ما سبق، يلقى بايدن وفريقه معارضةً صعبة من الجمهوريين، وحتّى من بعض أعضاء الكونغرس الدّيموقراطيين والتّيّار الإنجيلي المُحافظ في البلاد الذين يرفضون تقديم أيّ ضمانات أو تنازلات لإيران، بل ويؤكّد هؤلاء أنّ أيّ اتفاقٍ مع طهران ينبغي أن يبحث برنامجها الصّاروخي وسلوكها في المنطقة. وهذا ما لن تقبل به طهران.
في الآونة الأخيرة، زادَ السّلوك الإيرانيّ في بحر عُمان والخليج العربيّ في إحراج إدارة بايدن، إذ أكّدت التّصرّفات الإيرانيّة ضرورة بحث سلوكها في المنطقة للتّوصّل إلى أيّ اتفاق. فقد وجدَت الإدارة الأميركيّة نفسها مُكبّلة أمام ما حصَل للنّاقلة الإسرائيليّة، لأنّها لا تريد قلبَ الطّاولة مع طهران في الوقت الحاليّ، مع ارتفاع هذا الاحتمال يوماً بعد يوم. وفي الوقت عينه لا يُمكنها السّكوت عن خرق الحرس الثّوريّ لخطوطها الحمراء على امتداد الشّرق الأوسط.
إقرأ أيضاً: إيران تقتلع لبنان من جذوره؟
هكذا هو الوضع في المنطقة. برميل بارودٍ يحتاج إلى شعلة، عنوانه الأوّل السّلوك الإيرانيّ الذي تسعى من خلاله طهران إلى الضّغط على الغربِ لتنفيذ شروطها التفاوضيّة مع مجيء الرّئيس الجديد، وعنوانه الثاني الحسابات التي قد تكون قاتلة في حال قرّرَت تل أبيب التّحرّك، كما لوّح غانتس، تجاه تخصيب اليورانيوم المُستمرّ في إيران عند مستوى 60%، وربّما أكثر.
تتدحرج كُرة الثّلج من المياه الدّوليّة في الخليج العربيّ يوماً بعد يوم، وقد تأتي على الشّرق الأوسط برمّته في أيّ “دعسة ناقصة”.