كانت مشهدية إحياء ذكرى تفجير مرفأ بيروت في الرابع من آب مشهدية مركّبة إلى أبعد حدود. إذ جمعت العديد من تناقضات الواقع اللبناني السياسي والاجتماعي. جمعتها كلّها في قالب مرئي عكس حقائق المشهد اللبناني المأزوم والمُفجِع المُفزِع في آن معاً.
كثيرة تناقضات ذاك النهار، وكلّها تُقاس على وضوح جريمة 4 آب، ووضوح عذابات أهل الضحايا، ولذلك تصبح أيّ شخصنة للتضامن السياسي والفنّي مع هؤلاء انتهازية صافية بالنظر إلى هول المأساة. فهذا الدمج بين التضامن والشخصنة والاستثمار السياسي يُلغي التضامن من أساسه، ويحفّز كلّ الأسئلة عن حقيقة التغيير في لبنان، ولا سيّما إذا كانت الأحزاب والنخب السياسية والفنّية والمجموعات لا تتورّع عن استغلال ذكرى الجريمة لإبراز نفسها.
أعادت الذكرى تظهير الانقسام بين جمهور 17 تشرين، الذي شكّلت الذكرى مناسبة لإعادة تعريف نفسه ولو بخجل، وبين قوى السلطة. لكنّها أعادت في الوقت نفسه تظهير التناقض والانقسام بين القوى المشاركة في انتفاضة 17 تشرين
لكنّ أبرز تناقضات ذلك اليوم الرهيب كان بين وحدة ضحايا الانفجار وانقسامات اللبنانيين. فإذا كانت وحدة ضحايا ثالث أكبر انفجار في التاريخ لا لُبس فيها، فإنّ انقسامات اللبنانيين كانت في 4 آب تعبّر عن إشكاليّتها القصوى بالقياس إلى وحدة الضحايا الذين سقطوا بلا ذنب إلّا لأنّهم كانوا موجودين في دائرة الانفجار. فهم لم يسقطوا بسبب عقائدهم الدينية أو انتماءاتهم السياسية. فيما مجيء اللبنانيين بالآلاف لإحياء ذكراهم والتضامن مع أهاليهم والمطالبة بالعدالة لهم لم يَحُل دون ظهور انقساماتهم الحديثة والتاريخية.
فكما كانت مشهدية الرابع من آب مشهدية مركّبة، فإنّ الانقسامات اللبنانية التي ظهرت خلالها كانت مركّبة أيضاً.
من جهة، ذكّر الاحتشاد الكبير على أطلال المرفأ باحتشاد 17 تشرين 2019 بوصفه احتشاداً فوق الانقسامات السياسية التاريخية، وموحّداً ضدّ السلطة السياسية القائمة. ومن جهة ثانية ذكّر الإشكال الدموي في شارع الجمّيزة بالانقسامات اللبنانية التاريخية، وهي انقسامات لم تخلُ يوماً من الطابع الطائفي، حتّى عندما تكون بين اليمين واليسار، على التباسات تسمية اليمين واليسار في لبنان.
بذلك أعادت الذكرى تظهير الانقسام بين جمهور 17 تشرين، الذي شكّلت الذكرى مناسبة لإعادة تعريف نفسه ولو بخجل، وبين قوى السلطة. لكنّها أعادت في الوقت نفسه تظهير التناقض والانقسام بين القوى المشاركة في انتفاضة 17 تشرين، وتحديداً بين “الشيوعي” و”القوات”. لكنّ الأهمّ والأخطر أنّ هذا الانقسام تجاوز منطق “17 تشرين” وعاد إلى منطق الحرب الأهليّة.
هكذا جمعت مشهدية 4 آب بين المنطق اللاطائفي والمتجاوز للصراع الأهلي والموحّد ضدّ السلطة، وبين منطق “وحدا بتحمي الشرقية القوات اللبنانية” و”صهيوني صهيوني سمير جعجع صهيوني”، أي منطق الحرب والصراع الأهلي.
والإشكال المذكور كان سيكون هامشيّاً لا يحمل الدلالات التي حملها لو أنّه ظهر في توقيت آخر. فالواقع أنّ هذا الإشكال حصل في وقت يبلغ فيه استنفار القوى الطائفية أقصاه في ظلّ محاولة كلّ منها شدّ عصب جمهوره عشيّة الانتخابات المرتقبة في الربيع المقبل. وقد جاءت وجهات التطييف لقضية المرفأ لتزيد من حدّة هذا الاستنفار الذي بات ينذر بعواقب خطيرة، وإن كانت لا تزال مضبوطة حتّى الآن.
فالانفعال المسيحي إزاء انفجار المرفأ، الذي استهدف مناطق تقطنها غالبية مسيحية، وكانت غالبية ضحاياه من المسيحيين، لا يمكن عزله عن المسار السياسي للأحزاب المسيحية النافذة، ولا سيّما منذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية، بوصف هذا الانتخاب كان، في أحد وجوهه، ثمرة تفاهم “التيار الوطني الحر” و”القوات اللبنانية”. لكنّ هذين الحزبين لم يتّفقا إلّا على انتخاب عون بوصفه “الرئيس القوي”، ثمّ دار الصراع المحموم بينهما من جديد، وعلى نحو أعتى من ذي قبل.
لكن حتّى هذا الصراع عينه يتحرّك تحت سقف سياسي “مسيحي” وضعه في الأساس التيار العوني، وما لبثت القوّات وسائر القوى المسيحية الدينية والسياسية النافذة أن التزمت به، إلّا القليل منها. يتمثّل هذا السقف في شعار “استعادة حقوق المسيحيين”. وهو شعار صراعي لا بين القوى المسيحية والقوى الطائفية الأخرى، بل بين القوى المسيحية نفسها. فهو صراع بين القوى المسيحية لإثبات مَن هو أقدر بينها على استعادة “حقوق المسيحيين”.
يعكس المسار السياسي للمسيحيين، منذ انتخاب عون، التوجّه السياسي العام في البلد لـ”مأسسة” الانقسام السياسي – الطائفي تحت حجّة نقله من كونه بين الطوائف إلى كونه داخل كلّ طائفة على حدة، ما عدا الطائفة الشيعية حتماً
شكّل انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية ذروة هذا الشعار، ثمّ جاء قانون الانتخابات ليشكّل حلقة متقدّمة من حلقاته، لكنّها حلقة لا ترضي المسيحيين وحسب، بل وحزب الله أيضاً، كون هذا القانون أعطاه غالبية نيابية لطالما سعى إليها منذ عام 2005، وبالأخصّ منذ عام 2009.
إلى ذلك، فقد فاقمت الأزمة الحكومية، منذ استقالة الرئيس سعد الحريري عقب انتفاضة 17 تشرين، من حدّة الأزمة السياسية الطائفية في البلد. أوّلاً لأنّ العهد كثّف في عهد حكومة حسّان دياب من منحى إعطاء طابع رئاسي للنظام. وثانياً لأنّ الرئيس لم يتّفق، بعد استقالة دياب، مع أيٍّ من الرئيسين المكلّفين، لا السفير مصطفى أديب ولا الحريري، وها هو يؤرجح تكليف الرئيس نجيب ميقاتي الذي لم تسمِّه كتلة القوات ولا كتلة التيار. وأياً تكن اعتباراتهما فإنّ طائفة الرئيس المكلّف لا يمكن أن “تهضم” عدم التسمية تلك. فإذا كان للقوات موقف من الائتلاف الحاكم فلماذا لم تقاطع الاستشارات النيابية الملزمة من أساسها؟
يعكس المسار السياسي للمسيحيين، منذ انتخاب عون، التوجّه السياسي العام في البلد لـ”مأسسة” الانقسام السياسي – الطائفي تحت حجّة نقله من كونه بين الطوائف إلى كونه داخل كلّ طائفة على حدة، ما عدا الطائفة الشيعية حتماً. لكنّ هذه الحجّة الشيطانية تضمر أنّ تركيز الصراع داخل كلّ طائفة لا بدّ أنّ يؤدّي، في ظرف معيّن، إلى تصليب الصراع بين الطوائف، لأنّ صراع القوى ضمن كل طائفة سيستخدم حُكماً أدوات طائفية موجّهة ضدّ طوائف أخرى لاستقطاب جمهور طائفتها.
الخطير أنّ هذه اللعبة الجهنّمية تبلغ أقصاها عشيّة الانتخابات، أي عشيّة الاستقطاب الأقصى للجمهور. ولذلك فقد كان من المستحيل الفصل بين أجزاء أساسيّة من مشهدية 4 آب 2021 وبين محاولة الأحزاب المسيحية الاستحواذ على هذه الذكرى، واستخدام مختلف أدواتها لتكريس نفسها الدرع الحامي لطائفتها من أيّ عدّو كان. ولذلك فإنّ مدلولات “واقعة” الجمّيزة تتجاوز دلالاتها الموضوعية والآنية، إذ تعبّر عن حالة استنفار وشدّ عصب طائفيّيْن، في لحظة يُصوَّر انفجار المرفأ، في بعض الأوساط، على أنّه يستهدف المسيحيين.
وإذا كانت الأحزاب والقوى المسيحية تشكّ في ذلك فعلاً فلتعلن شكوكها وتضغط باتجاه تبيان حقيقتها، ولا سيّما حقيقة الجهة التي استهدفت المسيحيين؟
إقرأ أيضاً: إنّه تفجيرٌ للبنان… وليس أزمة تشكيل حكومة
وإلّا فإنّ هذا الاستنفار “الدفاعي” للقوات سيتماهى مع إعادة استبطان هذا الشعور بالاستهداف في بعض أوساط المسيحيين على خلفية الانفجار. وهو شعور غالباً ما يأخذ، في السياق اللبناني، اتجاهات العصبيّة الطائفية. ولذلك رأى البعض أنّ خيار إقامة قدّاس في المرفأ لم يكن خياراً صائباً لأنّه يكرّس طابعاً فئوياً للذكرى ليس لها.
هذه إشكالية كبرى وخطيرة يواجهها لبنان الآن، وتتحمّل مسؤوليّتها كلّ القوى السّياسية بدون استثناء. ولعلّ الخطورة الأساسيّة في هذه الإشكالية أنّها قد تحوّل قضية المرفأ من جريمة موصوفة لم تفرّق بين لبناني وآخر، إلى أداة للاستثمار السياسي تفاقِم الصراع بين اللبنانيين.