تسبّبت القرارات السياسية التي أعلنها الرئيس التونسي قيس سعيّد في 25 تموز المنصرم بحالة من التوتّر والقلق في صفوف قيادات حزب “العدالة والتنمية” في تركيا. قيادات كانت السبّاقة إقليمياً ودولياً في انتقاد ما جرى، وتحميل الرئيس سعيّد مسؤولية جرّ البلاد نحو توتّر أكبر، مطالبةً بتراجع سريع عن التدابير التي أعلنها: “والتي تتعارض مع الدستور، وتشكّل ضربة للشرعية في تونس”.
المفاجأة كانت في امتناع الرئيس التركي رجب طيب إردوغان عن التعقيب، واختياره الصمت والتريّث بانتظار انجلاء الأمور والمواقف المحلية والإقليمية ونتائج الاتصال الهاتفي الذي أجراه بنظيره التونسي يوم الاثنين المنصرم بعد مضيّ أكثر من أسبوع على قرارات سعيّد.
لماذا قرّرت تركيا اعتماد مواقف أقلّ تشدّداً من مواقف عواصم غربية عديدة مثل باريس التي أعلنت أنّها لن تتعامل مع أيّ حكومة في تونس مستقبلاً في حال لم يغلق الرئيس سعيّد قوس التدابير الاستثنائية في غضون شهر؟
تقول دائرة الإعلام في الرئاسة التركية إنّ إردوغان أشار إلى ضرورة عودة البرلمان التونسي لممارسة أعماله على الرغم من كلّ الصعوبات، لأنّه مهمّ لديموقراطية تونس والمنطقة. وتكشف أنّه تحدّث عن أولويّة الحفاظ على استقرار تونس وسلمها الداخلي المهمّين بالنسبة إلى استقرار المنطقة، وأنّ تونس ستتجاوز هذه المرحلة الحرجة وتواصل طريقها بشكل أقوى بكثير ممّا كانت عليه، وأنّ حماية الديموقراطية وضمان الحريات واحترام سيادة القانون في تونس أمور قيّمة جدّاً.
لم يتبنّ الرئيس إردوغان مواقف أعوانه ومستشاريه في “حزب العدالة” وفي الرئاسة التركية. ولم يتحدّث عن انقلاب في تونس أو يصعِّد ضد قياداتها. بل اختار طريق الدبلوماسية والحوار. هو يريد لأنقرة أن تخرج من الورطة التونسية بأقلّ الخسائر والأضرار.
هذا لأنّ إردوغان راغب في مواصلة سياسة إعادة التموضع العربي والإقليمي، وتغيير طريقة تعامله مع الملفّات التي تسبّبت بأكثر من توتّر وأزمة في علاقات تركيا مع العواصم العربية، وهي استراتيجية تحرُّك جديد انطلقت من أنقرة قبل أشهر.
لماذا حدث هذا التبدّل في مواقف أنقرة خلال أسبوع؟ ألا تُغضِب المواقف التركية حلفاء أنقرة في الداخل التونسي، وعلى رأسهم قيادات حركة النهضة؟ لماذا قرّرت تركيا اعتماد مواقف أقلّ تشدّداً من مواقف عواصم غربية عديدة مثل باريس التي أعلنت أنّها لن تتعامل مع أيّ حكومة في تونس مستقبلاً في حال لم يغلق الرئيس سعيّد قوس التدابير الاستثنائية في غضون شهر، وتصريحات وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي طالب بتشكيل حكومة وفتح أبواب البرلمان لممارسة أعماله والعودة إلى المسار الديموقراطي في أسرع وقت؟
اللافت أيضاً كان التحوّل في مواقف قيادات “النهضة”، التي قالت لنا شيئاً بعد ساعات على قرارات سعيّد، ثمّ عادت تتعامل بشكل مغاير فيه الكثير من الاعتدال والليونة، وأكّدت عدم الرغبة في توتير الأجواء ولا التصعيد، والاستعداد للحوار مع الرئيس التونسي لإخراج البلاد من أزماتها.
لماذا حدث هذا التبدّل في مواقف أنقرة خلال أسبوع؟ ألا تُغضِب المواقف التركية حلفاء أنقرة في الداخل التونسي، وعلى رأسهم قيادات حركة النهضة؟
إذاً نحن أمام تحوّل في مواقف قيادات “النهضة” التونسية، وتحوّل آخر في مواقف أنقرة. فهل من الممكن الجمع بينهما في تحرّك منسّق حيال ما أقدم عليه الرئيس التونسي أم هناك حقائق ومفاجآت أكبر قد يكون لها ارتداداتها السلبية على العلاقة بين حزب العدالة وحركة النهضة؟
ما سمعناه في أنقرة أخيراً يكاد يقول لنا التالي:
– إنّ الحكومات المتعاقبة على إدارة شؤون تونس منذ ثورة عام 2011، التي لعبت دوراً فيها حركة “النهضة” بشكل مباشر وغير مباشر، قد فشلت في حلّ المشاكل الاقتصادية والقضاء على الفساد، وساهمت في ترك البلاد وسط أزمة المسار الديموقراطي بعكس ما هو مشهود به لتونس وشعبها.
– إنّ الرئيس التونسي لقي تفهّماً من الشارع، ودعماً من المؤسسة العسكرية ومنظّمات المجتمع المدني والهيئات الاقتصادية، في ضرورة منح التونسيين فرصة جديدة حقيقية لتجنيب تونس الكارثة.
– إنّ قرارات الرئيس سعيّد شكلت انعطافاً في مرحلة ما بعد الثورة لتعيد الأمور إلى نصابها، وقوبلت بترحيب عربي وتفهّم إقليمي ودولي بانتظار الخطوات المقبلة.
– إنّه لا فائدة من الذهاب وراء نظرية المؤامرة، والإطالة في الحديث عن أنّ “قوى إقليمية ودولية تتآمر على شعوبنا، ولا تريد لنا أن نمارس حقوقنا واحترام قرار الصناديق التي تقود البلاد بعيداً عن الارتهان والتبعية”.
– إنّ من الممكن أن تكون حركة النهضة سعت إلى تقديم تطمينات وإبداء قدر من حسن النوايا لخصومها السياسيين، لكنّ ذلك لا يمنع أن يحمّلها جزءاً كبيراً من مسؤولية المشاركة في حكومات وتحالفات فاشلة، وإيصال الأمور في تونس إلى ما هي عليه اليوم. وإنّ الحاجة إلى النقد الذاتي والإصغاء إلى أصوات العناصر الإصلاحية داخل الحركة تقترب يوماً بعد آخر.
– إنّ ما يجري لا يمكن فصله عن نقاشات الإسلام السياسي، ولا سيّما بعد ثورات الربيع العربي، حتى لو كان الامتحان في تونس هو امتحان إخراج البلاد من ورطتها الاقتصادية والاجتماعية والمعيشية، الذي سيكون مصحوباً بتراجع العديد من الشعارات والطروحات السياسية والفكرية. لأنّ هذه الإجراءات أتت في أعقاب أزمة سياسية طال أمدها، وتمثّلت في صراع علني ومفتوح بين رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب ورئيس الحكومة حول شكل الإدارة واتخاذ القرارات.
إردوغان
في عام 2002، كان إردوغان وحزبه يطمحان إلى قيادة مسار سياسي واستراتيجي جديد في تركيا، وذلك من خلال الوصول إلى تفويض شعبي واسع للقيام بإصلاحات قوية تشكل قطيعة بين تركيا وفكر الانقلابات العسكرية، وأن تصير تركيا الجديدة مقبولة عربياً وإقليمياً وأوروبياً.
واصلت حكومة “العدالة والتنمية” انطلاقتها وراء شعار “صفر مشاكل”، وتبنّي سياسة الانفتاح على دول الجوار التي فتحت الطريق أمامها بدورها. لكن سرعان ما تحوّل ذلك إلى تباعد وقطيعة واصطفافات مواجهة عندما بدأت دول المنطقة بوصف ما يجري بأنّه تدخّل مباشر في شؤونها ومسائلها الخاصة.
النصّ الإعلامي الجديد المتّفق عليه في تركيا اليوم حيال ما جرى في تونس هو أنّ تطوّرات المشهد هناك ستكون لها، شئنا أم أبينا، ارتداداتها على سياسة تركيا في شمال
في عام 2010، دعمت قيادات “العدالة والتنمية” مسار التغيير في العديد من دول المنطقة تحت عنوان “الربيع العربي” وعروض النموذج التركي. وكان إردوغان سبّاقاً في تبنّي الثورات العربية، وخصوصاً في تونس ومصر، والحراكين السوري والليبي. وقال: “في عالم اليوم لا أحد قادر على عرقلة إقرار الحقوق والحريات أو تجاهلها”.
كان النموذج التركي طموحاً في أكثر من اتجاه إقليمي، وليس راغباً فقط في إحداث التغيير والتنمية داخل تركيا. لكنّ المشكلة، التي لم يتوقّف عندها البعض، هي أنّ تركيا نفسها كانت وسط مرحلة تغييرية ورحلة انتقالية سياسية ودستورية واقتصادية لنموذجها غير المكتمل أصلاً.
تدرك أنقرة أنّه لا مفرّ من امتحان تطوّرات المشهد في تونس بالشقّ الإقليمي لنتائج الربيع العربي. تدرك أيضاً أنّ المستهدَف هو شعار “الإسلام المعتدل” الذي رُوِّج له قبل أكثر من عقد بدعم أميركي وبطابع تغييري تجديدي في بنية العديد من الدول وأنظمتها، ثم عاد وتلقّى ضربة قوية من خلال صمود بعض العواصم أمام المدّ الجديد، ومن خلال تضارب المصالح الإقليمية وتراجع واشنطن عن دعم المخطط.
وقد دفع ذلك حركة “النهضة” وأنقرة على السواء إلى مراجعة مواقفهما وقراراتهما، والذهاب وراء خيار التهدئة والانتظار. وقد يكون السبب هو موقف التوحّد العربي وراء قرارات سعيّد، ودعوات غربية لضرورة التريّث ومنح الرئيس التونسي الوقت لقول ما عنده وما سيفعله.
النصّ الإعلامي الجديد المتّفق عليه في تركيا اليوم حيال ما جرى في تونس هو أنّ تطوّرات المشهد هناك ستكون لها، شئنا أم أبينا، ارتداداتها على سياسة تركيا في شمال إفريقيا، ومصالحها في شرق المتوسط، وعلاقاتها بليبيا والجزائر والمغرب، إذا ما ذهبت الأمور نحو التصعيد والتوتّر. لذلك قرّر إردوغان الابتعاد عن تبنّي ما ردّده أعوانه ومستشاروه، واختيار الطريق الآخر. فأنقرة لا تريد، كما يبدو، أن تسقط في ورطة عربية إقليمية جديدة أو تكرّر تجربتها مع مصر في تونس هذه المرّة. الغامض حتّى الآن هو الإجابة على سؤال: هل يعني ذلك أنّ أنقرة قد تمضي في مراجعة مسار التحالف مع حركة النهضة إذا لم تذهب الأخيرة باتجاه عملية النقد الذاتي وقبول مسؤوليتها في إيصال الأمور إلى ما هي عليه اليوم في تونس؟
في السياسة كلّ شيء ممكن.
إقرأ أيضاً: راشد الغنّوشي: نبوءة فيلتمان الخُمينيّة
لذلك لن نُفاجأ إذا سمعنا مثلاً مَن يقول لنا في أنقرة صباح اليوم التالي إنّ حركة “النهضة”، مع تمركزها في صدارة المركز الحزبي للبلاد، لم تتمكّن في السنوات الأخيرة من حصد ربع أصوات الناخبين في أحسن الأحوال. ولن نُفاجأ أيضاً إذا ما سمعنا كلاماً يقول لنا إنّ ما قام به الرئيس التونسي له أسبابه ومبرّراته في ضرورة إنقاذ الدولة من محاولة تفتيتها؟
* أكاديميّ وكاتب تركيّ، والعميد المؤسّس لكلّية القانون في جامعة غازي عنتاب، وأستاذ مادّتيْ القانون الدوليّ العامّ والعلاقات الدوليّة.