في الأشهر الأخيرة، حاول المحقّق العدلي في قضية تفجير مرفأ بيروت طارق البيطار الإضاءة على نظرية “الإهمال الإداري”، باعتباره أدّى إلى تفجير مرفأ بيروت. فادّعى على كلّ مَن “كان يعلم” بوجود مئات أطنان نيترات الأمونيوم في المرفأ، كما سرّب. وبذلك بات كلّ اللبنانيين يعرفون رواية النيترات، منذ كانت على متن الباخرة “روسوس” حين وصلت في 22 تشرين الثاني 2013، إلى لحظة تفجيرها في 4 آب 2020.
التقرير أدناه، سينشر على 5 حلقات، وهو يستند إلى معلومات موثّقة بالكامل، تضيء على “مسار” النيترات، من لحظة صناعتها في جورجيا، إلى لحظة رسوّ السفينة “روسوس” في مرفأ بيروت. وذلك لإكمال الصورة، وعدم اقتصار النقاش على “كيف انفجرت”، والرجوع إلى “لماذا أتت إلى لبنان؟”، و”مَن أتى بها؟”، و”لماذا؟”، و”كيف بقيت طوال هذه المدّة؟”.
في الحلقة الثالثة اليوم، أسئلة حول تاريخ خروج ارتباط النيترات من مرفأ بيروت، ومعلومات شديدة الحساسية حول المعلومات المضلّلة التي زرعها في كلّ مفاصل الرحلة، المنظّمون الوهميون والمجهولون – المعلومون.
يجب أن نعرف أنّ نيترات الأمونيوم حين تكون نسبة الآزوت فيها أقلّ من 32.5%، تكون عادةً معدّة لتكون سماداً زراعياً. وما فوق ذلك تكون معدّة لتكون جزءاً من عملية تفجير. والنيترات التي رمى بها ساعي الموت لتغتال بيروت، هي موادّ صُنِّعت بالأساس لتكون مواد أوّلية في صناعة متفجّرات لمناجم أو غيرها، لا لتكون سماداً زراعياً.
تمّ تغيير قبطان الباخرة في مرحلة لاحقة من الرحلة، وتحديداً في محطة اليونان. فيكون القبطان الذي انطلق بشحنة الموت هو غير القبطان الذي أوصلها إلى بيروت. والثاني حين سألناه تبيّن لنا أنّه لا يملك أجوبة واضحة
هذا ما توضحه الوثائق والعقود الخاصّة بالشحنة التي كانت تحملها الباخرة. ومصنع ” فابريكا دي أكسبلوسيفوس” في الموزمبيق هو مصنع متفجّرات، واسمه واضح في العقود. فنسبة الآزوت تصل تقريباً إلى 33.4%، وهذا يعني أنّ النيّة السيّئة واضحة منذ أن حطّت الباخرة رحالها في لبنان، وأن لا استعمالات أخرى لديها، إلا إذا كان في لبنان مناجم تحتاج للتفجير مثلاً؟
ما يزيد الأمر غموضاً هو عمر هذه المواد. إذ يجب أن تُستخدم النيترات في خلال ستة أشهر، سواء كسماد أو لصناعة المتفجّرات، قبل أن تنتهي صلاحيتها وتتحجّر، بحسب خبراء في الكيمياء. وبالتالي لا طائل من استخدامها بعد الأشهر الستّة، خصوصاً إذا لم تكن مخزّنة كما يجب. وكلّنا نعرف العنبر رقم 12 في مرفأ بيروت، ودرجة الرطوبة العالية في عنبر مصنوع من الحديد، ملاصق للبحر تماماً.
فإذا كان مِن أحد “أخرج” أو “سرق” من هذه النيترات، فهو فعل ذلك في الأشهر الستّة الأولى، وإلا فلا يمكن الاستفادة منها بعد عام 2014. لذا الأرجح أنّ من “أخذ” 2250 طنّاً، إنّما أخذها في 2014 وليس بعد ذلك. وبقيت الـ500 طنّ الأخيرة، التي قدّر خبراء المتفجّرات أنّها انفجرت، منذ ذلك التاريخ.
وهذا يرجّح فرضيّة أنّ خروج النيترات إلى سوريا تمّ في تلك الفترة، حين سلّم النظام السوري أسلحته الكيمياوية، وبات عاجزاً عن لجم تقدّم المعارضة السورية إلى مشارف العاصمة، واضطرّ إلى استعمال “البراميل المتفجّرة”، التي اشتهرت بين 2014 و2015، وساهمت في إخماد الثورة السورية عبر ضرب المناطق المدنية ببراميل الموت، التي يُرجّح أنّها جاءت من رحلة 4 آب.
يجب أن تُستخدم النيترات في خلال ستة أشهر، سواء كسماد أو لصناعة المتفجّرات، قبل أن تنتهي صلاحيتها وتتحجّر، بحسب خبراء في الكيمياء. وبالتالي لا طائل من استخدامها بعد الأشهر الستّة، خصوصاً إذا لم تكن مخزّنة كما يجب
الرحلة المطّاطة
والآن لنتذكّر أنّ شحنة موادّ حسّاسة انطلقت من جورجيا في 20 أيلول، وعمرها الزمني قصير، وبدلاً من أن تسلك خط نار من جورجيا إلى موزمبيق، الرحلة التي تستغرق ثلاثة إلى أربعة أسابيع، أضاعت ما يقارب شهراً في تركيا في “ميناء بالقرب من غازي عينتاب القريب من الحدود السورية”، وسبقه شهر آخر ضاع في اليونان في ميناء “بيرايز”، ثمّ وصلت إلى بيروت في 22 تشرين الثاني 2013، يوم عيد الاستقلال.
إذاً خسرت هذه المواد ثلث عمرها الزمني المفترض، أي شهرين، بين اليونان وتركيا. فلماذا أضاع مالكوها شهرين؟ ولماذا لم تكن أجوبة قبطان الباخرة واضحة حول غاية التوقّف في تركيا واليونان؟
فحين سأله حاطوم جاءت الإجابات ضبابية، إمّا بحجّة أعطال تقنيّة، وإمّا بحجّة “خلافات بين طاقم السفينة وبين صاحب الباخرة”.
تجدر الإشارة إلى أنّه تمّ تغيير قبطان الباخرة، أي سائقها، في مرحلة لاحقة من الرحلة، وتحديداً في محطة اليونان. فيكون القبطان الذي انطلق بشحنة الموت هو غير القبطان الذي أوصلها إلى بيروت. والثاني حين سألناه تبيّن لنا أنّه لا يملك أجوبة واضحة.
الأوّل مختفٍ، ولم يتمكّن أحد من الوصول إليه أبداً. فالأوراق التي على أساسها دخلت سفينة “روسوس” إلى بيروت موقّعة من قبطان آخر، سابق، ولم نعثر عليه، ولا توقيع عليها من القبطان الثاني الذي خرج وتحدّث إلى الإعلام، واسمه “بوريس بروشكاييف”.
قبطانان ومالكان وغموض
كذلك الأمر بالنسبة إلى صاحب السفينة. فالذي خرج وتحدّث على التلفزيونات، واسمه “إيغور غريشيشكاين”، لم يكن هو صاحب الباخرة، بل كان للباخرة مالك آخر هو “كارالومبوس مانوللي”، قبرصي الجنسية. فقد تبيّن لاحقاً أنّ “إيغور” لا يملك الباخرة، بل استأجرها من “مانوللي”، وهو لم يستأجر بواخر من قبل، ولا حتّى من بعد. استأجر هذه الباخرة فقط للقيام بمهمّة واحدة.
وما يثير الشبهات أنّ “سافارو”، بدلاً من اعتماد باخرة متينة وسريعة لشحنةٍ بهذه الحساسيّة، وثمنها نصف مليون دولار، اعتمدت باخرة معروفة بتاريخ أعطالها، بحسب ملفّها. باخرة تعرف “سافارو” أنّها قبل العملية الأخيرة كانت متوقّفة لعشرين يوماً في إشبيليا بسبب الأعطال التقنية.
إقرأ أيضاَ: رحلة 4 آب (2/5): كيف اختفى “الوسيط الوهميّ” للنيترات؟
حتى إنّ مَن وقّع عقد النقل مع الباخرة ليس “سافارو” أيضاً، بل شركة أخرى اسمها “أغروبلاند – Agroblend”. ومن الواضح من اسمها أنّه يراد منه الإيحاء باهتمام الشركة بنقل المواد المستخدمة في الزراعة والنباتات.
الغريب أيضاً أنّ هناك اسماً مطابقاً لاسم هذه الشركة في ألبانيا، لكن ليس بالضرورة أن تكون هي نفسها، لأنّ شركة “أغروبلاند” الموقّعة ذات عنوان مختلف.
لكن لماذا لم تشحن سافارو البضاعة باسمها؟
في الحلقة الرابعة غداً:
لماذا الأردن.. وما علاقة باسيل؟