كبرى المفارقات التي رافقت تسمية الرئيس نجيب ميقاتي لتأليف حكومة، وعلى بعد أيام قليلة من الذكرى السنوية الأولى لكارثة المرفأ، تكمن في التجاهل الكامل، في الداخل والخارج، لكون “باخرة الموت” (روسوس) دخلت الأراضي اللبنانية محمّلة بنيترات الأمونيوم إبّان ولاية حكومة تصريف الأعمال برئاسة نجيب ميقاتي (استمرت 11 شهراً)، وفرّغت حمولتها خلال ولاية تمام سلام.
في حديثه إلى الزميلة “النهار” قال ميقاتي: “سمعت أنّ بواخر النيترات قد وصلت إلى مرفأ بيروت في عهدي، وأنا استقلت في عام 2013، وشكّلت حكومة جديدة عام 2014، وفي حزيران أُدخِلت البضاعة إلى المرفأ”، مشيراً إلى أنّ “هناك مَن يريد تشويه صورته”.
سيف جبران باسيل اليوم فوق رقبة المُكلّف، وهذا ما يخشاه الأخير، ولذلك تقصّد التلويح، في معرض الاستقواء بالخارج، بأنّه لولا وجود “ضمانات خارجية” لَما قبِلَ المهمّة
ولاحقاً أصدر المكتب الإعلامي لميقاتي بياناً “منعاً للتضليل الخبيث والمقصود”، أكّد فيه “عدم تلقّي رئاسة الحكومة أيّة مراسلة في هذا الموضوع لا خلال تولّي الرئيس ميقاتي رئاسة الحكومة ولا خلال فترة تصريف الأعمال”.
وحده التحقيق المفتوح في القضية يمكن أن يحدّد المسؤوليات والمرتكبين والمقصّرين، لكنّ رمزية المناسبة في الرابع من آب ترتبط بشكل وثيق بـ”المشهدية الاحتفالية” لتكليفٍ مُستفِزٍّ بكلّ أوجهه.
هو محمد نجيب ميقاتي الآتي من خلفيّة سياسية – مالية كانت جزءاً من المنظومة الحاكمة المسؤولة بدورها، وبشكل مباشر، عن “عَفَن” مرفأ بيروت الذي اختزن بين عنابره على مدى عهود، أحد أكبر عناوين الفساد والإهمال والزبائنية وهدر المال العام. ومن دون أدنى شك “بور بيروت” هو الوجه الوقح لهذه المنظومة.
رجل الأعمال الملياردير، صديق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، وصديق كبار مالكي المصارف وأصحاب النفوذ، المُدّعى عليه وعلى أفراد من عائلته من قبل مدّعي عام جبل لبنان القاضية غادة عون في تشرين الأول 2019 بجرم “الإثراء غير المشروع”، والذي تحصّن بحصانته النيابية لعدم المثول أمام القضاء، هو في الوقت نفسه ابن أفقر مدينة على ساحل البحر الأبيض المتوسط. وقد لُزِّمَت إليه اليوم قيادة سفينة الإنقاذ والإصلاح، ورئاسة حكومة يريدها “تقنية بحتة”، كما قال، للاستعداد للانتخابات النيابية، وإعداد المراسيم والقوانين اللازمة للسير بالمبادرة الفرنسية.
لكن قبل أشهر، وإثر اعتذار السفير مصطفى أديب عن عدم التأليف، كانت نصيحته “الذهبية” بتبنّي خيار حكومة تكنوسياسية “تتوافق، برأيه، مع أيّ قراءة رصينة للواقع السياسي بالفترة الأخيرة، ومع الفكر الوسطيّ”.
“على جنب” وَضَع ميقاتي “وسطيّته”، ليَحصر تأليف الحكومة بينه وبين شريكه الدستوري رئيس الجمهورية، لاختيار أسماء قال إنّها محض تقنية من دون تدخّل للكتل النيابية.
ميقاتي: سمعت أنّ بواخر النيترات قد وصلت إلى مرفأ بيروت في عهدي، وأنا استقلت في عام 2013، وشكّلت حكومة جديدة عام 2014، وفي حزيران أُدخِلت البضاعة إلى المرفأ”، مشيراً إلى أنّ “هناك مَن يريد تشويه صورته
وها هو يعلن بأنّه سيكون “صانع القرار” المالي في الحكومة العتيدة: “جئت من عالم الأعمال والمال، وسيكون لي رأي في جميع القرارات المتعلّقة بالتمويل لأنّه في هذا النوع من الأزمات، أنتَ بحاجة إلى صانع قرار”.
والرئيس عون هو الشريك الذي سَبق لنائب طرابلس أن اتّهمه، بعد ادّعاء القاضية عون عليه، بتوجيه رسالة له قبل نحو عامين مفادها كما قال يومها: “الكيل طفح منّا ومن مواقفنا ومن دفاعنا عن الدستور والطائف”، معتبراً أنّ الاتّهام ضده “يأتي ردّاً على عدم انتخابه عون رئيساً للجمهورية قبل ثلاث سنوات. لذا سيتم البدء بي، والسيف سيكون فوق رقبتي”.
فعليّاً سيف جبران باسيل اليوم فوق رقبة المُكلّف، وهذا ما يخشاه الأخير، ولذلك تقصّد التلويح، في معرض الاستقواء بالخارج، بأنّه لولا وجود “ضمانات خارجية” لَما قبِلَ المهمّة.
فموقف رئيس تكتل لبنان القوي الحاسم بعدم المشاركة في الحكومة هو نفسه الذي اتّبعه مع سلفه تحت شعار “لن نشارك في حكومة برئاسة سعد الحريري”، ومع ذلك رفعت المتاريس “الدستورية” بوجه رئيس تيار المستقبل حين رُسِمت له الخطوط الحمر على مستوى الحصص والحقائب والأسماء. وكان ذلك منطلقاً لاتّهام ميقاتي ونادي رؤساء الحكومات رئيسَ الجمهورية بأنّه خالف الدستور وتعدّى على اتفاق الطائف.
حتّى الآن طفرة الإيجابيات المقصودة والمصطنعة من قبل الطرفين “تنقّز”. لن يكون سهلاً تجاوز تجربة سابقة في الحكم دامت ثلاث سنوات من عام 2011 إلى 2013 خلال ولاية ميقاتي. وقد تقصّد باسيل قبل أيام التذكير بأنّها “لم تكن مشجّعة”، ولا أيضاً تجاوز المرحلة الماضية التي تمترس خلالها “النادي” بقوّة ضد العهد وسياسته.
بين عقليّة “الجنرال” ووريثه وعقليّة “التاجر” رجل الأعمال بون شاسع قد يُدفِّع اللبنانيين مزيداً من الأثمان الباهظة على الرغم من “الضمانات الخارجية”، والرقم الذي سجّله ميقاتي في الاستشارات الملزمة.
إقرأ أيضاً: نادي الغولف: الدرس الكبير.. نجيب ميقاتي وسعد الدين
أمّا في التفاصيل فثمّة تقاطع مشترك وحيد هي حكومة الـ24، وباقي العقد “مشروع مواجهة”: هل يقبل عون وباسيل بـ”الخلطة” التي أعاد بها ميقاتي في تشكيلته الأولى، التي رفعها إلى رئيس الجمهورية، توزيع الحقائب السيادية كما كانت، لناحية إبقاء الداخلية بيد السنّة، والمال كتحصيل حاصل للشيعة؟ وما مصير الأسماء التي تمسّك بها الحريري في التشكيلات التي تقدّم بها سابقاً إلى عون؟ وهل يقبل ميقاتي نفسه بالبقاء مكبّلاً بالسقف الذي وضعه له الحريري، وقد لمّح باسيل إلى ذلك بتحذير الرئيس المكلّف من أن لا يتحوّل إلى ضحية خامسة للحريري؟ واستطراداً هل يقبل عون بواقع أن التكليف هو عملياً بيد نادي رؤساء الحكومات وليس بيد رئيس مكلّف واحد؟
وفي شأن السؤال الأخير ذهب جبران باسيل أبعد بالتحذير من أنّه “إذا كان الرئيس المكلّف سيسلك المسار نفسه، وتبيّن أنّ لديه نيّة لعدم تشكيل حكومة، وتطبيق نظرية إبقاء عهد عون بلا حكومة، فلن نتفرّج، ولا يفكّر أحد أنّه قادر على حرقنا سياسياً من دون أن نحرقه”.