ماذا بين الرياض وواشنطن هذه الأيام؟ كيف يمكن تقويم مستوى العلاقات الحالية؟ وما هو أثر تفاعلات الشهور الأخيرة على مستقبل العلاقات السعودية-الأميركية؟
من داخل السعودية، التي أكتب منها هذه السطور، حاولت قدر جهدي، وقدر المسموح بنشره، أن أبحث عن إجابات شافية على هذه الأسئلة الحائرة.
يوجد في العلاقات بين البلدين الثابتُ والمتحوّلُ الذي يدفع بالعلاقات صعوداً وهبوطاً.
يؤكّد مصدر مخضرم عاصر الكثير من تطوّرات الملفّ السعودي – الأميركي، أنّ “العلاقات تتأرجح الآن بين “الثابت والمتحوّل” في العلاقة
بدأ الثابت منذ اللقاء التاريخي بين الملك المؤسّس عبد العزيز آل سعود والرئيس الأميركي التاريخي في “البحيرات المرة”. وقد اتضح حينئذٍ مبدأٌ مفهومٌ من الطرفين، ومفاده أنّ مصالح استراتيجية تربط بين البلدين على الرغم من اختلاف منظومة القيم والأهداف الاستراتيجية بين البلدين.
ظهر ذلك جليّاً في الحوار الذي دار بين الملك عبد العزيز وبين فرانكلين روزفلت، وظهر مكتوباً بشكل رسمي في البيان الختامي الصادر عن اللقاء، والذي عُرِف وقتها باسم مذكّرة التفاهم.
أُعدَّت هذه المذكّرة باللغتين العربية والإنجليزية من قبل العقيد الأميركي ويليام إيدي ونائب وزير الخارجية السعودي يوسف ياسين.
كان الخلاف واضحاً بشكل صريح حول مستقبل اللاجئين اليهود عقب الحرب العالمية الثانية، وحقوق العرب المشروعة في سوريا ولبنان، والزراعة وتنمية الموارد.
منذ ذلك التاريخ والعلاقات بين واشنطن والرياض تدور صعوداً وهبوطاً حول “اختلاف الحلفاء”.
يؤكّد مصدر مخضرم عاصر الكثير من تطوّرات الملفّ السعودي – الأميركي، أنّ “العلاقات تتأرجح الآن بين “الثابت والمتحوّل” في العلاقة. فمقابل قيام إدارة بايدن بمراجعة منسوب العلاقات، فإنّ الرياض أيضاً تسعى إلى خلق سياسات وتحالفات تواجه بها سلوك بايدن الشخصي، وموقف الإدارة الديموقراطية التي تواصل سياسة الضغوط السلبية التي اتّبعها باراك أوباما لمدة 8 سنوات تجاه الرياض”.
يُمارَس الآن مثلّث الضغوط الأميركية التقليدي، السلاح والتصريحات السياسية وتسخين ملف حقوق الإنسان، على الرياض على النحو التالي:
أوّلاً: في التسلّح علاقة دائمة بين رضاء واشنطن عن الرياض وبين حجم ونوعيّة وشروط وتوقيتات شحنات السلاح.
عند الرضاء تمّت الموافقة على صفقة الأواكس التاريخية وسلاح الجوّ المقاتل القاذف، ونظام الدفاع الصاروخي، وتبادل المعلومات الاستراتيجية. وتجلّى ذلك في حرب تحرير الكويت.
وعند الخلاف يعطِّل الكونغرس صفقات، مع رفض لكميّات محدّدة من الأسلحة أو تأخير تسليم قطع غيار أو إيقاف التعاون المعلوماتي في الخرائط لتحديد الأهداف.
ثانياً: في مسائل الوضع الإقليمي ضغطٌ إسرائيلي متواصل من أجل إنهاء العمليات العسكرية السعودية في اليمن، والبحث عن أسرع تسوية سياسية مع الحوثيين.
ثالثاً: في مجال حقوق الإنسان ثلاثة ملفّات:
1- تداعيات ملف الإعلامي السعودي جمال خاشقجي، كما ظهر في مذكّرة هيئة الاستخبارات الوطنية التي نُشِرت بأمر من بايدن شخصيّاً.
2- نشر بعض الوثائق المحظورة عن علاقة الـ15 سعوديّاً الذين شاركوا في عملية 11 أيلول الإجرامية، بطلب صريح وإقرار استثنائي من البيت الأبيض. وهو ما يتيح لأهالي الضحايا تحريك ملفّ قضائي داخل المحاكم المدنية للمطالبة بتعويضات من الرياض. على الرغم من أنّ الوثائق المُفرَج عنها لم تُشِر بأيّ شكل إلى تورّط أيّ مسؤول سعودي رئيسي في هذه الجريمة.
3- استمرار مراكز البحث، ولا سيّما تلك التابعة للحزب الديموقراطي، في التركيز على أوضاع حقوق الإنسان في السعودية.
السعودية المقيّدة أميركياً هي التي يجب أن تُركِّز على الداخل السعودي أكثر من تركيزها على أن تلعب دوراً فاعلاً على المستوى الإقليمي
المذهل أن لا أحد من مراكز البحث هذه التفت إلى الوقائع التالية، بل يمكن القول إنّها تجاهلتها عن عمد:
1- حجم الإصلاحات الاجتماعية والسياسية الهائلة التي شهدتها المملكة منذ عام 2015.
2- سياسة الرياض في مواجهة الفساد الإداري الحكومي بمجموعة من السياسات المستنيرة والإجراءات الرادعة التي لا تميّز بين مسؤول كبير أو بسيط، ولا تراعي كون المتّهم مواطناً عاديّاً أو من العائلة المالكة حتى لو كان صاحب سموّ ملكي.
3- يؤكّد مصدر سعودي: “نحن لا ندّعي أنّنا جنّة الديموقراطية على الأرض، لكنّنا نخوض عملية إصلاح غير مسبوقة يلمسها شباب وشابّات السعودية الذين يمثّلون أكثر من ثلثي التركيبة الديموغرافية في بلادنا”.
ويعود المصدر ليقول: “نسمع اعتراضات وملاحظات، لكنّنا لا نسمع أبداً أيّ انتباه أو تشجيع لِما قمنا به في شأن حقوق المواطنة المتساوية، وتمكين المرأة، والانفتاح الاجتماعي، ومواجهة الإرهاب التكفيري، وتطوير أنظمة التعليم، والانفتاح الإعلامي، وتطوير الخطاب الديني”.
بالتأكيد، في الرياض “مرارةٌ سياسيةٌ” من سلوك إدارة بايدن وفريق السياسة الخارجية الناصح له. نسمع في المجالس الخاصة سؤالاً يتردّد بكثرة في جدّة والرياض: “يعطوننا ليل نهار ملاحظات في حوارات فردية عن حقوق الإنسان على الرغم من أنّ جميعها تمّت وفق القوانين المرعيّة ووفق إجراءات التقاضي المتعارف عليها عالميّاً، ومع ذلك لم نسمع كيف تسعى واشنطن إلى التفاوض والحوار وإعادة تأهيل إيران والإفراج عن أرصدة ورفع عقوبات مع أنّ سجلّ طهران هو واحد من أسوأ سجلّات حقوق الإنسان في الحقبة الأخيرة بشهادة كلّ المؤسسات الدولية”.
السؤال الكبير، الذي يحاول المحلّل السياسي الإجابة عليه في هذا الملفّ، هو: ما المفهوم الحقيقي والفعليّ للسعودية المقيّدة من منظور إدارة بايدن؟
نكون أكثر صراحة ونسأل: ماذا تريد إدارة بايدن بالضبط من القيادة السعودية الحالية؟
يعتمد المرتكَز الرئيس للإجابة على استراتيجية “المراجعة الاستراتيجية”، التي قامت بها إدارة بايدن، لأولويّات المصالح الأميركية من الآن ولسنوات مقبلة.
تأتي الإجابة من مفهوم الواقعية الجديدة التي تضع المحيطيْن الهندي والأطلسي في الأولويّة المطلقة لمجال الاهتمام والمصالح الاستراتيجية بدلاً من منطقة الخليج العربي والعالم الإسلامي.
هذا الموقف هو موقف عامّ سوف يتأثّر به كلّ حلفاء واشنطن التقليديين التاريخيّين في الشرق الأوسط والخليج العربي.
الخاصّ في هذا الأمر أنّ مفهوم “السعودية المقيّدة” داخل هذه الاستراتيجية له مواصفات محدّدة هي التالية:
1- السعودية المقيّدة أميركياً هي التي يجب أن تُركِّز على الداخل السعودي أكثر من تركيزها على أن تلعب دوراً فاعلاً على المستوى الإقليمي. ومعنى ذلك أن لا حماية للحُكْم في البحرين، ولا عقوبات على قطر، ولا عمليّات عسكرية في اليمن، ولا تأثير في معادلات العراق أو لبنان أو سوريا.
2- السعودية المقيّدة بمفهوم إدارة بايدن هي التي تفتح جسور حوار مع إسرائيل وتصل إلى توافق سياسي واتّفاقات مع تل أبيب.
3- السعودية المقيّدة بمفهوم إدارة بايدن هي تلك التي تحافظ على تشجيع التعاون التجاري والاقتصادي والعسكري مع واشنطن، وتعطي حصّة الأسد للولايات المتحدة، ولا تحاول خلق بدائل مع الصين وروسيا والاتحاد الأوروبي.
لكنّ “السعودية المقيّدة” بمفهوم الملك سلمان ووليّ عهده تعتمد على إرث آل سعود، ولا تزال تعتمد على رؤى الملك المؤسّس عبد العزيز آل سعود كما ظهرت في مذكّرة التفاهم مع روزفلت.
“السعودية المقيّدة” من منظور الملك السعودي ووليّ عهده هي المفيدة لشعبها ومصالحها الوطنية.
هذا ليس شعارات مجرّدة، بل هي تمظهرت بقوّة في مواقف تناقِض المصالح والسياسات الأميركية، مثل:
1- الخلاف حول فلسطين كما جاء في مذكّرة التفاهم.
2- رؤية الملك فيصل الصريحة لإسرائيل والصهيونية كما جاء في مذكّرات هنري كيسنجر.
3- موقف السعودية من قطع إمدادات البترول عقب حرب تشرين.
4- موقف الرياض من زيارة الرئيس السادات للقدس.
5- صفقة الصواريخ الصينية مع المملكة عقب تقاعس الإدارة الأميركية عن توفير السلاح المطلوب للرياض.
6- طرد الملك فهد بن عبد العزيز، رحمه الله، السفير الأميركي “هيوم هوارين”، وترحيله بشكل قاسٍ بعدما احتجّ على قرار المملكة السيادي بشراء سلاح من الصين.
7- دخول قوات “درع الجزيرة” إلى البحرين لتأمين النظام في المنامة، الأمر الذي كان يعاكس الإرادة الأميركية.
وتؤكّد وثائق “ويكيليكس” أنّ أزمة كبرى ثارت بين الأمير سعود الفيصل وبين نظيرته هيلاري كلينتون.
8- المحادثة النارية التي تمّت بين الملك عبدالله بن عبد العزيز، رحمه الله، وبين باراك أوباما، عقب ثورة 30 حزيران 2013 في مصر، والإنذار الصريح الذي وجّهه الملك عبدالله إلى الرئيس الأميركي بأنّ المساس بما حدث في مصر يُعتبر تهديداً صريحاً للعلاقات بين الرياض وواشنطن.
9- بدء حرب اليمن بإرادة سعودية خليجية كاملة تناقض رغبة إدارة أوباما.
المتغيِّر الحالي الآن هو دقيق وخطير، ليس أنّ إدارة بايدن لا تريد مناقشة تفاصيل ملفّات أو لديها قائمة مطالب محدّدة، بل لأنّها تسعى إلى مراجعة استراتيجية لأهميّة وطبيعة ودور والتزامات كلّ طرف في هذه العلاقات الاستراتيجية
هذا كلّه على سبيل التدليل وليس الحصر، لكنّه يدلّ على أنّ تاريخ العلاقات السعودية – الأميركية هو تاريخ “حلفاء يمارسون تعاونهم وخلافهم دائماً على سطح صفيح ساخن”.
كانت هناك دائماً نقطة فهم تُجنِّب هذه العلاقات الوصول إلى نقطة اللاعودة وهي: “يجب أن تجمعنا المصالح ويجب ألا تُفرِّقنا الاختلافات”.
المتغيِّر الحالي الآن هو دقيق وخطير، ليس أنّ إدارة بايدن لا تريد مناقشة تفاصيل ملفّات أو لديها قائمة مطالب محدّدة، بل لأنّها تسعى إلى مراجعة استراتيجية لأهميّة وطبيعة ودور والتزامات كلّ طرف في هذه العلاقات الاستراتيجية.
لم تعُد للمنطقة الأهميّة نفسها أميركياً، وبالتالي لم يعُد حجم الوجود وطبيعته هما السائدين، فواشنطن تقوم الآن بضبط وإدارة الأمور عن بُعد مرتكزةً على نقاط في قطر وتركيا، وعلى الوجود البحري الدائم في المنطقة، مع قوّة نيران تُدار إلكترونياً عن بُعد آلاف الأميال.
مركز الاهتمام الأميركي هو في المحيطيْن الهندي والأطلسي، والعدوّ ليس إيران أو أفغانستان أو العراق، بل الصين وروسيا وكوريا الشمالية.
ومركز الاهتمام في تلك المنطقة يُدار عبر اتفاقية T.P.P التي تهدف إلى إعادة التوازن التجاري في المنطقة من خلال 11 دولة في آسيا والمحيط الهادىء لمواجهة التمدّد التجاري الصيني.
إذن نحن أمام 3 إشكاليات جوهرية:
1- انتقال مركز الاهتمام الأميركي من المنطقة إلى منطقة أخرى تماماً.
2- التناقص التدريجيّ للأهميّة الاستراتيجية للنفط في مجال الطاقة العالمية، ولتوافر احتياطات ضخمة لدى الجانب الأميركي في جنوب تكساس.
3- وجود فريق سياسي أيديولوجي مسكون برؤية جامدة في إدارة بايدن التي تسعى إلى فرض سياسات وقواعد وقيم تعتمد على “براغماتية انتهازية” تبيع أيّ حليف بأرخص الأثمان.
مَن يعتقد في واشنطن أنّ مراجعة العلاقة مع دول المنطقة، وبالذات مع السعودية ومصر والإمارات، لن تؤدّي، بالضرورة، إلى مراجعة مضادّة من قبل هذه الدول، فهو “جاهل أو واهم” ولا يفهم أيّ شيء من صفات قادة هذه الدول.
في الرياض يتعاملون مع واشنطن على أنّهم شركاء أو أصدقاء أو حلفاء، لكنّهم لم يكونوا يوماً ولن يكونوا “تابعين أو دولاً “ماريونيت” تحرِّكها إرادة دولة أخرى كائنةً من كانت.
ما تعتقده واشنطن من أنّه مراجعة استراتيجية هو في حقيقة الأمر، وكما سوف تثبت الأيام، خطيئة استراتيجية سوف تندم عليها المصالح الأميركية إلى الأبد.
إقرأ أيضاً: واشنطن تبيع حلفاءها والعرب في غيبوبة
إنّها أزمة إدارة أيديولوجية فاقدة لفهم طبيعة وحقيقة مواقف ومصالح وثقافة وتاريخ حلفائها.
إنّها أزمة جهل الواقع والوقائع!
وأصدق تعبير عن هذه المعضلة هو ذلك المثل الشعبي السعودي، الذي يأتي من أعماق “نجد”، والقائل: “اللي ما يعرف الصقر… يشويه”.