وحده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من بين رؤساء الدول الكبرى التي تتقدّم إلى الأمام، وحده يتقدّم إلى الوراء، في لبنان وفي أفريقيا وأوروبا وصولاً إلى آخر أصقاع الأرض.
هكذا ينطبق على لبنان، ومن بوّابة تقويم المبادرة الفرنسية، قولٌ شعبيّ مأثور: “من يرى مصيبة غيره تهون عليه مصيبته”. فالمصيبة التي وصلت إليها فرنسا تهوِّن على “وليدها” مصيبته، سياسياً بالحدّ الأدنى، إذ إنّه في المجالات الاقتصادية والماليّة لن تقوم قيامةٌ للبلد من دون أيّ مساعدات خارجية تتدفّق بفعل تغيير جوهري في سياساته، فيما المجتمع الفرنسي مختلف عن المجتمع اللبناني وقابل للمحاسبة والتغيير.
يمكن للّبنانيين، وعلى سبيل التهكّم، أن يتفرّجوا على التخبّط الذي تعانيه سياسة باريس، وتحديداً الرئيس إيمانويل ماكرون، الذي حاول ربط كلّ الملفّات الاستراتيجية والسياسات الخارجية والصفقات التجارية والاستثمارية وصفقات الأسلحة بانتخاباته الداخلية حصراً. فأخذ مفترقات طرق متناقضة أوصلته إلى دوّامة يدور فيها حول نفسه. ويجدر بالكثير من اللبنانيين المكوث في حالة الاستهزاء بماكرون وفريقه. فهذه فرنسا بتاريخها وثقلها الثقافي والفكري وعظمة أضوائها غرقت في ظلام لبناني دامس، فتكسّرت مبادرتها على صخرة عناد أفراد وجماعات، ولم تؤدِّ إلا إلى نتيجة واحدة، وهي أنّ الجري الذي يركضه ماكرون جعله يتقدّم، ولكن إلى الوراء.
من المعروف أنّ ماكرون صاحب طموح سياسي جامح، يصفه كُثُر بأنّه يحاول أن يكون زعيم أوروبا الجديد، وهذا الطبع الغالب لديه تسبّب له بمشاكل كثيرة مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب
بإمكان أيّ عضو في كتلة نيابية لبنانية أن يخرج متبجّحاً بأنّه نجح في هزيمة فرنسا، وذلك ينطبق على مَن يسمّون أنفسهم “حلفاء” فرنسا، وعلى خصومها. فقد نجحت كلّ القوى اللبنانية، منذ أكثر من سنة إلى اليوم، في إلحاق هزيمة بالفرنسيين. لم يربح إيمانويل ماكرون سوى حكومة نجيب ميقاتي القابلة للانفجار في أيّ لحظة. فيما خسر السعودية وخسر الخليج، وكان قد خسر تركيا من قبل، وقد وصل به الأمر إلى حدود خسارة أوروبا والولايات المتحدة الأميركية إثر سحب صفقة الغواصات الأوسترالية منه قبل أيام.
4 هزائم ماكرونيّة في لبنان
لهذا، فإنّ السياسة الفرنسية باتت تحتاج إلى قراءة دقيقة وواقعية للإشارة إلى المسار الانحداري الذي سلكته، ولا بدّ من البدء بمبادرتها في لبنان، على صعيد ضيّق، والتوسّع انطلاقاً منها نحو ملفّات أكثر أهميّة واستراتيجيّة. ولنعدّد خسائر فرنسا الكبيرة:
أوّلاً، يوم زار إيمانويل ماكرون في 6 آب 2020 لبنان، وأطلق مبادرته، كان مرشّحه المفضّل لرئاسة الحكومة، أو بالأحرى مرشّح إدارته، وتحديداً مرشّح برنار إيمييه وإيمانويل بون، هو نجيب ميقاتي. فشل الرئيس الفرنسي في الإفصاح عمّا يريد، فكان المسار المعروف الذي أوصل إلى اختيار مصطفى أديب، وبعده سعد الحريري، وصولاً إلى الرسوّ على نجيب ميقاتي مجدّداً.
ثانياً، تحدّث ماكرون في لبنان عن عقد اجتماعي جديد، ما لبث أن تراجع عنه داعياً إلى الحفاظ على النظام اللبناني، وإعادة إبرام تسوية سياسية جديدة تنتج حكومة إصلاحية مستقلّة بصلاحيّات موسّعة. ضاع الموقف الفرنسي بين الانقسامات اللبنانية، وأضاعه الفرنسيون أكثر في تبرير الطرح بأنّه تعرّض لأخطاء في الترجمة.
خلال زيارته، هاجم ماكرون المجتمع المدني ووصف حزب الله بأنّه “جزء من المجتمع اللبناني ومن المجلس النيابي”، حتّى ضاعت كلّ الطروحات الفرنسية فسقطت المداورة، وتنحّى مصطفى أديب، وكُلِّف الحريري الذي لم يرضخ لضغوط باريس بلقاء جبران باسيل، ثمّ اعتذر وكُلِّف ميقاتي الذي ألَّف حكومةً بناءً على ضغط فرنسي يمنح عون الثلث المعطِّل.
ثالثاً، ادّعى ماكرون يوم إطلاق مبادرته اللبنانية أنّه يحظى بدعم دولي وعربي، وخصوصاً أميركياً وخليجياً. فلم يظهر مطلقاً هذا الدعم. وهو نفسه حمّل تارةً مسؤولية التعطيل لحزب الله، وطوراً للعقوبات الأميركية التي فُرِضت على مساعد الرئيس نبيه برّي النائب، والوزير السابق، علي حسن خليل، وعلى مساعد رئيس “تيار المردة” سليمان فرنجية، الوزير السابق يوسف فنيانوس. ثم كان الموقف الخليجي الذي لم يبدِ الاستعداد لتسهيل تشكيل الحكومة، علماً أنّ السعودية قالت علانيّة إنّها غير معنيّة بالتدخّل في الشؤون اللبنانية.
رابعاً، استمرّ التناقض الفرنسي في مقاربة الملفّ اللبناني.فبعدما ضغط ماكرون في سبيل فرض عقوبات على القوى السياسية التي عرقلت مبادرته، وبعد زيارة وزير الخارجية جان إيف لودريان إلى لبنان ولقائه ممثّلين عن المجتمع المدني وإعلانه التعويل على تغيير تأتي به إجراء الانتخابات النيابية، عادت فرنسا وأبرمت صفقة جديدة مع القوى السياسية التقليدية التي اتّهمتها بالفساد، وسعت من خلال إنتاج حكومة نجيب ميقاتي إلى إعادة إنتاج الطبقة السياسية نفسها.
خلاصة ما فعله ماكرون في لبنان هو أنّه سعى إلى إنقاذ نفسه والقول إنّه نجح في ملفّ إقليمي واحد على الأقلّ، استخدمه للإيحاء بأنّ فرنسا قادرة على لعب دور مؤثّر في العالم، وأراد استغلال ذلك في حسابات انتخابية فرنسية.
وحده الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، من بين رؤساء الدول الكبرى التي تتقدّم إلى الأمام، وحده يتقدّم إلى الوراء، في لبنان وفي أفريقيا وأوروبا وصولاً إلى آخر أصقاع الأرض، في أوروبا
7 هزائم ماكرونية دولية
انتهز ماكرون فرصة غضّ الطرف الأميركي والسعي الإيراني إلى التقارب معه، فنجح في تمرير حكومة نجيب ميقاتي بناءً على اتصال بينه وبين إبراهيم رئيسي. هنا لا بدّ من الانتقال في مقاربة السياسة الفرنسية من الملفّ الداخلي اللبناني إلى ملفّات إقليمية ودولية:
أوّلاً: من المعروف أنّ ماكرون صاحب طموح سياسي جامح، يصفه كُثُر بأنّه يحاول أن يكون زعيم أوروبا الجديد، وهذا الطبع الغالب لديه تسبّب له بمشاكل كثيرة مع الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب.
ثانياً، عندما قرّر ماكرون المشاركة في قمّة بغداد الأخيرة، كان هدفه الإشارة إلى زيادة حجم الدور الفرنسي في الشرق الأوسط، وتحديداً العراق، من خلال العمل على توقيع استثمارات كبيرة، أبرزها استثمارٌ لشركة توتال الفرنسية تتجاوز قيمته 27 مليار دولار. وكرمى لهذه الصفقة عمل الإيرانيون على إحراجه كثيراً، الأمر الذي دفعه إلى القيام من مقعده والتوجّه إلى وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان لإلقاء السلام وتوجيه دعوة له إلى زيارة باريس. فماكرون يريد حماية المصالح الفرنسية في العراق، ولا بأس لو كانت الحماية عن طريق إيران أو عن طريق الحشد الشعبي الشيعي.
ثالثاً، حاول ماكرون، بناءً على السياسات التي يتّبعها، أن يظهر نفسه صاحب دور تجديدي للسياسة الأوروبية، أو كمن يحاول استعادة أمجاد أوروبا التاريخية. ولو تعارض ذلك مع السياسة الأميركية. فارتدّ عليه الأمر سريعاً مع إنشاء الولايات المتحدة الأميركية تحالفاً جديداً يضمّ إلى جانبها بريطانيا وأستراليا، ولا سيّما بعد إلغاء أستراليا صفقة الغواصات الفرنسية واستبدالها بغواصات نووية أميركية.
هذا التحالف يستهدف الصين حتماً، وستجد باريس نفسها مضطرّة إلى الالتحاق به لأنّه لا يمكنها على الإطلاق الالتحاق بالصين. وبهذه العمليّة تكون فرنسا قد خسرت صفقة بقيمة 90 مليار دولار، والعلاقة مع واشنطن.
رابعاً، فقدت الدبلوماسية الفرنسية أعصابها نهائيّاً في ردّها على القرار الأسترالي، ووصل الأمر بوزير الخارجية جان إيف لودريان إلى وصف بريطانيا بأنّها “دولة انتهازية”، واتّهم أميركا بـ”الكذب والطعن بالظهر”. وهذه عبارات لا يمكن أن يكون لها أيّ موقع دبلوماسي، خصوصاً بالنسبة إلى دولة كفرنسا. إذ أنّ هذا النوع من التخاطب يليق بأنظمة تشبه النظام الإيراني أو النظام السوري ووزيره الراحل وليد المعلم الذي مسح أوروبا عن الخريطة.
خامساً، سارع ماكرون إلى سحب السفيرين الفرنسيّين من أميركا وأستراليا، لكنّه حتماً سيتراجع عن هذا القرار بعد الاتصال الذي سيجري بينه وبين الرئيس جو بايدن. وبذلك سيكون في موقع المتراجع والمرتضي للأمر الواقع، وسيظهر على صورة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان في الشعبوية واتخاذ المواقف التصعيدية، والتراجع عنها فيما بعد. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ ماكرون يعتبر إردوغان خصماً لدوداً له، ولطالما اشتبكا بشكل مباشر وغير مباشر.
سادساً، سارع ماكرون إلى توقيع عقد الاستثمار في العراق مقابل إرضاء إيران، وبغية كسب شعبية فرنسية بنتيجة الاستثمارات، خسّرته صفقات هائلة مع دول أخرى، وسقطت نظريّته بأنّه فاتح أسواق العالم أمام المصانع والشركات الفرنسية. وبينما كان يدّعي السعي إلى إعادة إحياء أمجاد أوروبا وقيادتها، لكون أوروبا ليس فيها قائد بعد المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، تلقّى ضربة جديدة من سويسرا أيضاً، فكانت الضربة هذه المرّة من قلب أوروبا. فقد فضّلت سويسرا صفقة لشراء مقاتلات أميركية بدلاً من الفرنسية، فألغى ماكرون زيارته إليها.
سابعاً، علاقة ماكرون السيّئة مع دول الخليج، والسبب الأساسي وراء ذلك أنّه حاول التعاطي مع دول الخليج، وتحديداً مع المملكة العربية السعودية، بنظرية المستشرق. وهو لطالما سعى إلى زيارة الرياض في سبيل توقيع صفقات أسلحة، وخاصة طائرات رافال. لكنّ زيارته لم يُحدَّد لها موعد، بسبب مواقفه المتناقضة انطلاقاً من لبنان، ومروراً بإيران، ووصولاً إلى ما هو أعمّ وأشمل. فهو من أكثر المتحمّسين لعودة الاتفاق النووي مع إيران طمعاً بفتح الأسواق الإيرانية أمام الشركات الفرنسية. لكن في كلّ مرّة يفكّر بترتيب زيارة إلى الخليج يلجأ إلى تصعيد لهجته ضد إيران وينتقد عدم التزامها بالقوانين الدولية. إلا أنّ هذه المواقف لا تجد آذاناً صاغية في الرياض حيث لا تزال الأبواب موصدة.
تحت كلّ هذه العناوين الصغيرة والكبيرة، وفي ظلّ الملفّات الاستراتيجية التي ترتبط بالنظام العالمي ككلّ، تُثبِت تفاصيل متعدّدة أكثر فأكثر أنّ فرنسا، مع ماكرون، وخلافاً للطبيعة، تتقدم إلى الوراء عوضاً عن الذهاب إلى المستقبل حيث الوجهة الطبيعية لكلّ الأمم.
لبنان أبرز الأمثلة، وأمّا سوريا فمثال آخر على سقوط عصر الأنوار الأوروبي، وتحديداً الفرنسي. إذ تفضِّل فرنسا الحصول على حصّة من الكعكة السورية ولو على حساب تهجير السوريين.
إقرأ ايضاً: صندوق النقد ومؤتمر ماكرون: لا يكفي لبنان لتموز الماضي
مع إيران تستعيد باريس العلاقة التاريخية التي انتهجتها مع الخميني وصولاً إلى تفجير الثورة الإيرانية وإنتاج كلّ ما له علاقة بالتطرّف الإسلامي، سواء كان شيعياً أم سنّياً.
أمّا علاقة فرنسا مع دول الخليج فلا تزال منطلقة من نظريات الاستشراق التي تسبق عصر الحداثة. وهي نظرية تجعل اليمين الأوروبي يتقدّم أكثر بطروحاته القائمة على دعم وتنمية ما يُعرف بـ”تحالفات الأقلّيّات” أو “تصغير الكيانات”.
ما يمكن قوله لأصحاب هذه التوجّهات يختصره عنوان كتاب البريطاني ديفيد هيرست: “حذار من الدول الصغيرة”.