سوريا: تتريك الشمال… مقدّمة لقضم إدلب وحلب؟

مدة القراءة 7 د

حديث الصورة: ضريح سليمان شاه مؤسّس الدولة العثمانية، الذي دُفِن غرب قلعة جعبر في نهر الفرات شمال سورية بعدما غرق مع رجاله خلال عبورهم نهر الفرات عام 1231. وتمّ الاتفاق بين الجانبين التركي والفرنسي عام 1921 في معاهدة أنقرة أن يكون الضريح تحت السيادة التركية، وأن يُرفَع عليه العلم التركي، فيما تخضع الأرض للسيادة السورية.

يشهد الشمال السوري حملة “تتريك” ممنهج، في التعليم والاقتصاد والبريد والإدارة المحلية والعسكر والأمن. وهو أمر قد يقود إلى “ضمّ” مناطق حدودية إلى تركيا. في حين يرى باحثون أنّ الهدف من هذا “التتريك” قد يكون “إبعاد” الوحدات الكردية، وتقديم نموذج أكثر نجاحاً منها.

على سبيل المثال، في السادس من شهر آب الماضي، صدر قرار بإيقاف طبيب سوري عن العمل لأنّه ناصر زميلاً له أهانه ممرّض تركي يعمل في مستشفى بريف حلب شمال سورية. وقتئذٍ صدر القرار من رئاسة فرق العمل السورية التابعة لولاية كلس التركية.

وتضمّن القرار، الصادر باللغة التركيّة، والموقّع من كبير أطباء مشفى مارع، طلب إنهاء عقد العمل الموقّع مع اختصاصي أمراض القلب الطبيب عثمان حجاوي، ومنعه من مزاولة عمله في جميع المشافي الموجودة في المنطقة، التركية منها أو المدعومة من المنظمات الإنسانية.

من جهتها، أصدرت “نقابة أطباء حلب الحرّة” بياناً يندّد بفصل حجاوي، وطالبت إدارة المشفى بالتراجع عن قرارها، لكن دون جدوى.

فتحت الحادثة باب التساؤلات عن مرحلة مقبلة تنتظر المنطقة التي تسيطر عليها تركيا، لأنّها آخر المناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة، وتشكّل خزّاناً بشريّاً يضمّ أكثر من أربعة ملايين مدني.

ويتّهم نقّاد ومتابعون للشأن السوري أنقرة بأنّها تهيمن وتحمل تطلّعات في شمال سورية، خاصة في تلك الأراضي التي تفرض سيطرتها عليها.

وقد يكون الحافز وراء الهيمنة التركية على الحدود الشمالية السورية التي تسيطر عليها غرب نهر الفرات، هو خلق منطقة عازلة مع وحدات حماية الشعب الكردية، وتقديم إدارة “ناجحة” لهذه المناطق في العديد من المجالات

وفي مناطق عدّة من شمال سورية، بات الطلاب يتعلّمون باللغة التركية، ويتولّى أتراك إدارة المستشفيات والمؤسسات الإدارية. وتشي معطيات عدّة، مثل إشارات السير التركية، وقوات الشرطة المدرَّبة على أيدي أتراك، ومكاتب البريد التي بناها أتراك، بأنّ الدور التركي يتنامى باطّراد وبشكل يبعث على الحديث عن “تتريك” ممنهج له ما بعده، في السنوات المقبلة.

ففي القطاع التعليمي، أعاد الأتراك فتح 146 مدرسة في منطقة رأس العين قرب الحدود السورية التركية، والتحق فيها أكثر من 15 ألف تلميذ. ووقّعت جامعة حران مذكّرة تفاهم لفتح فرع جديد قريباً. ويجري تقديم منح دراسية لعدد من الطلاب الذين يحصلون على علامات عالية في امتحانات اللغة التركية YÖS، خاصةً في الجامعات الموجودة في حران وماردين وهاتاي.

الوجود التركيّ في مجالات عدّة

عسكريّاً، دعمت القوات التركية فصائل المعارضة في عمليّات عدّة أدّت إلى إقامة أربع مناطق حدودية سُمِّي كلٌّ منها تيمّناً بالعملية العسكرية التي نفّذتها أنقرة للسيطرة على الأراضي. فقد نجم عن عمليّة “درع الفرات” عاميْ 2016 و2017 إحكام تركيا قبضتها على ريف محافظة حلب الشمالي. وفي عام 2018، سيطرت فصائل المعارضة والجيش التركي على ريف محافظة حلب الشمالي الغربي في أعقاب عملية “غصن الزيتون”. ثمّ في عام 2019، تمكّنت تركيا من خلال عمليّة “نبع السلام” من السيطرة على معظم المناطق الواقعة شرق الفرات. وفي عام 2020، أطلق الجيش التركي عمليّة “درع الربيع” في إدلب المحافظة الأخيرة التي توجد فيها فصائل المعارضة السورية، وتتقاسم السيطرة عليها مع قوات النظام السوري.

وبعد سيطرة فصائل المعارضة السورية المدعومة من تركيا على عدد كبير من مدن وبلدات شمال سورية، بدأت المجالس المحلية بإعادة تأهيل المنطقة على عدّة أصعدة، أبرزها الصعيد الاقتصادي والخدمي بإشراف وتمويل تركيّيْن.

ووفق حديث مع موظّف حاليّ في أحد المجالس المحلية بريف حلب في شمال سورية، فإنّ الوجود التركي في هذه المنطقة عميقٌ، ويشمل مجالات عدّة وبشكل علني.

ويضيف الموظف الذي اشترط عدم نشر اسمه، في حديث لـ”أساس”، أنّ كل مجلس محلّي له منسِّق مرتبط بالولايات الحدودية التركية. وهؤلاء المنسِّقون يساعدون المجالس المحلية على توفير الدعم لتنفيذ مشاريع الخدمات، وتسهيل دخول المساعدات الصحية والغذائية إلى الهيئات والمجالس المحلية.

لنتذكّر أنّ تركيا دخلت بشكل رسمي إلى سورية في آب عام 2016، بهدف طرد تنظيم داعش من مدينة جرابلس شمالي حلب، وما وصفته وقتئذٍ بالدفاع عن الأمن القومي التركي، والقضاء على وحدات حماية الشعب الكردية الموجودة على حدودها.

هل ينضمّ شمال سورية إلى تركيا؟

شهدت الأشهر الماضية ارتفاع أصوات تركيّة تنادي باستعادة ما خسرته تركيا ضمن اتفاقيّتيْ “لوزان” و”أنقرة”، عبر التلويح بسندات ملكية ووثائق عثمانية تعود إلى فترة الحكم العثماني منذ قرن مضى، إضافة إلى مبرّرات الدفاع عن العرقيّات التركمانية داخل سورية.

ويعتبر أستاذ في كلية الحقوق بجامعة إدلب بشمال سورية (طلب عدم ذكر اسمه لأسباب أمنيّة)، أنّ هذه الأصوات لا تعي جيداً ما تسعى إليه أنقرة. فمن الصعب تصوّر أن تُقدِم تركيا على ضمّ ريف حلب بشمال سورية على الرغم من النفوذ الكبير في المنطقة. بدلاً من ذلك، تبدو أنقرة مصمّمة على متابعة بسط سيطرتها على المنطقة عسكرياً لاستبدال الهيمنة السابقة للوحدات الكردية التي تضعها أنقرة على قوائم الإرهاب، ولتفرض بدلاً منها نفوذها الكامل على المجالس المحلية وقطاعات عدّة لكي تكون منسجمة مع السياسات التركية.

ويعتقد عدد من المهتمّين بالشأنيْن التركي والسوري، ممن التقتهم “أساس”، أنّ المناطق التي تسيطر عليها تركيا شمال سورية تُشكّل ظاهرة غير واضحة. فهي ليست منطقة حدودية تقليدية تفصل بين دولتَيْن سياديّتيْن، ولا هي منطقة سورية بامتياز أو تركية بشكل خالص. بل يمكن النظر إلى ظاهرة هذه المناطق التي تسيطر عليها أنقرة، باعتبارها منطقة وُلِدت من رحم الظروف القائمة في تركيا، ولحماية الأمن القومي التركي تحت ما سُمِّي وقتئذٍ بالمنطقة العازلة.

تعزيز دائرة النفوذ

على الرغم من أنّ وجود بعض أجهزة الدولة التركية، مثل مؤسسة البريد PTT التي تعمل كنظام مصرفي في الشمال السوري، وشركة AK ENERGY التي تمدّ المنطقة بالكهرباء، يُشكّل مؤشّراً واضحاً إلى مدى النفوذ التركي في المنطقة بشمال سورية. إلا أنّ غونول تول، مديرة “مركز الدراسات التركية في معهد الشرق الأوسط” في واشنطن العاصمة، تعتبر أنّ الهدف الرئيس من هذا الوجود هو سعي الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى زيادة النفوذ التركي في شمال سورية.

وتؤكّد تول، التي تعمل أيضاً أستاذة مساعدة في “معهد دراسات الشرق الأوسط” في “جامعة جورج واشنطن”، أنّ الوجود التركي في سورية بشكل أساسي هو بدافع تخوّف أنقرة من النزعة الانفصالية الكردية، وكبح تقدّم هذه المجموعات التي تعتبرها أنقرة تهديداً لأمنها القومي.

لذا، فمن المحتمل أنّ إردوغان يسعى إلى تطبيق أجندة قومية تركية مناهضة للأكراد في سورية، وليس العمل على تنفيذ مشروع عثماني جديد، كما وصفه تقرير لـ”مركز كارنيغي” و”معهد واشنطن”.

إقرأ أيضاً: “مقلوبة” سوريّة في المطبخ الروسيّ

وقد يكون الحافز وراء الهيمنة التركية على الحدود الشمالية السورية التي تسيطر عليها غرب نهر الفرات، هو خلق منطقة عازلة مع وحدات حماية الشعب الكردية، وتقديم إدارة “ناجحة” لهذه المناطق في العديد من المجالات.

قد تدفع هذه المساعي، إن تحقّقت، أنقرة إلى مطالبة الولايات المتحدة بطرد وحدات حماية الشعب الكردية من حدودها، واستنساخ هذا النموذج في المعقل الأهمّ للقوات الكردية شرق نهر الفرات في أقصى شرق شمال سورية. لذا لن تكون المنطقة، التي تسيطر عليها تركيا في شمال سورية وعلى طول الشريط الحدودي، جزءاً من سورية ولا من تركيا، بل ستصبح بمنزلة منطقة عازلة لأنقرة.

مواضيع ذات صلة

هل يستبدِل برّي حليفه فرنجيّة بأزعور؟

يدور الاستحقاق الرئاسي في حلقة مُفرغة، أحد أبرز عناصر كَسرِها التوصّل داخلياً إلى تسوية تَمنع الثنائي الشيعي من أن يكون في جلسة التاسع من كانون…

مشاورات “الأعياد”: لا 65 صوتاً لأيّ مرشّح بعد!

تَجزم مصادر نيابية لموقع “أساس” بأنّ المشاورات الرئاسية في شأن جلسة التاسع من كانون الثاني قد تخفّ وتيرتها خلال فترة الأعياد، لكنّها لن تتوقّف، وقد…

السّيناريو البديل عن الانتخاب: تطيير الجلسة تحضيراً لرئاسة ترامب!

في حين يترقّب الجميع جلسة التاسع من كانون الثاني، يحتلّ عنوانان أساسيّان المشهد السياسي: من هو الرئيس المقبل؟ وهل يحتاج موظّفو الفئة الأولى، كقائد الجيش…

1701 “بضاعة” منتهية الصّلاحيّة؟

لا شكّ أنّ ما يراه المسؤولون الإسرائيليون “فرصة لا تتكرّر إلّا كلّ مئة عام” في سوريا تتيح، بعد سقوط نظام بشار الأسد، اقتطاع منطقة من…