وزراء المخيّلة الضحلة، يُفترض بهم مواجهة أزمة تفوق الخيال تضرب لبنان.
السكتة الاقتصادية والماليّة والنقدية التي أُصيب بها لبنان تفوق الخيال.. أن يتحوّل اللبنانيون إلى فقراء بلمح البصر أمر يفوق الخيال. أن ينفجر المرفأ ويدمّر ثلث العاصمة، ويحصد أكثر من مئتيْ قتيل و6000 جريح أمر يفوق الخيال..
بيد أنّ الفارق شاسعٌ بين ما يفوق الخيال هذا، وبين مخيّلة فقيرة بدائية عبّر عنها وزراء الحكومة الجديدة، بكلّ ما أُوتوا من ضفادع وعصافير وحشرات وسماوات ملبّدة..
بين مجاز الضفادع ومجاز العصافير، فكرة سياسية خطيرة مفادها أنّ اللبنانيين مسؤولون كناس وكمواطنين عمّا حلّ بهم، وثمّة من يبتزّهم اليوم
الخيال في السياسة ليس مسألة بسيطة. المخيّلة السياسية هي القدرة على تخيّل المستقبل السياسي، وتجاوز معطيات الواقع الراهن. وهي، كأيّ مخيّلة بشكل عامّ، تحتلّ مركزاً متصدّراً في آليّة إنتاج المعرفة وتوليد الحقائق الجديدة.
وحدث أيضاً أن أنتجت المخيّلة السياسية كمّاً من المآسي الفظيعة على مرّ التاريخ، حين فتحت مسارب المخيّلة الطريق لبناء أيديولوجيّات صلبة، غالباً ما تعيد صياغة تاريخ سحيق ما لتقديمه كهويّة جديدة لجماعة أو شعب، ودوماً عبر لغةٍ تُخاطِب المشاعر اللاواعية للجمهور وغرائزه.
لذلك لا مخيّلة من دون مجاز لغويّ(metaphore) بوصف المجاز جسراً بين فكرة صعبة وأخرى مفهومة.. بين فكرة مجرّدة لم تتجسّد بعد ومعطى واقعيّ مَعيش، مع كلّ ما ينطوي عليه ذلك من ادّعاء التماثل بين شيئين لا علاقة ذاتيّة بينهما، كالربط بين الوطن والأمومة أو الأرض والشرف أو “جسد” الدولة وجسد البشر. إنّه مكر المجاز كما يسمّيه محمود درويش.
وقد يكون الخمينيّون هم النسخة السياسية الأحدث لمآسي المخيّلة السياسية التي أعادت توليف تاريخ عاشوراء وتقديمه للناس كهويّة جديدة يختصرها قائد مُلهَم يقودهم إلى خلاص جديد.
لذلك من الضروريّ جدّاً، في السياسة تحديداً، فهم المجاز كبنية تفكير قبل فهمه كآليّة تعبير. فكرة المجاز لا العبارات التي صيغ بها هي ما يهمّ التقاطه في تحليل النصّ السياسيّ الذي تنطق به المخيّلة. وهنا خطورة المخيّلة السياسية التي عبّر عنها وزراء الحكومة الجديدة.
الجامع بين سرديّة “الحفّاضات” وقصص “الضفادع والعصافير والغيوم” هو موقف سياسيّ خطير، يعمل بشكل ممنهج على تزوير الأزمة وطبيعتها وتحميل الناس أنفسهم مسؤوليّة ما آلت إليه أوضاعهم. وموقف ينطوي على تبرئة الطبقة السياسية، بإحالة كلّ ما حلّ باللبنانيّين على واحدٍ من أمرين: إمّا سلوكيّات اللبنانيين وأنماط استهلاكهم (الحفّاضات، وضوضاء اعتراض اللبنانيين)، وإمّا أنّ ما حدث هو نتيجة كارثة خارج قدرة أحد على التحكّم بها (حريق الغابة والعصفور)، وهو ما لا طاقة على مواجهته إلا بالصبر والمثابرة والتعاون.
وزير الضفادع يقول ببساطة إنّ ضوضاء الاعتراض عند الناس هي المسؤولة عن سدّ الأبواب أمام الحلّ، وهو ما يستوجب أن تتلبّس الحكومة شخص “الضفدع الطرشاء”، وأن لا تستمع لأحد، كي تنصرف إلى عملها وتؤمّن “خروجنا” من البئر، لا أن تنخرط في لعبة المناكفات، “ونغرق” كما غرقت الضفدع غير الطرشاء.
وزير العصافير والحرائق والغيوم يذهب بفكرته إلى حدود نزع السياسة عمّا يلمّ باللبنانيين، باعتبار ما نزل بهم كارثة طبيعية وليس نتيجة مسار سياسي محدّد وسياسات محدّدة ومسؤولين محدّدين. وأمّا ما يقترحه من حلّ فهو التحلّي بالإرادة الملهمة، والتوحّد، كما فعل العصفور، علّنا بذلك نُلفت نظر غيوم المجتمع الدولي فتأتي لتمطر عندنا حلولاً.
الجامع بين سرديّة “الحفّاضات” وقصص “الضفادع والعصافير والغيوم” هو موقف سياسيّ خطير، يعمل بشكل ممنهج على تزوير الأزمة وطبيعتها وتحميل الناس أنفسهم مسؤوليّة ما آلت إليه أوضاعهم
بين مجاز الضفادع ومجاز العصافير، فكرة سياسية خطيرة مفادها أنّ اللبنانيين مسؤولون كناس وكمواطنين عمّا حلّ بهم، وثمّة من يبتزّهم اليوم، طالباً سكوتهم وخضوعهم للسلطة السياسية وإقرارهم بأنّ المحاسبة خطرة، وإلّا نغرق في البئر أو تزداد الحرائق شراسة. وأمّا الدليل الدامغ المرفوع في وجوه اللبنانيين، والمُثبِت لمسؤوليّتهم عمّا آلت إليه الأمور، فهو “وزير الحفّاضات” الذي أذهله أنّنا شعباً نتطاول على الصين وأنماط استهلاكها بأن ندّعي أنّنا نستحقّ ما لا تجرؤ عليه “الإمبراطورية الاقتصادية الصينية”.
ترسم هذه المجازات حدود الضحالة التي تميِّز منتجات المنظومة السياسية، والتي ما عادت قادرة على إعادة تدوير وزرائها الأشاوس، ومع ذلك تصرّ على “الدعس على الناس”…
وترسم هذه المجازات، وهذا الأخطر، العقل السياسي المستمرّ في حكم اللبنانيين، بوصفهم خطأة دائمين لا مناصَ لهم إلا بطلب الغفران من منظومة سياسية أوصلتهم إلى ما أوصلتهم إليه.
إقرأ أيضاً: أهلاً بكم في عصر الانحطاط السياسي
إنّها حكومة مضادّة للشعب، بيانها الوزاري صاغه ثلاثة وزراء، قالوا ما يجب قوله.
نحن المنظومة السياسية هنا، باقون ومتجذّرون، وأنتم تدفعون ثمن تمرّدكم علينا.. تدفعون ثمن شتيمة جبران باسيل في الساحات، وثمن رفع المشانق، وسيل الإهانات التي ما انفكّت تزدهر منذ 17 تشرين الأول 2019.
إمّا أن تخضعوا وإمّا الغرق في البئر أو الذوبان في الحرائق.. هذا هو البيان الوزاري الحقيقي، وأمّا البقيّة فتفاصيل ولغو وثرثرة فوق جثّة لبنان.