في جميع الاقتصادات الناشئة والمتقدّمة على حدّ سواء، تُحاط إدارة وتطوير قطاع الاتصالات بالكثير من الاهتمام والحذر، لكونه يُعدّ أحد القطاعات الرائدة في فتح مجالات جديدة للنمو الاقتصادي، لا بل يُعدّ أيضاً أحد أهم القطاعات من ناحية قدرته على خلق فرص عمل للكوادر المتمكّنة تقنيّاً وعلميّاً، وجذب الاستثمارات الأجنبيّة. أمّا في لبنان فلطالما اُعتُبر القطاع بقرةً حلوباً مولِّدةً للإيرادات للخزينة، من دون أن يتمّ إيلاء أيّ اهتمام لنوعيّة الخدمات التي يقدّمها، أو لطريقة إدارته وتطويره ليواكب التحوّلات العالميّة في هذا المجال.
تشير أرقام شركة “mtc” إلى أنّ عائدات خدمات الاتصال الهاتفي التقليديّة لم تعد تمثّل منذ 2018 إلا نحو 38% من إجمالي عائداتها، بعدما بات الواتساب المهرب التقليدي للمستخدِمين
ولمّا كانت شركات الاتصالات مسؤولةً عن توفير نحو 12% من إجمالي إيرادات الخزينة، وحوالي نصف الإيرادات الاستثماريّة، أي غير الضريبيّة، للدولة، بات الجميع يراها مصدر رسوم يدفعها المواطن، تماماً كما يُنظَر إلى دوائر المساحة والسجلّ العقاري مثلاً، بدل أن تمثّل قطاعاً اقتصادياً مزدهراً يواكب التطوّرات العالميّة.
ولهذه الأسباب بالتحديد، جفّ حليب البقرة الحلوب شيئاً فشيئاً، وتراجعت المداخيل مقتصرةً على الحدّ الأدنى الذي يمكن أن تقدّمه. فبين عاميْ 2011 و2019، تراجعت مداخيل القطاع بنسبة ناهزت 41%، وانحصرت هذه المداخيل سنة 2019 بنحو 650 مليون دولار فقط، فيما كانت تقارير لجنة الإعلام والاتصالات النيابيّة تشير إلى أنّ هذه الإيرادات يُفترض أن تتجاوز حدود 4 مليارات دولار إذا تمّ العمل على خطة إصلاح جذريّة للقطاع. وفي ذلك الوقت، وبدل أن تعمل الدولة على رؤية تعيد صياغة أنظمة الاستثمار والإدارة في القطاع، ليستعيد إنتاجيّته وتنافسيّته وقدرته على بيع خدمات جديدة مربحة، ذهبت مجدّداً إلى منطق “البقرة الحلوب” عبر محاولة زيادة الرسوم المفروضة على المستخدِمين، فاشتعلت احتجاجات 17 تشرين الأوّل بعد قرار رسم الواتساب الشهير.
سنة 2020، تشير أرقام وزارة المال إلى أنّ واردات الدولة من قطاع الاتصالات بلغت نحو 1.08 مليار دولار. لكنّ هذا الرقم بعيدٌ جدّاً عن الواردات الفعليّة المحقَّقة، لكون الغالبية الساحقة من هذه الواردات يتمّ تحصيلها فعليّاً الآن بالليرة اللبنانيّة، فيما تمّ احتساب هذا الرقم بالدولار الأميركي وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم. إلا أنّ احتساب الواردات وفقاً لسعر الصرف الرسمي غير مفيد لتبيان ربحيّة القطاع، لكون غالبيّة مصاريف الشركات التشغيليّة المتعلّقة بالصيانة وشراء القطع يتمّ تسعيرها بالدولار النقدي لا الليرة اللبنانيّة. وفي كل الحالات، من المؤكّد أنّ حجم الواردات الفعليّة من قطاع الاتصالات انخفض عام 2020 بأكثر من 80% قياساً إلى السنة السابقة، إذا أردنا احتساب هذه الواردات بقيمة الدولار الفعلي كما يُفترض أن يكون الحال. وتدلّ جميع المؤشّرات على أنّ جميع الشركات العاملة في قطاع الاتصالات اللبناني ستكون قريباً أمام مشاكل تمويليّة كبيرة، خصوصاً من جهة القدرة على تمويل فواتيرها المدولرة.
سيكون التعامل مع التدهور الحاصل في عائدات قطاع الاتصالات من أولى مهامّ الحكومة الجديدة. لكن يجب أن تكون أيّ خطة في هذا المجال جزءاً من رؤية كاملة لكيفيّة التعامل مع جميع القطاعات الاقتصاديّة من دون استثناء، وكيفيّة العمل على استقطاب الاستثمارات الأجنبيّة إليها
بدأ منذ وقت طويل سوء إدارة القطاع والتغاضي عن تطويره، مقابل الاكتفاء بجني أرباح شركاته لمصلحة الخزينة. فقد شهد القطاع خلال العقد الماضي في كل دول العالم تحوّلات كبيرة، من خلال انتقال المستخدِمين إلى الاستفادة من خدمات الإنترنت الهاتفي والتطبيقات الحديثة للتواصل، على حساب الاعتماد على الاتصالات التقليديّة. وفي جميع الدول، كانت إيرادات شركات الاتصالات من التخابر الهاتفي العادي وSMS تتناقص، فيما كانت تسعى الشركات إلى التعويض من خلال طرح خدمات ذكيّة جديدة تواكب التطوّر التكنولوجي، وتتماشى مع التحوّل في اهتمامات العملاء. ولعلّ بروز تطبيقات جديدة، كالواتساب وسيغنال مثلاً، شكّل الضربة القاضية التي أفقدت شركات الاتصالات معظم مداخيلها من خدمات التخابر وSMS التقليديّيْن. هذا التحدّي بالتحديد هو ما جعل الكثير من شركات الاتصالات الخاصّة الأجنبيّة تخرج من الأسواق، مقابل تعزيز مكانة الشركات التي تمكّنت من مواكبة هذه التحوّلات بذكاء عبر تطوير خدماتها.
في حالة لبنان، لم تواكب شركات الاتصالات كل هذه التطوّرات، لا من خلال طرح خدمات ذكية جديدة قادرة على تحصيل مداخيل تعوّض انخفاض مداخيل الاتصالات التقليديّة وSMS، بعد انتشار الواتساب وسائر تطبيقات الاتصالات الجديدة، ولا من خلال تخفيض أسعار الخدمات الأخرى التي ظلّت مرتفعة مقارنة بشركات الاتصالات في سائر دول العالم.
تشير أرقام شركة “mtc” إلى أنّ عائدات خدمات الاتصال الهاتفي التقليديّة لم تعد تمثّل منذ 2018 إلا نحو 38% من إجمالي عائداتها، بعدما بات الواتساب المهرب التقليدي للمستخدِمين، ومع ذلك لم تبحث الشركات عن أيّ بديل عن هذه المداخيل التي استمرّت بالانخفاض. وقد ظلّت الخدمات، التي لا تعتمد على التخابر التقليدي، محصورةً ببعض العروضات البدائيّة والمحدودة الجاذبيّة.
تكمن إحدى المشاكل الأساسيّة في حوكمة القطاع، أي طريقة إدارته وتنظيمه، إذ يقوم النموذج اللبناني حالياً على حصر الخدمات بشركتيْن محليّتيْن مملوكتيْن من قبل الدولة، من دون أن تملك الشركتان أيّ حافز للمنافسة في الأسعار أو العروضات أو حتّى المحافظة على جودة الخدمة، حتى حين اعتمدت الدولة على مشغّلين أجانب لإدارة الشركتيْن.
نماذج استثماريّة عديدة في قطاع الاتصالات تسمح للدولة باستقدام الخبرات والرساميل الأجنبيّة إلى القطاع، وبخلق منافسة في الإنتاجيّة والعروضات، من دون التفريط بملكيّة القطاع أو بنيته التحتيّة على المدى الطويل.
إقرأ أيضاً: الإنترنت: التسعيرة 3 أضعاف… والتقنين معاً
لكلّ هذه الأسباب، سيكون التعامل مع التدهور الحاصل في عائدات قطاع الاتصالات من أولى مهامّ الحكومة الجديدة. لكن يجب أن تكون أيّ خطة في هذا المجال جزءاً من رؤية كاملة لكيفيّة التعامل مع جميع القطاعات الاقتصاديّة من دون استثناء، وكيفيّة العمل على استقطاب الاستثمارات الأجنبيّة إليها.
فالعمل على أيّ تلزيم يخصّ قطاع الاتصالات مثلاً، مستحيلٌ إذا لم تُنشئ الدولة للشركات المشغِّلة بنية تحتيّة كهربائية ملائمة، تضمن استقرار خدمات الاتصالات على المدى الطويل.
إلى ذلك الحين، يمشي على طريق الانهيار أحد أبرز مداخيل الدولة.