عام 2017، خَرَق جاد ثابت لائحةَ الأحزاب ففاز نقيباً للمهندسين عن اللائحة المعارضة “نقابتي للمهندس والمهندسة” بفارق 21 صوتاً عن المرشّح العوني بول نجم. فانتعشت الآمال بتغيير عريض في الانتخابات النيابية عام 2018. كان ثابت على لائحة ائتلافية ضمّت مجموعات عدّة، من بينها “بيروت مدينتي”، والأخيرة برزت منافساً قوياً في الانتخابات البلدية عام 2016. في انتخابات المهندسين قبل أربع سنوات، كان التضامن الحزبي مخروقاً، والخلاف محتدماً حتى بين الحلفاء المسيحيين (التيار الوطني والقوات) على موقع النقيب، وصبّت أصوات الحزب التقدمي الاشتراكي دعماً لمرشّح المعارضة جاد ثابت، ففاز وحده وسقطت بقيّة لائحته.
في انتخابات 2021، الوضع مختلف نوعيّاً. فمع أنّ الأحزاب نفسها، ما عدا القوات اللبنانية، حاولت الصمود ككتلة واحدة في المرحلة الأولى من الانتخابات في 27 حزيران الماضي، إلا أنّ التنازع السياسي الشديد فيما بينها، في الآونة الأخيرة، انعكس تخلخلاً في الصفوف وتراخياً في مواجهة كيان جديد تحت اسم الثورة، يشتدّ سعيه إلى الحلول مكان الأحزاب في الحياة السياسية، ويريد إعادة تكوين السلطة في الانتخابات النيابية العام المقبل، ثمّ في الانتخابات الرئاسية، ويريد أن يجعل معركة النقابات مؤشّراً ونموذجاً. فكانت الصدمة الأولى قويّة، حيث نالت لائحة “النقابة تنتفض” 78% من الأصوات مقابل 22% للأحزاب المؤتلفة في تحالف هجين جمع الأضداد. ثم عزّزت المعارضة مكتسباتها في معركة انتخاب النقيب وأعضاء المجلس النقابي، في 18 تموز الحالي، ففاز عارف ياسين في مواجهة منافسيْن، الأول هو مرشّح تيار المستقبل باسم عويني (لائحة “لنقابة وطنية مهنية”) مدعوماً من حركة أمل، والثاني هو المرشّح المستقلّ عبدو سكّرية (لائحة “النقابة بيتنا”). وقد حاز ياسين 5798 صوتاً، مقابل 1528 صوتاً لعويني، و1289 لسكّرية، أي أكثر من ضعف ما حصل عليه عويني وسكّرية معاً. والأهمّ من ذلك هو كيفيّة توزّع أصوات المسيحيين والشيعة والسنّة والدروز بين المرشّحين، على الرغم من تخلّي الأحزاب عن دعم عويني، ما عدا حركة أمل. فهل تدلّ النتائج وأرقامها على توجّهات الرأي العام في الانتخابات النيابية العام المقبل؟ وهل انفتح باب التغيير على مصراعيْه كما تسوِّق له مجموعات المجتمع المدني؟
إن كانت الانتخابات النيابية ستُشبه في اتجاهاتها العامّة انتخابات المهندسين، فإنّ هذا يعني وجود أزمة حقيقية في تيار المستقبل، ولدى الأحزاب المسيحية بتفاوت غير واضح بين العونيين والقواتيّين. أمّا الورقة الشيعية فما زالت مستورة إلى حدٍّ ما
في البدء، لا بدّ من التنبيه إلى أنّ الانتخابات النقابية ليست عيّنة ملائمة إحصائياً كي تُعمَّم نتائجها على الانتخابات النيابية. فالأولى ذات طابع مهني مصلحي بحت، وإن تدخّلت فيها الأحزاب والقوى السياسية، والثانية ذات طابع سياسي عامّ، وتشوبها نزعات عائلية ومناطقية وطائفية متعدّدة، داخلية وخارجية. ناهيك عن أنّ للانتخابات النيابية دوائر جغرافية موسومة، وقانوناً انتخابياً خاصّاً يضع المنافسة في إطار محدّد (حالياً هو القانون النسبي مع صوت تفضيليّ). والنتائج مربوطة عادةً بعوامل متزاحمة ومترادفة. وبحسب علم الإحصاء، لا يمكن اعتبار شريحة المهندسين وحدها عيّنةً تمثيليةً للمجتمع ككلّ، ولا يمكن اعتبار كلّ أصحاب المهن الحرّة في انتخابات نقابية عيّنةً تمثيليةً للسبب نفسه، أي فيما يتعلّق بالموقف من القضايا السياسية الشائعة من جهة، وفي التعامل مع آليّات تطويع الناس انتخابياً بالترغيب النفعي والترهيب المذهبي، من جهة أخرى. لكن يمكن استخلاصاً اعتبار النقابات وما يمور فيها من تفضيلات ومستجدّات في اختيار المرشّحين والولاء لاتّجاهات متعارضة، ولا سيّما في لبنان، الذي تدخل فيه السياسة في كلّ المناحي، عيّنةً تمثيليةً نسبيّاً لموقف نخبة المجتمع بإزاء القضايا الأساسية، وللنخبة أثر نسبيّ في تكوين الرأي العام. وعليه، يُستفاد ممّا جرى في انتخابات نقابة المحامين بعد شهر من ثورة 17 تشرين الأول 2019، ومن انتخابات نقابة المهندسين أخيراً، وما جرى بينهما من انتخابات طلابية في الجامعتيْن الأميركية واليسوعية، حيث انهزمت كذلك لوائح الأحزاب، كمؤشّرات على اتّجاهات عامّة، يُبنى عليها نسبيّاً فيما خصّ المزاج الشعبي العامّ.
احترازات
من أجل ذلك، يبدو أمراً معبِّراً قراءةُ نتائج انتخابات المهندسين بحسب المعطيات المتوافرة، وكيفيّة توزّع الأصوات مذهبيّاً، كمؤشّر على الاتجاهات العامّة، مع إبداء بعض الاحترازات:
أولاً، استنكاف الأحزاب كلها ما عدا حركة أمل عن دعم مرشّح تيار المستقبل الذي يعتبر نقابة المهندسين معقله التاريخي. وقد يكون هذا التكتيك مقصوداً كموقف سياسيّ مستجدّ من التيار الذي كثرت خصوماته مع الجميع، أو استرخاءً من الأحزاب لأن حصّة النقيب هي للسنّة في هذه الدورة، أو لتحقيق أهداف عدّة، منها تفريغ نصر المعارضة من مغزاه السياسي بوصفه نصراً من طرف واحد، وليس بوجه التحشيد الحزبي الحقيقي، ومنها أنّ الأحزاب التي تنظر بجدّيّة إلى مآلات الانتخابات النيابية العام المقبل، وما يُبذَل فيها من جهود حثيثة لإسقاطها، لا تريد كشف أوراقها مسبقاً، ولا منح خصومها زخماً يحتاجون إليه في معركة كسر عظم.
ثانياً، وقوع خلاف داخل تيار المستقبل بين إدارتين، الأولى تعرف نقابة المهندسين “حلّ ونسب، كما يقولون، والثانية لا تعرف من هندسة النقاببةة إلا مرشّحها. الخلاف دار حول دعم باسم عويني أو محمد سعيد فتحة، وهو ما أفضى إلى خلل في الماكينة الانتخابية الزرقاء. بل ذهب معارضو ترشيح عويني إلى انتخاب منافسه عبدو سكّرية. وفي هذا الوضع، يشكّل الخلل المذكور عائقاً ومؤشّراً في الوقت نفسه. فمن جهة، هو عائق في تفسير النتائج، إذا أخذنا بعين الاعتبار أنّ الخلاف الانتخابي في نقابة المهندسين قد يكون عابراً ولا ينسحب على الانتخابات النيابية. ومن جهة أخرى، هو مؤشّر، إذا رأينا أنّ الاختلاف داخل التيار مرشّح للتفاقم مع الوقت.
نال الفائز عارف ياسين أصوات 1250 مهندساً سنّياً، و1400 مهندس شيعي، و2650 مهندساً مسيحياً، و500 مهندس درزي
خلاصات:
– اقترع 8730 مهندساً من أصل نحو 48 ألف مهندس سدّد اشتراكه، في المرحلة الثانية، أي بنسبة 18,3%، فيما اقترع 8008 مهندسين في المرحلة الأولى في حزيران الماضي، بمقابل اقتراع 10246 مهندساً في انتخابات عام 2017 من أصل نحو 40 ألف مهندس، أي بنسبة 25%، وهي نسبة جيّدة نسبيّاً مع تراجع في التحشيد الحزبي آنذاك. وهذا الانخفاض في الاقتراع في الانتخابات الأخيرة يدلّ على أمور شتّى، منها تفاقم الضعف في التحشيد الحزبي، ولدى تيار المستقبل خاصة، كانعكاس للأزمة الحادّة راهناً، وبسبب ارتفاع حالات البطالة بين المهندسين كما بين سائر العاملين في القطاعات الأخرى، إضافة إلى انسحاب الأحزاب من خوض المعركة مباشرة. وقد تمتدّ هذه الحالة، أي انخفاض نسبة الاقتراع، إلى الانتخابات النيابية، والخشية من أن تعجز قوى الحراك المدني عن اجتذاب جماهير الأحزاب بشكل كبير، فيُترجم ذلك باستنكاف غالبية المواطنين عن المشاركة، وينحصر الصراع حينذاك بين أقليّتين، فيربح الأكثر تنظيماً.
– نال باسم عويني على وجه التقريب أصوات 800 مهندس سنّيّ و600 مهندس شيعي و100 صوت من المسيحيين والدروز. فيما نال المستقلّ عبدو سكّرية أصوات 450 مهندساً سنّياً و300 مهندس شيعي و430 مهندساً مسيحياً و100 مهندس درزي تقريباً. فيما نال الفائز عارف ياسين أصوات 1250 مهندساً سنّياً، و1400 مهندس شيعي، و2650 مهندساً مسيحياً، و500 مهندس درزي. وهذا يعني على وجه التقريب أنّ مرشّح المستقبل نال 30% فقط من أصوات السنّة، على الرغم من التحريض المذهبي للحفاظ على موقع النقيب بحسب العرف المتّبع من المداورة بين السنّة والموارنة. في حين أنّ عارف ياسين الذي هو شيعي الأصل، وإن كان مشطوب المذهب في هويّته، نال 50% من أصوات السنّة. فهل هو تراجع في قوة التجيير لدى تيار المستقبل، وانقلاب في المزاج، أم ضعف بنيوي طارئ في الماكينة الانتخابية؟
الأكثر اعتباراً أنّه انقلاب في الرأي العام السنّي. والسؤال نفسه يُطرَح عن تجيير حركة أمل 25% فقط من أصوات الشيعة لمرشّح المستقبل، وعن ذهاب 58% من أصوات الشيعة لعارف ياسين.
فهل هو تراجع في القوة التجييرية أم تراجع في شعبية الحركة؟ وهل دَعَم حزب الله النقيب الحالي لكسر العرف الانتخابي ولو رمزياً، أم يدلّ اندفاع الشيعة لانتخاب المرشّحيْن ياسين وسكّرية عقب ترك الخيار لهم حزبيّاً على اتجاه ما في البيئة الشيعية باعتبار أنّ نسبة المحسوبين على الحزب الشيوعي من مختلف الطوائف والتي أيّدت ياسين قد لا تتجاوز 550 مهندساً؟ أمّا المؤشّر الأهمّ فهو حصول ياسين على 85% من أصوات المسيحيين، مع ترك التيار الوطني الحرّ الخيار لمحازبيه، وعدم وضوح موقف القوات من المعركة بسبب استثنائها من اللائحة الفائزة، عقب حملة أوّليّة على ياسين. وكان حصول ياسين على 85% من أصوات الدروز نتيجةً لتحرير الحزب التقدمي الاشتراكي محازبيه من أيّ التزام في المعركة، فكان لافتاً تأييدُ ياسين.
إقرأ أيضاً: انتخابات نقيب المهندسين: الصفعة المزدوجة للأحزاب؟
– وأخيراً، إن كانت الانتخابات النيابية ستُشبه في اتجاهاتها العامّة انتخابات المهندسين، فإنّ هذا يعني وجود أزمة حقيقية في تيار المستقبل، ولدى الأحزاب المسيحية بتفاوت غير واضح بين العونيين والقواتيّين. أمّا الورقة الشيعية فما زالت مستورة إلى حدٍّ ما، مع غموض موقف الحزب، والضعف الظاهر عند حركة أمل.