يوماً بعد آخر يتقدّم لبنان بخطى ثابتة على قائمة الدول التي تشهد تضخّماً مفرطاً في أسعار السلع الأساسية. ويُتوقّع أن يحلّ لبنان ثانياً بعد فنزويلا في الترتيب العالمي للتضخّم هذا العام بعدما “تغلّب” بسرعة قياسية على كلّ من زيمبابوي وسوريا. ويشير التقرير الدوري الصادر الأربعاء عن “مرصد الأزمة التابع للجامعة الأميركية في بيروت”، إلى أنّ “كلفة الغذاء بالحدّ الأدنى لأسرة مكوّنة من 5 أفراد أصبحت تتطلّب شهرياً أكثر من 3.5 ملايين ليرة”. ورصد التقرير صعود أسعار سلع غذائية أساسية بأكثر من 50 في المئة في أقلّ من شهر. فيما زادت أسعار 10 سلع غذائية أساسية أكثر من 700 في المئة على مدار سنتين. وحتّى الخبز “المدعوم” ارتفع ثمنه 233 في المئة منذ شهر أيار من العام الماضي.
الملاحظ أنّ الأجهزة المعنيّة في الدولة اللبنانية ما عادت تصدر أيّ أرقام عن معدّلات التّضخّم، في دليل واضح على الاختلال المتواصل في وظائف هذه الدولة المهدّدة بالتّفكّك كلّيّاً على وقع الأزمة الاقتصادية، إلى درجة أنّ إعلانها دولة فاشلة ما عاد يحتاج إلّا إلى قرار أمميّ، بعدما باتت كلّ المعطيات المتوافرة عن إداراتها تؤكّد هذا الفشل، باستثناء المؤسسات الأمنيّة، وفي مقدّمها الجيش، التي تحافظ على تماسكها بالحدود الممكنة بفعل الدعم الخارجي المتواصل لها، الذي ما عاد كافياً لتلبية احتياجاتها. هذا في وقت لم يتمخّض المؤتمر الدولي لدعم الجيش، الذي عُقِد بمبادرة فرنسية أخيراً، عن نتائج سريعة وكافية، وذلك في ارتداد واضح للتردّد الغربي والدولي في دعم لبنان بسبب الموقف من “حزب الله”.
نحن الآن على أعتاب تكليف رئيس جديد للحكومة، سيرث حكماً كلّ أرقام الأزمة، وكلّ مخاطرها الاجتماعية والأمنيّة، لكن من غير المؤكّد أبداً أنّه سينجح حيث فشل الحريري، فلا شيء يضمن تمكّنه من تشكيل الحكومة
كلّ هذه الأرقام المخيفة عن معدّلات التضخّم يمكن معاينة انعكاساتها اليومية على معيشة اللبنانيين الذين يواجهون باللحم الحيّ تعامي السلطة السياسيّة عن مأساتهم، وانصراف أفرقائها إلى تصفية الحسابات فيما بينهم، وإدارة معاركهم الصغيرة والكبيرة على أشلاء الدولة والمجتمع. وقد تجلّى ذلك في الصراع على الحكومة خلال تولّي سعد الحريري مهمّة تأليفها لنحو تسعة أشهر، ثمّ اعتذاره، فاعتبر العهد و”التيار الوطني الحر” أنّهما انتصرا عليه، بل أنهيا “الحريرية السياسية”. فكان زهوهُما دليلاً جديداً على اغترابهما عن الواقع، وهوسهما في نبش القبور، ووضعهما الأحقاد في مرتبة أعلى من السياسة ومن التفاوض لوضع حدّ لتدهور الأوضاع. لكن لا شيء يدعو للاستغراب ما داما يدمنان الانتصارات الوهمية.
لكنّ صفحة تكليف الحريري طُويت، وطُويت معها نشوة العهد والتيار بالفوز عليه على الرغم من الحاجة الملحّة إلى تشكيل حكومة تُفاوِض صندوق النقد الدولي، بوصف هذا التفاوض الطريق الوحيدة لكبح الانهيار الاقتصادي، أو بالأحرى لمنع وقوع المجاعة لدى شرائح واسعة من اللبنانيين. ويُتوقّع أن ترتفع أرقام تقرير منظمة “يونيسيف” الأخير، الذي قدّر أنّ 30 في المئة من أطفال لبنان ينامون ببطون خاوية. ولكنّ الخطر لا يقتصر على وقوع المجاعة وحسب، بل يمكن للتفاوت في المعيشة بين اللبنانيين أن يُحفِّز ردّات فعل شعبية لا تطول السلطة هذه المرّة، بل تتحوّل إلى شكل من أشكال الإشكالات الطبقية.
نحن الآن على أعتاب تكليف رئيس جديد للحكومة، سيرث حكماً كلّ أرقام الأزمة، وكلّ مخاطرها الاجتماعية والأمنيّة، لكن من غير المؤكّد أبداً أنّه سينجح حيث فشل الحريري، فلا شيء يضمن تمكّنه من تشكيل الحكومة، على الرغم من الإلحاح الدولي الكثيف على تأليفها. إذ لا يملك “المجتمع الدولي” في الملف اللبناني حتّى الآن سوى أدوات الضغط السياسيّة والإعلامية في مواجهة السلطة أو الطبقة السياسيّة لحثّها على تأليف الحكومة. وقد يصل به الأمر إلى فرض عقوبات أوروبية أميركية على معطّلي تأليف الحكومة. إلا أنّ كلّ ذلك لم ينفع حتّى وقتنا هذا في دفع مَن بيده الأمر، أي ائتلاف العهد – حزب الله، إلى تسهيل ولادة الحكومة. لذا أدوات الضغط الدولية عاجزة عن تعديل موازين القوى الداخلية، وعاجزة عن تعديل المسار الكارثي الذي يسلكه لبنان، ما دام ائتلاف الحزب والعهد غير مستعدّ للإفراج عن الحكومة، إلّا إذا أتت في طبيعتها السياسيّة مؤاتيةً له تماماً.
لا يمكن الحديث عن لحظة تساهل إقليمي – دولي تجاه لبنان الآن. بل الأصحّ أنّ “بلاد الأرز” تشهد سباقاً محموماً بين المواجهة، ولو المضبوطة، بين “المجتمع الدولي” وطهران في لبنان، وبين الانهيار الشامل للدولة وفقدان المجتمع مقوّمات الصمود المعيشي الأساسية
ولعلّ مرحلة تكليف الحريري شهدت محطّات تهدئة إقليمية – دولية كانت من الممكن أن تدفع نحو تأليف الحكومة، لكنّها لم تُؤلَّف. فما الحال في ظلّ اللحظة الراهنة التي تشهد تضخّماً في المواجهة بين واشنطن وطهران في أعقاب انتخاب إبراهيم رئيسي على رأس الجمهورية الإسلامية في إيران، و”تعثّر” مفاوضات فيينا. فانتخابه، وإن لم يعدم حظوظ الاتفاق الأميركي – الإيراني حول الملف النووي، فهو عقّد هذا الاتفاق، وبالحدّ الأدنّى دفع به إلى آجال غير محدّدة.
وإلى حين استئناف الجولة السابعة من مفاوضات فيينا المتوقّع بعد أسابيع عدّة بأقلّ تقدير، فإنّ المنطقة ستشهد مزيداً من التفاوض بالنار بين واشنطن وطهران. وهو ما يمكن الاستدلال عليه يوميّاً في اليمن، حيث يكثّف الحوثيون هجماتهم على جبهات محافظتيْ البيضاء ومأرب. وفي العراق حيث تحاول فصائل من الحشد الشعبي السيطرة على مناطق شمال بغداد، في إطار سيطرتها على “حزام العاصمة” على وقع التصعيد العسكري بين القوات الأميركية وفصائل الحشد في العراق وسوريا.
أمّا في سوريا فقد كثّفت إسرائيل غاراتها على مواقع الميليشيات الإيرانية، في حلب ليل الاثنين-الثلاثاء، وفي حمص قرب الحدود اللبنانية ليل الأربعاء-الخميس.
وفي لبنان أُطلِق الثلاثاء صاروخان “لقيطان” من الجنوب على إسرائيل في توقيت مريب جدّاً، لكنّ الحدث الأبرز يبقى تمديد الرئيس الأميركي حالة الطوارئ الوطنية للبنان لمدّة عام آخر بسبب استمرار “الأنشطة المهدّدة للأمن القومي الأميركي”. وكان البارز في بيان البيت الأبيض إشارته إلى “تصرّفات سورية تستهدف إعادة تأكيد السيطرة السورية أو المساهمة في التدخّل السوري في لبنان والتعدّي على السيادة اللبنانية”. وورد فيه أيضاً أنّ “بعض الأنشطة، مثل نقل أسلحة من إيران إلى “حزب الله”، وتشمل أسلحة متطوّرة، تعمل على تقويض السيادة اللبنانية وتسهم في عدم الاستقرار السياسي والاقتصادي في المنطقة”.
وهذا يعدّ تصعيداً في الموقف الأميركي ضدّ سوريا والحزب وإيران، في وقت يتكثّف التنسيق الفرنسي الأميركي حول الملفّ اللبناني، طارحاً علامات استفهام كبرى عن قدرة فرنسا على إحداث خرق في جدار التفاوض مع الحزب لتسهيل تشكيل الحكومة العتيدة في ظلّ التصعيد الأميركي الجديد. لكن في المقابل يجب الأخذ في الاعتبار أنّ التصعيد المتبادل بين واشنطن وطهران لم يخرج حتى الآن عن “الخطوط الحمر” المتبادلة. واللافت في هذا السياق أنّ الحزب لم ينظّم حملة إعلامية وسياسية للردّ على كلام بايدن، بل إنّ ردوده بقيت تحت سقوف خفيضة.
إقرأ أيضاً: الانهيار بـ”كامل أوصافه”: الإمرة للفراغ
بيد أنّه لا يمكن الحديث عن لحظة تساهل إقليمي – دولي تجاه لبنان الآن. بل الأصحّ أنّ “بلاد الأرز” تشهد سباقاً محموماً بين المواجهة، ولو المضبوطة، بين “المجتمع الدولي” وطهران في لبنان، وبين الانهيار الشامل للدولة وفقدان المجتمع مقوّمات الصمود المعيشي الأساسية. ولعلّ وتيرة هذا السباق ونتيجته هما اللتان ستحدّدان هل يشهد لبنان ولادة حكومة سريعاً أو لا. والأهمّ أنّهما ستحدّدان طبيعة الحكومة ومهامّها في حال أبصرت النور… وذلك سواء رَأَسها نجيب ميقاتي أو سواه!