التأمين بـ”الفريش”: المستوصف بديل المستشفى

مدة القراءة 6 د

خلال الأيام الماضية، بدأت معظم شركات التأمين الاتصال بأصحاب بوالص الاستشفاء لديها لتبلغهم قرارات تقضي بسداد قيمة بوالصهم الجديدة بالدولارات الطازجة، عند انتهاء صلاحيّة البوالص الحاليّة. وبذلك، يمكن القول إنّ بوالص التأمين الصحّيّ ستكون قريباً خارج قدرات الغالبيّة الساحقة من الأسر اللبنانيّة، التي تتقاضى رواتبها بالليرة اللبنانيّة حصراً، وبغياب أيّ تصحيح شامل للأجور. مع العلم أنّ شركات التأمين اعتمدت سابقاً قواعد استثنائيّة، قضت بالسماح بسداد جزء من قيمة البوالص وفقاً لسعر الصرف الرسمي القديم، أو سعر صرف المنصّة السابق الذي كان يبلغ 3,900 ليرة مقابل الدولار الواحد، أو من خلال شيكات مصرفيّة بالدولار الأميركي.

شركات التأمين بدأت منذ الآن الاستعداد للمرحلة التي تُفرض فيها عليها إعادة النظر في جداول الأسعار المعتمدة مع المستشفيات، وقد اتّخذ الكثير منها قرار التسعير بالدولار النقدي، للتمكّن من مواكبة الأسعار الجديدة

تتّصل هذه القرارات المستجدّة بأزمة كبيرة نشأت أخيراً بين المستشفيات والمختبرات الطبيّة من جهة، وشركات التأمين من جهة أخرى. فبعد رفع الدعم عن الغالبيّة الساحقة من المستلزمات الطبيّة التي تحتاج إليها المستشفيات والمختبرات، لم يعد بإمكان هذه المؤسسات الاستمرار باعتماد جداول الأسعار المتّفق عليها مع شركات التأمين، فتوقّف بعضها عن قبول المرضى الذين يطلبون الخدمات الصحيّة على حساب شركات التأمين. أمّا المستشفيات والمختبرات التي استمرّت بقبول بوالص التأمين، فعملت على مطالبة المرضى بدفع مبالغ تغطي الفارق بين جداول الأسعار المتّفق عليها مع الشركات، وجداول الأسعار الجديدة المعتمدة بعد ارتفاع أسعار المستلزمات الطبيّة. مع الإشارة إلى أنّ هذه الفروقات تجاوزت في بعض الأحيان قيمة الخدمات الصحيّة التي يغطّيها التأمين.

لكلّ هذه الأسباب، اجتمعت أخيراً جمعيّة شركات الضمان في لبنان ونقابة أصحاب المستشفيات الخاصّة للتوصّل إلى تفاهم يعالج هذا التخبّط في التعامل مع المرضى. وتعتبر شركات التأمين أنّها غير قادرة على رفع تسعيرة الخدمات الصحيّة التي تغطّيها، في ظلّ تقاضيها نسبة كبيرة من الأقساط بالليرة وفق أسعار صرف مدعومة، أو بالدولار المصرفي. في حين أنّ المستشفيات الخاصّة تعتبر أنّ تقاضي نفس التسعيرة على الخدمات الصحيّة مسألة مستحيلة، بعدما ارتفعت معظم تكاليف العمليات بالتناسب مع تراجع سعر صرف الليرة نتيجة رفع الدعم عن المستلزمات الطبيّة. وعمليّاً، لم يتم التوصّل حتّى اللحظة إلى تفاهم نهائي بين الطرفين.

لكنّ شركات التأمين بدأت منذ الآن الاستعداد للمرحلة التي تُفرض فيها عليها إعادة النظر في جداول الأسعار المعتمدة مع المستشفيات، وقد اتّخذ الكثير منها قرار التسعير بالدولار النقدي، للتمكّن من مواكبة الأسعار الجديدة. وتؤكّد مصادر من داخل إدارات هذه الشركات أنّ سوق التأمين قد يخسر أكثر من نصف عدد بوالص التغطية الصحيّة عند اتخاذ هذا القرار، نتيجة ارتفاع سعر صرف الدولار ومحدوديّة مداخيل الأسر اللبنانيّة. لكن بالنسبة إلى هذه الشركات، باتت المسألة تتّصل باستمراريّة النموذج الاقتصادي الذي يقوم عملها على أساسه وربحيّة هذا النموذج، وقدرتها على الاستمرار في العمل. ولذا لا بدّ من اتخاذ هذا النوع من القرار.

وفي كل الحالات، تشير المصادر نفسها إلى أنّ عدم معالجة المشكلة عبر إعادة النظر في طريقة تسديد ثمن البوالص، ثمّ التفاهم مع المستشفيات والمختبرات على جداول أسعار جديدة، سيضع شركات التأمين أمام ثلاثة سيناريوهات:

من الأكيد أنّ فرض سداد أقساط بوالص التأمين بالدولار النقدي لاحقاً سينطوي على الكثير من الإجحاف بحقّ عملاء شركات التأمين، خصوصاً أنّ كلفة الاستشفاء والخدمات الصحيّة ارتفعت بالفعل

الإفلاس التامّ في حال فُرِض عليها تسعيرات جديدة ومرتفعة للخدمات الطبيّة في المستشفيات والمختبرات من دون إعادة النظر في قيمة الأقساط التي تتقاضاها.

– فقدان البوالص لقيمتها إذا قرّرت جميع المستشفيات والمختبرات وقف التعامل مع شركات التأمين، في حال لم تُعدَّل جداول الأسعار المتّفق عليها.

– فقدان البوالص لقيمتها أيضاً، إذا استمرّت المستشفيات والمختبرات بقبول المرضى على حساب شركات التأمين، لكن مع إجبار المرضى على دفع فروقات كبيرة جداً، في حال لم تُعدَّل جداول الأسعار المتّفق عليها.

بمعزل عن هذه السيناريوهات، من الأكيد أنّ فرض سداد أقساط بوالص التأمين بالدولار النقدي لاحقاً سينطوي على الكثير من الإجحاف بحقّ عملاء شركات التأمين، خصوصاً أنّ كلفة الاستشفاء والخدمات الصحيّة ارتفعت بالفعل، لكنّها لم ترتفع بنفس نسبة ارتفاع سعر صرف الدولار في السوق السوداء. فتسعيرة الخدمات الصحيّة تتضمّن العديد من التكاليف التي تتأثّر بسعر الدولار النقدي بشكل مباشر، كالرواتب والأجور ومخصّصات الأطباء وغيرها. وهنا يبدو من الواضح غياب أيّ جهد رسمي لمراقبة شركات التأمين ومواكبة قراراتها المستجدّة، وتحديداً من قبل لجنة مراقبة هيئات الضمان في وزارة الاقتصاد والتجارة.

العامل الذي يفاقم اليوم من حجم الأزمة، يكمن تحديداً في محدوديّة تغطية الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، الذي يُفترَض أن يوفّر شبكة الحماية الصحيّة للفئات غير القادرة على الحصول على التأمين الصحي. فلا يزال الضمان الاجتماعي يغطّي حاليّاً كلفة الأدوية والخدمات الصحيّة على أساس سعر صرف 1507.5 ليرات للدولار، في ظل ارتفاع أسعار غالبيّة الأدوية التي تُحدَّد تسعيرتها على أساس سعر صرف 12.000 ليرة الدولار، وفي ظل ارتفاع أسعار خدمات المستشفيات بعد رفع الدعم عن المستلزمات الطبيّة. أمّا أزمة الضمان الكبرى فهي العجز الكبير في ميزانياته، الذي لا يسمح بتعديل نسبة التغطية هذه. بالإضافة إلى عدم قدرة الاقتصاد المحلّي على تحمّل زيادة في كلفة اشتراك المؤسسات التجاريّة.

إقرأ أيضاً: الطبابة بالفريش دولار: المقابر بانتظار الفقراء

في الخلاصة سيكون وضع الأسر اللبنانيّة كالتالي: التأمين خارج متناولها، والضمان غير قادر على ملء الثغرة الناتجة عن ذلك. ومع ارتفاع أسعار جميع الخدمات الطبية في المستشفيات والمختبرات، من الأكيد أنّ الطبابة ستكون قريباً ترفاً لا يقوى معظم الأسر على حيازته بسهولة. الحلّ المطروح لدى الجهات المعنيّة اليوم هو اللجوء إلى الجمعيات والمستوصفات للحصول على هذه الخدمات، فيتحوّل المقيمون إلى طوابير من المتسوّلين طلباً لخدمات يُفترض أن تكون حقّاً مقدّساً.

مواضيع ذات صلة

هذه هي الإصلاحات المطلوبة في القطاع المصرفيّ (2/2)

مع تعمّق الأزمة اللبنانية، يصبح من الضروري تحليل أوجه القصور في أداء المؤسّسات المصرفية والمالية، وطرح إصلاحات جذرية من شأنها استعادة الثقة المفقودة بين المصارف…

لا نهوض للاقتصاد… قبل إصلاح القطاع المصرفيّ (1/2)

لبنان، الذي كان يوماً يُعرف بأنّه “سويسرا الشرق” بفضل قطاعه المصرفي المتين واقتصاده الديناميكي، يعيش اليوم واحدة من أخطر الأزمات النقدية والاقتصادية في تاريخه. هذه…

مجموعة الـ20: قيود تمنع مواءمة المصالح

اختتمت أعمال قمّة مجموعة العشرين التي عقدت في ريو دي جانيرو يومي 18 و19 تشرين الثاني 2024، فيما يشهد العالم استقطاباً سياسياً متزايداً وعدم استقرار…

آثار النّزوح بالأرقام: كارثة بشريّة واقتصاديّة

لم تتسبّب الهجمات الإسرائيلية المستمرّة على لبنان في إلحاق أضرار مادّية واقتصادية مدمّرة فحسب، بل تسبّبت أيضاً في واحدة من أشدّ أزمات النزوح في تاريخ…