البحر الأحمر: ممرّ الفِيَلة!

هل يمكن أن يمرّ الفيل من ثقب الإبرة؟ المنطق يقول إنّ ذلك مستحيل.

لكنّ جيبوتي تحاول أن تثبت أنّ ذلك ممكن، وأنّه لا يوجد مستحيل في السياسة.

جيبوتي أصغر دولة إفريقية على البحر الأحمر، لا يزيد عدد سكّانها على 875 ألف نسمة. نسبة الأمّيّة فيها تبلغ، حسب أرقام الأمم المتحدة، 45 في المائة. ونسبة البطالة تصل إلى 60 في المائة. لا صناعة لديها، وأرضها صحراء قاحلة. مع ذلك فإنّها ثقب الإبرة الذي يشكّل ممرّ الفيلة إلى البحر الأحمر:

– فللولايات المتحدة الأميركية قاعدة عسكرية في منطقة “لامونير” في جيبوتي. وهي القاعدة الأميركية الوحيدة في كل القارة الإفريقية. وتضمّ 4500 رجل. ومن هناك تُطلق هذه القوّات عمليّاتها ضد بقايا تنظيم القاعدة في اليمن، وضد حركة الشباب الإرهابية في الصومال. ومن هناك أيضاً تقوم بحراسة “سلامة الملاحة” في جنوب البحر الأحمر. مقابل ذلك تدفع الولايات المتحدة لحكومة جيبوتي بدل إيجار القاعدة 60 مليون دولار سنوياً.

ليس هدف جيبوتي أن تكون مسرحاً لصراع الآخرين. خاصة أنّ الآخرين هم جبابرة العالم، عسكرياً واقتصادياً: الولايات المتحدة، الاتحاد الروسي، الصين، اليابان، والاتحاد الأوروبي. بل هدفها هو أن تكون “دبي” الثانية في منطقة جنوب البحر الأحمر

– ولفرنسا، المستعمر القديم للمنطقة، قاعدة عسكرية هي الأكبر خارج الحدود الفرنسية. أمّا المبرّر السياسي لوجود القاعدة فهو الدفاع عن مستعمرتها السابقة، والاستجابة لطلب حكومتها. وهو طلب مستمرّ منذ أن حصلت جيبوتي على استقلالها.

– كذلك اليابان لها قاعدة عسكرية. وهي القاعدة اليابانية الوحيدة خارج حدود اليابان.

– وهناك قوات عسكرية أوروبية تضمّ مجموعة من الجنود الألمان والإسبان، مهمّتهم منع القرصنة في البحر الأحمر والمحافظة على سلامة التجارة البحرية التي سبق أن تعرّضت على يد قراصنة صوماليين لعمليات إرهابية. ولكن ليس لهؤلاء قاعدة عسكرية.. إنّهم نزلاء فنادق الدرجة الأولى في جيبوتي. وهناك مفاوضات تقوم بها كلّ من روسيا والهند، وكذلك السعودية، لإقامة مراكز (وليس قواعد) لمراقبة حركة الملاحة البحرية في المنطقة.

– ولقد شيّدت الصين أول قاعدة عسكرية لها خارج حدودها، مقابل 20 مليون دولار تدفعها سنوياً للحكومة في جيبوتي. أمّا الهدف من هذه القاعدة فهو أن تكون رأس جسر لإجلاء المهندسين والعمّال الصينيين، الذين يعملون في عدد من الدول الإفريقية، وفي اليمن الذي لا يبعد سوى 20 ميلاً عبر باب المندب، عندما تدعو الحاجة إلى ذلك.. “ولي فيها مآرب أخرى”. لا يخفي الغربيون، وخاصة الولايات المتحدة، هذه المآرب الصينية الأخرى، خاصة في ضوء التراجع المستمر في العلاقات بين بكين وواشنطن (في عهديْ ترامب وبايدن على حدّ سواء).

في الأساس حملت جريمة 11 أيلول 2001 في نيويورك وواشنطن القوات الأميركية إلى جيبوتي سعياً وراء تنظيم “القاعدة”.

وفي الأساس أيضاً، كانت القاعدة العسكرية البريطانية في عدن بجنوب اليمن الحافز وراء إقامة القاعدة الفرنسية في جيبوتي.

والقراصنة الصوماليون هم الذين استدعوا القوات الأوروبية، بعملياتهم التي استهدفت الملاحة البحرية في البحر الأحمر،. ثمّ إنّ الحرب بين إثيوبيا وإريتريا التي استمرّت سنتين (1998-2000) وانتهت بحرمان إثيوبيا من أي ممرّ على البحر الأحمر، جعلت إثيوبيا تحت رحمة هذا الجار الضعيف بذاته والقوي بالقواعد الأجنبية. فإثيوبيا تعتمد بنسبة 90 في المائة من وارداتها وصادراتها على جيبوتي.

ليس هدف جيبوتي أن تكون مسرحاً لصراع الآخرين. خاصة أنّ الآخرين هم جبابرة العالم، عسكرياً واقتصادياً: الولايات المتحدة، الاتحاد الروسي، الصين، اليابان، والاتحاد الأوروبي. بل هدفها هو أن تكون “دبي” الثانية في منطقة جنوب البحر الأحمر.

فكما تستقطب دبي حركة الملاحة العالمية عبر مضيق هرمز، كذلك تريد جيبوتي أن تستقطب حركة الملاحة العالمية عبر باب المندب.. كيف؟

طبعاً لا يمكن المقارنة بين مسيرة دبي الإنمائية الرائدة في التاريخ الحديث، وحلم جيبوتي الذي هو أشبه ما يكون بـ”حلم ليلة صيف”. فهي تعتمد على حاجة دولة واحدة إلى مرفئها. وهذه الدولة هي إثيوبيا التي تخوض الآن معركة مع مصر والسودان من أجل سدّ النهضة.

إقرأ أيضاً: الودّ المفقود بين الصين وأميركا

وقد انطلقت مسيرة دبي من انسحاب القوات الإنكليزية من الخليج، ومن قيام دولة الإمارات العربية المتحدة. أمّا مسيرة جيبوتي فإنّها على العكس من ذلك تنطلق من وجود القوات الأجنبية، (وهي قوات متصارعة في الأساس)، وتقوم على قاعدة انفصالها عن إثيوبيا وإريتريا بعدما كانت هذه الدول الثلاث تشكّل دولة واحدة.

لقد أصبحت دبي ممرّاً واسعاً لحركة التجارة العالمية. وبقيت جيبوتي ممرّاً ضيّقاً للفِيَلة المتصارعة.

مواضيع ذات صلة

لن يتغيّر وجه الشّرق الأوسط قبل كسر إيران

بالغ بنيامين نتنياهو دائماً بأنّه يريد تغيير وجه الشرق الأوسط. لكنّ الذي حقّقه مع أميركا هو قطع الأذرع الإيرانية. ولأنّ إسرائيل لا تثق بزعمها، تتابع…

“الحزب” يطلب وأورتاغوس تحذّر من انتظار أميركا-إيران…

زيارة الموفدة الأميركية مورغان أورتاغوس للبنان يومَي الجمعة والسبت، سبقتها التسريبات التحذيرية. وحين حلّت في بيروت، اختارت الهدوء والدبلوماسية، بدل التشدّد واللهجة الصارمة. هذا هو…

قبل زيارته للمنطقة: ترامب لا يعترف بحكومة دمشق

انشغلت الأوساط المعنيّة بالشأن السوري بقرار بدا مفاجئاً اتّخذته إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب بتغيير وضع البعثة السورية في الأمم المتحدة في نيويورك من بعثة…

“الحزب” مُطالبٌ بموقف تاريخيّ: فهل يُسلّم سلاحه؟

لقد أصبح مؤكّداً أنّ الرسالة الأميركيّة التي حملتها نائبة المبعوث الأميركي للشرق الأوسط مورغن أورتاغوس لم تختلف عن الرسالة التي حملتها في زيارتها الأولى التي…