نجح “نادي قضاة لبنان” في رسم مسار متمايز له، بعدما شقّ بجهد وبصعوبة مسيرة تثبيت نفسه كهيئة قانونية ومعنوية تتولّى طرح القضايا التي تهمّ الجسم القضائي وتعزّز استقلاليّته، في مقابل تحفّظ “مجلس القضاء الأعلى” ووزير العدل في حينه، الذي يُعدّ رأس السلطة القضائية ومرجعيّتها، بدليل مسارعته إلى الاعتراض على طلب العلم والخبر الذي تقدّم به المؤسّسون، باعتبار أنّ “تشكيل بعض القضاة هيئة أو كياناً أو جمعيّة، أياً كانت المهمّة التي تتولّاها، يُعدّ خرقاً لموجب التحفّظ الذي يتحلّى به القاضي”.
وبعد ثلاث سنوات من تأسيسه، وحصوله على العلم والخبر، ها هو “النادي” يكرّس مبادىء ديموقراطية متميّزة في بنيته التنظيمية، في محاولته لتشكيل علامة فارقة عن السائد محليّاً، ولا سيّما لجهة استقلالية القضاة، من خلال انتخاب هيئة إدارية جديدة تستمرّ ولايتها ثلاث سنوات، وذلك سنداً إلى نظام النادي الداخلي. فاُنتُخب فيصل مكّي رئيساً، ومريانا عناني وجوزف تامر وفاطمة ماجد وطارق بو نصار ونور الدين صادق (عن القضاء العدلي)، وبولا هيكل (عن القضاء المالي)، ونادين رزق (عن القضاء الإداري) أعضاءً.
اللافت أنّ القاضية غادة عون استضافت خلال تلك الفترة (بين عاميْ 2008 و2009) بعض الاجتماعات التأسيسية، وكانت من الداعمين للإطار أسوة بالقاضي سهيل عبود، الذي كان يُعتبَر الأب الروحي لتلك الحركة ومحرِّكها الخفيّ
فما هو هذا النادي؟ وما هي ظروف تأسيسه؟
تعود فعليّاً فكرة إنشائه إلى عام 2002 على أثر تعرّض القاضي فادي نشار لإطلاق نار داخل أحد مكاتب قصر العدل في بيروت، فتداعى عدد من القضاة لوقفة احتجاجية، إلا أنّ مدّعي عام التمييز في ذلك الوقت القاضي عدنان عضّوم أقفل قصر العدل، وأبلغ بعض القضاة بالحرف الواحد: “لا أريد قرنة شهوان جديدة في قصر العدل”.
وبناءً عليه، راحت الفكرة تلمع في ذهن بعض القضاة بحثاً منهم عن إطار مهنيّ يحميهم ويتمتّع باستقلالية تامّة عن السلطة السياسية، وهي السمة المطلوبة في مجلس القضاء الأعلى الذي هو في نهاية المطاف وليد السلطة السياسية، ولا يُترَك له هامش واسع من التحرّك.
على هذا الأساس تحمّس بعض القضاة، ونظّموا العديد من ورش العمل الهادفة إلى وضع إطار تنظيمي يشبه النقابات المهنية، خصوصاً أنّ لكل القضاة في العالم نقاباتهم الخاصّة، التي تختلف تسميتها من دولة إلى أخرى. بعد فترة، تقدّم أحد القضاة بدراسة قانونية مفصّلة تجيب عن كلّ أسئلة رفاقه عن قانونيّة الإقدام على خطوة الانتساب، التي قد تثير حساسيّة مجلس القضاء الأعلى وامتعاضه. لهذا تردّد كثر خلال تلك الفترة في الإعراب عن ترحيبهم بالفكرة أو إعلان استعدادهم للانتساب.
اللافت أنّ القاضية غادة عون استضافت خلال تلك الفترة (بين عاميْ 2008 و2009) بعض الاجتماعات التأسيسية، وكانت من الداعمين للإطار أسوة بالقاضي سهيل عبود، الذي كان يُعتبَر الأب الروحي لتلك الحركة ومحرِّكها الخفيّ.
وقد عُقِدت في حينه الاجتماعات الموسّعة الأولى، التي ضمّت حوالي 50 قاضياً، واستضافتها كلية الحقوق في جامعة الكسليك. وكان بين القضاة مَن هو متحمّس كثيراً للطرح، ومَن هو غير مقتنع بقانونيّته، ويفضّل الاستمهال لإنضاج الفكرة تحت عنوان توسيع إطار المشاركين ليشمل قضاة من كلّ الأعمار والدرجات والغرف، لكون المتحمّسين ينتمون إلى فئة الشباب.
وصلت أصداء تلك الاجتماعات إلى مجلس القضاء الأعلى، وفجأة انحصر عدد المشاركين في الاجتماعات التأسيسية بأقلّ من خمسة… إلى أن دخل النادي طور التأسيس العملاني في شهر آذار 2017، على أثر حركة الاحتجاج والإضرابات التي لجأ إليها القضاة آنذاك، رفضاً لقرار الحكومة اللبنانية إلغاء “صندوق تعاضد القضاة”، والتعامل مع القضاة كموظفين لا سلطة دستورية مستقلّة. وقد نجحت مساعيهم في دفع الحكومة إلى التراجع عن قرار إلغاء صندوق التعاضد وبعض الامتيازات التي تشكّل أماناً اجتماعياً للقاضي وعائلته.
أقرأ أيضاً: وزير الداخلية يجدّد اتهامه القضاء بالفساد.. وعويدات يستدعيه
أمّا التطوّر النوعي فقد كان في عام 2018 حين تقدّم بعض القضاة بطلب علم وخبر ووقّعه الوزير نهاد المشنوق في حينه، رغم كل الاعتراضات.
لكن بلا شك، ثمة تقاطع سياسي بينهما لا يُستهان به، بدليل أنّ بعض القضاة، أكثرهم شيعة، قدّموا استقالتهم خلال الأشهر الأخيرة بسبب مواقف “النادي” السياسية التي أثارت انزعاج هؤلاء فاتّهموه بأنه بات جزءاً من الاصطفاف السياسي، وصار عديده أقلّ من مئة قاضٍ.