المشكلة في لبنان ليست في إجراء الانتخابات الاشتراعيّة في موعدها المقرّر بعد تسعة أشهر، بحضور مراقبين أوروبيين أو غيابهم. المشكلة في قانون الانتخابات العجيب الغريب الذي يُبقي “حزب الله” مسيطراً على مجلس النواب.
كذلك الأمر في ما يخصّ كارثة تفجير مرفأ بيروت. ليست المشكلة في ذاك النائب أو الوزير السابق أو المسؤول الأمنيّ أو ذلك… ولا في رفع الحصانات أو عدم رفعها. المشكلة أصلاً في رفض رئيس الجمهوريّة ميشال عون، منذ لحظة التفجير في الرابع من آب 2020، أن يُجرى تحقيق دوليّ يكشف الحقيقة.
التحقيق في تفجير مرفأ بيروت سيبقى في إطار محدّد يتفادى الحقيقة والواقع. ومعنى ذلك تفادي أيّ إشارة إلى أنّ لبنان انتقل في عام 2005 من الوصاية السوريّة – الإيرانية إلى الوصاية الإيرانيّة
ثمّة حاجة إلى مثل هذه الحقيقة بدل الهرب منها ومن واقع يتمثّل في أنّ رئيس الجمهوريّة اعترف بالصوت والصورة أنّه تلقّى تقريراً أمنيّاً عن وضع المرفأ قبل أربعة أسابيع من التفجير، ولم يتحرّك بسبب “غياب الصلاحيّات”. لا يحتاج رئيس الجمهورية إلى صلاحيّات عندما يتعلّق الأمر بإعطاء توجيهات تقضي بالكشف عمّا في عنابر المرفأ وعن الموادّ المخزّنة فيها. لكنّ هناك شكوى من غياب الصلاحيّات عندما تكون الحاجة إلى تحمّل المسؤولية. وهناك تجاوز لكلّ الصلاحيّات والأعراف عندما يتعلّق الأمر بتعطيل تشكيل حكومة لبنانيّة تضمّ “اختصاصيين” تستطيع، في الحدّ الأدنى، معالجة حال الانهيار التي يعانيها البلد الذي فقدت عملته قيمتها.
في كلّ الأحوال، لم يعُد تشكيل حكومة يقدِّم أو يؤخِّر في ظلّ التدهور الذي يعانيه لبنان على كلّ المستويات، وفي ظلّ أخذ الناس إلى معارك وهميّة لا فائدة منها، معارك من نوع رفع الحصانات، في حين أنّه لا مَن يسأل ولو سؤالاً واحداً في غاية البساطة. هذا السؤال يتعلّق بمَن غطّى تخزين نيترات الأمونيوم في العنبر الرقم 12؟ وما هي وجهة استخدام الكميّات التي أُخرِجت من العنبر على دفعات؟ هنا يتوقّف البحث عن الحقيقة ما دام المطلوب أخذ المواطنين إلى مكان آخر، وجعلهم يصدّقون خرافات لا هدف منها سوى الهرب من الواقع، واقع مَن يتحكّم بالبلد فعلاً.
بعد فشل “حزب الله” في انتخابات 2005 و2009 في الحصول على أكثريّة نيابيّة، استطاع الحزب، بفضل القانون الانتخابي الذي فرضه، نيل مثل هذه الأكثريّة في انتخابات أيّار 2018. مكّنت نتائج الانتخابات، بفضل القانون، من ضرب وحدة أهل السُنّة واختراقها وإسقاط أكبر عدد من المستقلّين المسيحيين، من أمثال بطرس حرب، على سبيل المثال وليس الحصر. ومكّن قانون الانتخابات قاسم سليماني قائد “فيلق القدس” في “الحرس الثوري” الإيراني، الذي اغتاله الأميركيون مطلع عام 2020، من القول صراحة إنّه باتت لدى إيران “أكثريّة” نيابيّة في لبنان.
“عهد حزب الله” استطاع أخذ بعض اللبنانيين إلى المكان الخطأ، أي إلى موضوع رفع الحصانات عن شخصيّات معيّنة، في حين أنّ كارثة تفجير المرفأ في مكان آخر. اسم هذا المكان هو الاحتلال الإيراني للبنان ولا شيء آخر
لا يميّز العهد القائم، الذي يسمّي نفسه “العهد القويّ”، في حين أنّه “عهد حزب الله”، بين الحقيقة والهرب منها. لا يميّز بين الحقيقة التي تعني أن لا قيمة لأيّ انتخابات اشتراعية في ظلّ القانون المعمول به، وبين الهرب مرّة أخرى إلى أكثريّة لـ”حزب الله” الذي يسيطر على “التيّار الوطني الحر”.
كانت موافقة حكومة سعد الحريري على قانون الانتخابات الأخير خطأ كبيراً، في حينه. في أساس هذا الخطأ الاعتقاد أنّ رئيس الجمهوريّة سيلعب دور “بيضة القبّان” بين مختلف الأطراف اللبنانية. كان هناك متّسع من الوقت، منذ انتخاب ميشال عون رئيساً للجمهورية في 31 تشرين الأوّل 2016، لاكتشاف أنّه غير مستعدّ للعب دور “بيضة القبّان”، وأنّ حقده على إرث رفيق الحريري لا حدود له… وأنّه يعتقد أنّ سلاح “حزب الله” سيعيد ما يسمّيه “حقوق المسيحيين” التي انتزعها منهم اتفاق الطائف.
ما الذي يمكن توقّعه من عهد أسير فكرة، أو على الأصحّ وهم، أنّ “حزب الله” سيوصل جبران باسيل إلى موقع رئيس الجمهوريّة، كما فعل مع ميشال عون؟
إقرأ أيضاً: لماذا لم يستمع البيطار إلى رئيس الجمهوريّة؟
ما يمكن توقّعه هو هروب إلى انتخابات اشتراعية لن تقدِّم ولن تؤخِّر، وإلى التظاهر بأنّ تحقيقاً جدّيّاً يجري من أجل كشف الحقيقة في تفجير مرفأ بيروت. لا معنى لأيّ انتخابات في ظل القانون الحالي، ولا معنى لأيّ تحقيق يتجاهل الجهة التي أدخلت النيترات إلى مرفأ بيروت وخزّنتها في أحد عنابره، وكانت تنقل قسماً من الموادّ المخزّنة إلى جهة مجهولة بين حين وآخر.
من هذا المنطلق، يبدو الربط ضروريّاً بين الانتخابات والنيترات، لا لشيء سوى أنّ الانتخابات ستكرّس وجود أكثريّة تابعة لـ”حزب الله”، أي لإيران، في مجلس النوّاب اللبناني. أمّا التحقيق في تفجير مرفأ بيروت، فسيبقى في إطار محدّد يتفادى الحقيقة والواقع. ومعنى ذلك تفادي أيّ إشارة إلى أنّ لبنان انتقل في عام 2005 من الوصاية السوريّة – الإيرانية إلى الوصاية الإيرانيّة. لو لم يكن الأمر كذلك، لم تكن الحدود اللبنانيّة – السوريّة لتزول عمليّاً من الوجود منذ كشف “حزب الله” علناً أنّه يقاتل في سوريا، وأنّ قوّاته تدخل إليها وتخرج منها ساعة تشاء وكيفما تشاء.
المحزن أنّ “عهد حزب الله” استطاع أخذ بعض اللبنانيين إلى المكان الخطأ، أي إلى موضوع رفع الحصانات عن شخصيّات معيّنة، في حين أنّ كارثة تفجير المرفأ في مكان آخر. اسم هذا المكان هو الاحتلال الإيراني للبنان ولا شيء آخر. كلّ ما تبقّى هربٌ من الحقيقة وغرقٌ في التفاصيل التي لا معنى لها… تفادياً لسؤال: لماذا لا تحقيق دوليّاً في جريمة المرفأ؟!