بات التحقيق في انفجار المرفأ يتفرّع إلى عدّة “تحقيقات” وتساؤلات موازية حيال أكثر من نقطة ملتبسة:
1- هل استراتيجية المحقّق العدلي القاضي طارق البيطار في الادّعاء على كلّ مَنْ “عَلِم” أو تسلّم ورقة تفيد بوجود نيترات الأمونيوم على الباخرة “روسوس” أو داخل العنبر رقم 12، هي استراتيجية كافية للادّعاء أو الشبهة؟ وهل تطبّق على الجميع؟
هنا يُطرح السؤال عن مسؤولية رئيس الجمهورية القائد الأعلى للقوّات المسلّحة الذي “كان يعلَم” وقالها علناً أمام عددٍ من الصحافيين، ثمّ في بيان رسمي صادر عن الرئاسة الأولى أفاد بأنّ المستشار العسكري والأمني لرئيس الجمهورية أعلَمَ الأمين العام للمجلس الأعلى للدفاع بالموضوع فور تلقّي الرئيس عون تقريراً من المديرية العامة لأمن الدولة عن “وجود كمّية كبيرة من نيترات الأمونيوم في أحد عنابر مرفأ بيروت”.
يجزم العارفون أنّ التحقيق الذي يجريه القاضي البيطار منذ أربعة أشهر ونصف انتقل من مكان إلى مكان آخر تماماً. وقد بات لديه تصوّر شبه مكتمل، مدعّم بالدلائل والإثباتات
2- هل يستجيب القاضي البيطار لطلب هيئة مكتب المجلس ولجنة الإدارة والعدل الاستحصال على “خلاصة عن الأدلّة الواردة في التحقيق وجميع المستندات والأوراق التي من شأنها إثبات الشبهات”؟ وما هي الخطوة التالية للمجلس إذا لم يتجاوب البيطار مع هذا الطلب؟
3- هل تُعرف هويّة الجهة المسرِّبة لمضمون التحقيق الفرنسي في انفجار المرفأ الذي أعدّت استخبارات الجيش خلاصات ودراسة تحليلية عنه، وأرسلتها إلى البيطار بناء على طلبٍ منه، و”زبدتها” استبعاد فرضية الانفجار الناتج عن إطلاق صاروخ؟ واستطراداً القطبة المخفيّة التي كَمَنَت أيضاً خلف التسريب الذي طال أسماء المدّعى عليهم في الملف قبل تسلّمهم مضمون الإحالات من البيطار إلى النيابة العامة التمييزية؟ وفي الحالتين عكس المحقّق العدلي انزعاجاً كبيراً من التسريب.
4- هل انقسم أهالي ضحايا انفجار المرفأ إلى “محوريْن” ولجنتيْن حيال أسلوب التعاطي مع مرحلة ما بعد الادّعاءات وما قد يليها من ادّعاءات إضافية؟ ولا سيّما أنّ عدداً من الأهالي لم يكن موافقاً ولم يُواكب التحرّكات التي قام بها بعض هؤلاء في الأيام الماضية.
قد تكون الحقيقة الأبشع في جريمة انفجار مرفأ بيروت، وما أدّت إليه من وقوع ضحايا وأبرياء، هي عدم إمكان تحديد المسؤولين المباشرين عن هذه الكارثة الإنسانية.
ودرب الحقيقة في بلدٍ يمرّ بأخطر أزمة تهدّد كيانه ووجوده سيكون صعباً جدّاً، وقد تتسلّل إليه عقليّة تصفية الحسابات وحروب إلغاء كاتمة للصوت تتكامل ربّما مع المسار السياسي الذي يُرسَم للداخل اللبناني. لذلك لا تزال مهمّة القاضي البيطار تحت الاختبار الجدّيّ في المرحلة الفاصلة عن صدور القرار الاتّهامي.
في الردّ المُرتقَب للقاضي البيطار على طلب اللجنة المشتركة النيابية محطّةٌ مفصليّةٌ في مسار التحقيق. فاستناداً إلى المادة 91 من قانون النظام الداخلي لمجلس النواب، التي تنصّ على أن يُقدِّم طلب الإذن بالملاحقة وزير العدل مرفقاً بمذكّرة من النائب العامّ لدى محكمة التمييز تشتمل على نوع الجرم، وزمان ومكان ارتكابه، وعلى خلاصة عن الأدلّة التي تستلزم اتّخاذ إجراءات عاجلة، لم تقتنع اللجنة بأنّ ما أرسله القاضي البيطار عبر وزارة العدل كافٍ كـ”خلاصة عن الأدلّة” التي يُفترَض أن تفتح الطريق أمام رفع الحصانات عن النوّاب نهاد المشنوق وعلي حسن خليل وغازي زعيتر.
وقد أكّدت اللجنة أنّها ستعقد اجتماعها الثاني “فور تزويدها بالجواب المطلوب”، تمهيداً لإعداد التقرير ورفعه إلى الهيئة العامّة للتصويت عليه.
وقد كانت لافتةً إشارةُ نائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي إلى أنّ مهلة الخمسة عشر يوماً (المهلة التي يجب أن تردّ هيئة مكتب المجلس خلالها على طلب الإذن بالملاحقة) “تبدأ من لحظة توافر كامل الملفّ وفقاً لِما نصّت عليه المادة 91، ونحن بالانتظار”، وبالتالي لا تبدأ المهلة من جلسة يوم الجمعة بتاريخ 9 تموز.
أمّا لناحية إعطاء الإذن بملاحقة المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا، فتفيد المعلومات بأنّ رئاسة الجمهورية أرسلت يوم الجمعة الفائت إلى هيئة التشريع والاستشارات، طالبةً رأيها في المرجعية الصالحة لمنح الإذن بملاحقة اللواء صليبا
يجزم العارفون أنّ التحقيق الذي يجريه القاضي البيطار منذ أربعة أشهر ونصف “انتقل من مكان إلى مكان آخر تماماً. وقد بات لديه تصوّر شبه مكتمل، مدعّم بالدلائل والإثباتات، للحظة انطلاق الباخرة من مرفأ باتومي في جورجيا (على أن تكون وجهتها موزمبيق) ورسوّها في مرفأ بيروت في تشرين الثاني 2013 لنقل آليّات تُستخدم في المسح الزلزالي، حيث تضرّرت ولحق بأحد عنابرها عطبٌ، ثمّ الحجز القضائي عليها بسبب ديون مستحقّة عليها، ثمّ تفريغ أكياس نيترات الأمونيوم منها في تشرين الأول 2014، ونقلها إلى العنبر رقم 12، ثمّ لحظة الانفجار في 4 آب”. أمّا تحديد المسؤوليّات الأمنيّة والسياسية والإدارية فهو لا يزال في طور تركيب “البازل” الخاصّ بها.
لكن ماذا عن مسار الأذونات بالملاحقة ورفع الحصانات؟
في ما يتعلّق بطلب هيئة مكتب المجلس من القاضي البيطار المزيد من الأدلة، وبعد ما تردّد من إمكان تلبية المحقّق العدلي طلب اللجنة النيابية المشتركة وتزويدها بجزء من “الأدلّة” والقرائن التي يعتبر أنّها ترتّب مسؤوليات على الوزراء السابقين بما لا يضرب سريّة التحقيق، كإفادات الشهود مثلاً أو أدلّة لا يجوز كشفها أمام هيئة نيابية (سياسية)”، فإنّ المعلومات تؤكّد أنّ “البيطار أبلغ المعنيين أنّه غير ملزم بتقديم هذه الأدلّة بما يؤدي إلى كشف سرية التحقيق”.
وعبر هذه الخطوة سيقوم القاضي البيطار بما قام به سابقاً القاضي فادي صوّان، حين راسل هذا الأخير مجلس النواب طالباً منه “تحمّل المسؤولية والقيام بما يراه مناسباً في حقّ وزراء تعاقبوا على وزارات العدل والمال والأشغال قد تكون هناك شبهة إهمال عليهم”، وحين طالبه المجلس آنذاك بتزويده بما يثبت هذه الشبهات تمنّع عن ذلك، وذهب إلى الادّعاء عليهم مباشرة.
أمّا لناحية إعطاء الإذن بملاحقة المدير العام لأمن الدولة اللواء طوني صليبا، فتفيد المعلومات بأنّ رئاسة الجمهورية (وليس رئاسة الحكومة) أرسلت يوم الجمعة الفائت إلى هيئة التشريع والاستشارات، طالبةً رأيها في المرجعية الصالحة لمنح الإذن بملاحقة اللواء صليبا. وقد جرى تنسيق هذه الخطوة بين الرئيس عون ورئيس حكومة تصريف الأعمال.
ويقول العارفون “مِن الآخِر، رئيس الجمهورية لن يعطي الإذن بملاحقة صليبا، فيما الرئيس دياب كان مستعدّاً لمنح الإذن لو كان القرار عائداً له وحده. ورئيسة هيئة الاستشارات هي القاضية جويل فواز القريبة من الوزير الأسبق سليم جريصاتي، وعلى الأرجح سيذهب قرار الهيئة نحو حصر إعطاء الإذن بالمجلس الأعلى للدفاع الذي يرئسه رئيس الجمهورية”.
وتبرز هنا إشكالية قانونية، فالنصّ، الذي يُستَنَد إليه لإثبات صلاحيّة المجلس الأعلى للدفاع في منح الإذن بالملاحقة، وارد في نصّ إنشاء المجلس الأعلى للدفاع، وجاء فيه: “تنشأ لدى المجلس الأعلى للدفاع مديرية عامة تُسمّى المديرية العامة لأمن الدولة خاضعة لسلطة المجلس وتابعة لرئيسه ونائب رئيسه”.
وهذا النص، بين “خضوع” المديرية لسلطة المجلس و”تبعيّتها” للرئيس ونائبه، مُلتبس كفاية ليقود إلى طرح الأسئلة التالية: هل يَمنَح المجلس الأعلى بكامل أعضائه الإذن بملاحقة صليبا (مع العلم أنّ على طاولته أجهزة أمنيّة مدّعى عليها من قبل القاضي البيطار)، أم رئيسه فقط أم رئيسه ونائبه معاً؟ هذا وتتبع المديرية العامة لأمن الدولة إدارياً لرئاسة الحكومة وبريدها “يُفرَز” في رئاسة الحكومة وليس رئاسة الجمهورية!
إقرأ أيضاً: انفجار المرفأ: الاحتكام إلى القضاء أم إلى الرأي العام؟
أمّا لناحية طلب الإذن بملاحقة المدير العامّ للأمن العامّ اللواء عباس إبراهيم، فإنّه موجود على طاولة المحامي العام التمييزي الناظر في ملفّ جريمة المرفأ القاضي غسان خوري بعد لجوء القاضي البيطار إليه لكسر قرار وزير الداخلية محمد فهمي برفض منح الإذن.
يبقى رئيس حكومة تصريف الأعمال حسان دياب، الذي سبق أن ادّعى عليه القاضي صوّان، لكنّ مصادر رئاسة الحكومة تؤكّد أنّه لم يُبلَّغ من القاضي البيطار بأيّ موعد للاستماع إليه كمدّعى عليه.