السبعة الذين “قتلوا” جوري السيّد

مدة القراءة 8 د

ما الذي يثير الغضب أكثر: موت الطفلة جوري السيّد أم إعلان وزارة الصحّة فتح تحقيق في الحادث، وكأنّها لا تعلم بوجود أزمة دواء في البلاد؟!

ماتت جوري ليس لنقص الأموال. فلا يزال في البلاد مليارات كثيرة من العملات الصعبة في المصرف المركزي وفي البنوك وفي خزائن الناس في البيوت، ولدى المغتربين ما هو أكثر، لكنها لا تمنع موت طفلة، لسبب واضح هو العناد الرهيب في قصر بعبدا، وخطأ لا يحتمله العقل ترتكبه الحكومة المستقيلة ومصرف لبنان في إدارة الأزمة.

هل يعتقد رياض سلامة أنّ بإمكانه أن يترك الفجوة بين سعريْ الصرف الرسمي والموازي تصل إلى 1200%، من دون أن يموت الناس من فقدان الدواء، ومن دون أن ينفد المازوت في مولّدات المستشفيات، ومن دون أن تُطفَأ معامل الكهرباء، ومن دون أن يتبخّر البنزين قبل أن يصل إلى المحطّات؟ هل من بلدٍ آخر في العالم تتعايش فيه الأسواق مع هرطقة كهذه؟

هل يعتقد رياض سلامة أنّ بإمكانه أن يترك الفجوة بين سعريْ الصرف الرسميّ والموازي تصل إلى 1200% من دون أن يموت الناس من فقدان الدواء؟

عندما يصل الأمر بالمغتربين إلى حدّ إرسال الأدوية بدلاً من الأموال، فهذا يعني استبدال التحويلات النقدية بتحويلات المواد الملموسة، وما من سبب لذلك سوى إقفال النظام النقدي وعجزه عن استقبال العملات الصعبة وإعادة توزيعها في النظام المالي والاقتصاد. إنّه نظام مالي خارج الخدمة.

يمكن لأيٍّ كان أن يردّد حتى الصباح المقولات السائدة عن أسباب الانهيار الراهن، من الفراغ الحكومي إلى التناحر السياسي وفشل الطبقة الحاكمة وسياسات العقود الماضية، لكنّ الحقيقة أنّ الحكم يأبى الفراغ، وكلّ ما ورد لا يحجب مسؤولية سبعة مسؤولين يُديرون الأزمة ويُقرِّرون السياسات النقدية والمالية والاقتصادية، وهم:

– رئيس الجمهورية (ربّما يُعطف عليه المجلس الأعلى للدفاع الذي بات يقرّر في الصغيرة والكبيرة!).

– رئيس الحكومة المستقيلة.

– حاكم مصرف لبنان.

– وزير المال في الحكومة المستقيلة.

– وزير الاقتصاد في الحكومة المستقيلة.

– وزير الطاقة.

– وزير الصحّة.

هؤلاء السبعة بيدهم ما يكفي من السلطة والصلاحيّات، وقد استخدموها بالفعل في سياسات وقرارات (كثير منها اتخذته الحكومة المستقيلة) أوصلت الناس إلى الاختناق الراهن.

يتصرف هؤلاء السبعة على أساس أن ليس بالإمكان أفضل ممّا هو كائن، وأن ليس بيدهم إلا انتظار تشكيل حكومة بديلة ترفع هذا الوزر عن كواهلهم. يظهر كلٌّ منهم على الشاشات منهكاً مستغيثاً مستسلماً، لا يستنكف عن إظهار ضعف الحيلة والافتقار إلى الوسيلة. والحقيقة أنّ طوابير الذلّ، ورفوف الصيدليّات الفارغة، والكهرباء المقطوعة، والإنترنت المضطرب، كلّها أمور كان بالإمكان تلافيها بقليل من الحسّ السليم.

لكي يتوقّف التهريب والتخزين في ظلّ الفارق الحالي بين الدولار المدعوم والدولار الحرّ يجب أن يكون الشعب بكامله من القدّيسين أو من المجانين

ما يحدث هذه الأيام مزيج من أزمتين متلازمتين: أزمة تضخّم الأسعار بفعل انهيار سعر الصرف، وأزمة نقص الإمدادات، من البنزين والمازوت وفيول الكهرباء إلى الأدوية وحليب الأطفال ومعدّات المستشفيات، وكلّ ما يخطر في البال من مستورَدات. الأزمتان ليستا الشيء نفسه، لكنّهما مترابطتان بفعل قلّة الكفاءة، أو انعدام الشجاعة لدى المسؤولين أعلاه، أو مزيج من الاثنين.

أزمة التضخّم وسعر الصرف مفهومة، وهي ناجمة عن سنوات متتالية من العجز التوأم في ميزانية الدولة وميزان المدفوعات، أمّا أزمة نقص الإمدادات فمسألة أخرى منفصلة، وسببها الواضح أنّه ما من سوق تتعدّد فيه أسعار الصرف وتتّسع الفجوة بينها إلا وتشحّ فيه الإمدادات وتكثر فيه الممارسات الانتهازية (rent seeking behavior) من المحظيّين الذين يستولون على السلع المشتراة بدولارات الناس المحفوظة لدى البنك المركزي. والعلاقة طرديّة بين اتّساع الفجوة وزيادة شحّ الإمدادات. ويمكن لأيّ مبتدئ في علم السياسات النقدية أن يتوقّع موت الناس من انقطاع الموادّ الأساسية حين تصل الفجوة بين أدنى أسعار الصرف وأعلاها إلى 1200%.

إذا لم يكن المسؤولون السبعة قد تعلّموا المسألة في الجامعات، فالشواهد أمامهم حاضرة: التهريب القائم بين لبنان وسوريا، وتخزين السلع المدعومة داخل لبنان، وتهريب البنزين من داخل المحطات إلى خارجها بالغالونات. ثمّ يصرّ المسؤولون على السياسات نفسها، مع تعديل سعر الصرف المدعوم للمحروقات من 1507 إلى 3900، وتحريك قوى الأمن للكشف على مخزونات المحطات ومخازن شركات الأدوية. ما هذا العبث!

لكي يتوقّف التهريب والتخزين في ظلّ فارق الـ 1200% بين الدولار المدعوم والدولار الحرّ يجب أن يكون الشعب بكامله من القدّيسين أو من المجانين.

من المثير للسخرية أنّ المصرف المركزي في سوريا، الدولة البعثيّة منذ ستّين عاماً، خفّض سعر الصرف الرسمي إلى 2512 ليرة للدولار منتصف نيسان الماضي، ليعادل هذه الأيام 70% تقريباً من السعر في السوق الموازية، بينما لا يتجاوز سعر الصرف الرسمي في لبنان 8% من سعر السوق الموازية. ألا يخجل مصرف لبنان من أن يكون نظيره البعثي أكثر ليبرالية وواقعية منه؟

لماذا يعاند مصرف لبنان، ومن ورائه قصر بعبدا والسراي الحكومي والقوى السياسية كلّها، في التمسّك بسعر الصرف البائد، بعد كلّ ما يرونه من اختناقات وجوع وذلّ وعتمة؟

أشهر التبريرات زَعْمُ الخوف على الطبقات الفقيرة التي تحصل على السلع الأساسية بأسعار مدعومة، وهو زعم فارغ لأنّ الواقع يشير إلى أنّ هؤلاء يدفعون ثمن التضخّم بالفعل، ويدفعون ثمناً أكبر لتفاقم انهيار سعر الصرف نتيجة السياسة العقيمة أعلاه. ولو أنّ سعر الصرف ظلّ موحّداً ما كان الدولار ليصل إلى هذا الحدّ من الارتفاع، ببساطة لأنّ تحويلات المغتربين كانت ستدخل إلى النظام المالي وتُحدِث أثراً أفضل، وبالتالي ما كان للتضخّم أن يرتفع إلى هذا الحدّ.

ماذا كان سيحدث لو أنّ مصرف لبنان بدأ بتحرير سعر الصرف الرسمي تدريجيّاً أواخر عام 2019؟

لدينا نماذج في محيطنا القريب، من مصر وتركيا في السنوات الماضية. ما يحدث في الغالب عند تحرير سعر الصرف وتوقّف البنك المركزي عن التدخّل باحتياطاته لتمويل الاستيراد أنّ السوق تعدّل نفسها تدريجياً، فيتركّز الاستيراد على الأساسيات وينخفض العجز التجاري، ويبدأ تعديل مستويات الأجور لتلحق بتضخّم الأسعار، ولو بفارق زمني. ويبدأ أيضاً تعديل قاعدة الإنتاج، ويكون حافزٌ للتصدير والسياحة والاستثمار الأجنبي المباشر.

قد يقول قائل إنّ حال البلدين مختلف عن لبنان من حيث اتّساع قاعدة الإنتاج المحلّي هناك، والجواب عن ذلك أنّ لبنان يوجد لديه ما لا يتوافر في أيٍّ من البلدان التي تواجه ظروفاً مشابهة، وهو تدفّق العملات الصعبة من المغتربين، بما يراوح بين 20% و30% من الحجم الحالي للاقتصاد، وتلك التدفّقات كانت كفيلة بإعادة التوازن نسبيّاً إلى الحساب الجاري في ظلّ تراجع الواردات إلى النصف وتوقّف المواطنين عن السفر للسياحة، ورحيل النسبة العظمى من العاملات الأجنبيّات.

لكنّ سياسات المسؤولين السبعة أدّت إلى العكس تماماً في لبنان، إذ تعطّل الاستهلاك، وهو مكوِّن أساسي من مكوِّنات الناتج المحلي، وتَعرقَل التصدير بسبب نقص الموادّ الأوّلية، وتوقّف تعديل الأجور بسبب وهم الدعم. وهكذا حُرِمت قطاعات كثيرة من فرصة تعديل أوضاعها. فمثلاً، ظلّت المدارس الخاصّة في حال من الشلل، في حين أنّه في حالة التعديل الطبيعيّ كان من المفترض أن ترتفع الأقساط وترتفع أجور المدرِّسين، وهكذا دواليك في كل القطاعات، وإن بسرعة متفاوتة.

وكان يمكن للبطاقة التمويليّة في هذه الحال أن تساعد في الفترة الانتقالية ريثما يكتمل التعديل. ولو أنّ سياسةً محترمةً من هذا النوع طُبِّقت لوُجِد لها التمويل من البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، بلا أدنى صعوبة، ومن دون اشتراط تشكيل حكومة.

يمكن الجزم أنّ تحرير سعر الصرف كان يمكن أن يبقي الدولار دون المستويات الحالية، لأكثر من سبب. إذ كان سيحرّر التداول، ويزيد الشفافيّة في سوق القَطْع، ويحدّ من نفوذ السوق السوداء، ويشجّع البنوك على المشاركة في تمويل الاستيراد، بدلاً من ترك أعبائه موزّعة بالكامل بين احتياطات مصرف لبنان وسوق الصرّافين الصغيرة والمتوحّشة.

إقرأ أيضاً: الدواء يلحق البنزين: الأدوية البديلة المهربة غير آمنة..

الأنكى أنّ النظام النقدي المريع القائم يجعل قدوم المغتربين (السائحين) صيفاً مشكلة إضافية بدلاً من أن يكون إنعاشاً للاقتصاد. فاستهلاك هؤلاء للكهرباء والبنزين والخبز يستنزف المزيد من الدولارات المدعومة، فيما تذهب دولاراتهم إلى الانتهازيّين وتجّار العملة، وتبقى خارج النظام المالي.

تأخّر التصحيح ليس بسبب الفراغ الحكومي، بل لفراغ في الشجاعة والمسؤوليّة، حتى اتّسعت الفجوة وبات ردمها صعباً ومكلفاً ومؤلماً، لكن مهما يكُن يبقَ التصحيح أقلّ سوءاً من هذا القتل البارد.

مواضيع ذات صلة

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…

لبنان بين ولاية الفقيه وولاية النّبيه

فضّل “الحزب” وحدة ساحات “ولاية الفقيه”، على وحدانية الشراكة اللبنانية الوطنية. ذهب إلى غزة عبر إسناد متهوّر، فأعلن الكيان الإسرائيلي ضدّه حرباً كاملة الأوصاف. إنّه…

الأكراد في الشّرق الأوسط: “المايسترو” بهشلي برعاية إردوغان (1/2)

قال “أبو القومية التركية” المفكّر ضياء غوك ألب في عام 1920 إنّ التركي الذي لا يحبّ الأكراد ليس تركيّاً، وإنّ الكردي الذي لا يحبّ الأتراك…